الأحد، 23 ديسمبر 2012

المقامة الصفراوية



                                                     المقامة الصفراوية
                                                                      عيد الأعياد
حدثنا الهلالي  فقال : أصابني ذات يوم الأرق ، وأسرني القلق ، من غلاء المعيشة ، وارتفاع أسعار "المطيشة "، وكذب الساسة ، واعوجاج الرياسة ، وكثرة الغطاسة والعطاسة في خم مولانا الرئيس، فضجرت ضجرا من تبادل الأدوار والضحك على الشعب والأخيار، وتمريغ رؤوس الرجال في وحل المزابل العمومية، وفي قمامات أثرياء الدولة الغمومية، فلم أجد لنفسي سبيلا سوى الخروج من الدار، والتوجه صوب الجار، وأنا ألعن أبو النار، الذي ورطني في الحديث عن الكبار. ولما اقتربت من الدار، ولم يبق إلا بضع أمتار، صحت بأدب حتى لا أنعت بالحمار...
- يا همام  ياهمام .. أخرج إلينا أيها  الجار.
فأجابني من الداخل : أقبل ياهلالي ، أشرق بمطلعك الهلال ، واستنارت بصورتك الأنوار، وتعطرت بمقدمك الأزهار، وتغنت بمقدمك الأطيار، فأهلا بك يا ابن الأبرار ....
 فصحت ناهرا : ويحك يا همام بن صعصعة أتحسبني جلف في قعقعة، ما حل بك اليوم ؟؟ ، أجننت أم تتجنى علي ؟؟؟
فرد ولسان حال يقول: أهلا بك يا حبر زمانه وعنترة أقرانه، إنك اليوم عندي حبيب، وأقرب من القريب، ومقامك الساعة كالطبيب، لقد جئت في الميعاد، وأنا أحضر لعيد الأعياد، الذي أقسمت أن يحضره الأشراف والأسياد، والعجائز والأولاد، وحتى الأنذال والأوغاد....
فقاطعته غاضبا : عيد الأعياد !! والله ما سمعت به قط، ولا أرى منك سوى الخلط والهذيان والنط، مابك يا رجل؟؟؟ أصابك اليوم مس؟؟؟ أم صاحبة قيس ؟؟؟.
  فرد على دون روية : والله إني لفي أحسن الأحوال، وأهنأ بال ، مذ بلغ سعر النفط مثقال، وارتفع العلف والغذاء، وشح الرئيس بالعطاء.... أما فرحي بعد ترحي فيعود إلى الوفاء بالنذر، الذي قطعته على نفسي. اعلم يا جاري ومكنون أسراري أني قطنت حي "القرابة" في دار أحد القرابة ، وأنت ترى الدار أية في الخراب والدمار، فآلاف الجحور بين حنايا الصخور، حوت الأفاعي ذات اللدغات والعقارب والحشرات وما لا يخطر على بال .. وأنت تعلم حالي، أشتري الدقيق بالمكيال والسكر بالأرطال، ولا تسأل عن البقية التي أصبحت من خبر كان...
   آه ياجاري الكريم سلط على "الزلط"  فصبرت ، والبرد فتحملت، والجوع فتضورت، والهم فتجملت، وقناة يتيمة فتعللت، وميرا منافقا فتململت، وواليا متملقا فتنكرت ، ووزيرا غائبا فتندرت، ورئيسا بعيدا عنا فتوكلت ... لكن لم يكن هذا مبلغ همي ولا مصدر غمي.
فقاطعته : ياهمام ما لي وهذا الكلام ، لقد سمعته مذ أيام وأيام ، فأوجز الحديث، وليكن خفيفا ظريفا، فما أسمع اليوم إلا قولا هزيلا ...
فأجابني ساخطا: الصبر الصبر، فالخطب فيما هو آت... فبالرغم من المصائب السالفة، وآرائي التالفة، وأحلام العزة الزائفة إلا أن مصيبتي  الكبرى تمثلت في كرب عظيم ، أفقدني العقل الرزين ، والصبر المتين، أغلى الدم في عروقي والثأر بين ضلوعي .. أنه خبيث لعين، مقيت مهين. أتلف قشي وقيّض عيشي  ، ثم خرب عُشي ، سرق الدقيق على قلته ، وخبزي بالرغم يبسه.... فكرت في أمره مرارا،  ونصبته له الفخاخ تكرار ، لكنها لم تنفع ولم تنجع ...
فصحت وقد نفذ صبري : ياهمام من يكن هذا اللعين ؟؟؟
فرد دون اكتراث : صه ، مه . لا تقطع حديثي يا هلالي، فالأخبار بنت الليالي... المهم مرت الأيام وأنا أقاسي منه الآلام، وقد جرعني كؤوس العذاب، وعلمني شعر الهجاء والعتاب... وذات يوم من الأيام من غير أمل ولا انتظار وقع المشرار، فلا تسألني عن الفرح والحبور وعن السعادة والسرور، لقد وقع اللعين الملعون أخيرا...
فسألت وقد حيرني أمره وشوقني مقاله : بربك ياهمام، وتالله وبالله، أخبرني من ذا اللعين ؟؟؟ أو ذا المسكين ؟؟؟
فرد كالعادة غاضبا ، منتشيا بنصره : على رسلك ما أعجلك !!! فما مقامك معي إلا كمقام موسى مع الخضر. أصبر فالصبر جنة والعجلة جِنة، ألا ترى أن الجزائر ضيعتها العجلة وأوردتها التهلكة.
  المهم يا جاري الكريم ، أني رفعت هامتي ، واعتدلت في قامتي، وتبخترت في مشيتي، ثم توجهت إليه، فنظرت إليه باحتقار ولوعة واحتسار. ثم شمرت عن ساعدي، وتناولت عصاي "مسعودة"، فالموت الأحمر أريد أن أسقيه، فلما اعتدلت للضربة القاضية قلت له: أيها اللعين !!! ألم تجد سوى هذا المسكين فتزيد غمه وتعمق همه، أين تركت كبار التجار ؟ المتلاعبون بالأسعار، المكدسون للدينار والدولار.. وأين تركت الأعيان وأصحاب الوجاهة من ملاك الآبار .. وأين تركت ربراب وأصحابه ، وعمار وزبانيته ، والعزيز وحاشيته ...!!؟؟
    وما إن أتممت الخطبة العصماء والبتراء حتى رفعت مسعودة عاليا ..... فسكت همام .... مما دفعني إلى السؤال والصياح : ثم ماذا ياهمام بن صعصعة ؟؟ هل قتلته ؟؟؟
فرد قائلا : كلا ورب الكعبة ما فعلت ، لقد فكرت في قتله شر قتلة ، لم تسمع بها العرب قاطبة من طنجة إلى اليمامة. لكني يا هلالي استحيت...
    فلم أتمالك نفسي وقد أسرني الرجل بخبره فقلت: يرحمك الله، أكمل حديثك... ومما استحيت ؟؟؟ وما جرى بعدها ؟؟
  فقال متحسرا: آه يا جاري، حال بيني وبينه ملك الشعراء. فقد استحيت من أبي الطيب المتنبي أن يصدق وصفه علي حين قال:
لقد أصبح الجرذ المستغير
أسير المنايا صريع العطب
رماه الكنـــــــاني والعامري
وتلاوة للوجه فــــعل العرب
كلا الرجلين أتـــــــــــلى قتله
فأيكما غـــــــــــــل حر السلب
وأيكما كـــــــــــــــان من خلفه
فإن به عضـــــــــــة في الذنب
                   
 وما إن أتم عجز البيت حتى كان جسدي على الأرض مُلقى من كثرة الضحك، وكاد أن يُغمى على مرتين. وشعرت ساعتها بالضجر قد ولى القهقرى. فقلت وغصة الضحك تكاد أن تقتلني: ثم ماذا حدث بعد ذلك يا صائد الفئران ؟؟
  اغتاظ همام من ضحكي الذي بلغ العنان، فنهرني نهرا .. ثم قال: اسمع أيها الغضنفر، لا تضحك على ما هو دونك فتلك مصيبة ، وأن شر البلايا أصلها المنبوذ ، ألم تر إلى النمرود قتلته ذبابة !! 
   أسمع لقد فكرت في أمره، وقررت إنجاده . فامتطيت صهوة حماري، وزادي أشعاري، وجهتي شركة عمار بالقرب من مزرعة نزار،  فلما وصلت قلت له: اسمع أيها اللعين، هذه الشركة دقيقها بالأطنان، ومن أجود الأنواع الحسان. وبها جرذان سمان، وقربك مزرعة نزار، فاتخذ لك عروسا وعش بأمان، ولا تعد لبيت رجل مثل "زمان". ثم رميته في الشركة وتمنيت له البركة، وعدت إلى الدار عفوا إلى الغار ولسان حالي يقول:
 
من مبــــــــلغ العزيز عني نصائح متوالية
إني أرى الأسعار أســــــــعار الرعية غالية
وأرى المكاسب نزره وأرى الضرورة قاسية

وسكت همام  عن الكلام اللامباح ، فاستأذنته للخروج ، وحال لساني يقول : لله درك ودر أبيك لا يبرح الساسة حتى يسمدوا . وخرجت من عنده بدون ضجر ولا كدر وعلى لساني بيت من الشعر:
                                       ومن يك ذا لب سيفهم  ** أن الألفاظ تخفي دوما معانيا

                                                                                                   عبد القادر بوعرفة
                                                                                            إلى اللقاء مع المقامة الصيفية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق