الجمعة، 22 سبتمبر 2017

التجربة الجمالية في الفن الإسلامي/ الأسس والمنطلقات



صدر في شهر سبتمبر 2017 كتابي الموسوم : التجربة الجمالية في الفن الإسلامي/ السس والمنطلقات
عن دار NOOR الألمانية
***************************
يتجه الفكر الحديث والمعاصر في زمن سلطة العلم ونزعة التّخصص نحو جعل كل حقل من حقول الفكر علما قائما بذاته، على غرار ما حدث في علم النّفس وعلم الاجتماع والسّياسة والاقتصاد... وعلى غرار ما سبق، حاول بعض المُتخصصين في الجمال أن يجعلوه علما قائمًا بذاته، يشترك مع الفن في المقدمات العامة غير أنّه يتميز عنه بقواعد ومعايير مختلفة، ومجالات خاصة، نظرا لأن الجمال حقلٌ أكثر تخصصا من الفن من حيث موضوعه الرّئيسُ وقيمه المتعالية، وذلك لارتباطه بالذّات كموضوع غير مفصول عن موضوعات الإدراك والذّوق.
     قد لا أكون ممن يناصرون فكرة القول بعلم الجمال* لأنّني أعتقد أن الجمالَ موضوعٌ متحررٌ من القيود والمعايير الضّيقة، فهو كالخيول البرية التي تَجِدُ طَبِيعَتَها في التّوحش، أو في صور الطبيعية التي تحتكم لمبدأ اللاّقانون، ومن جهة أخرى، لا تحتمل طبيعةُ الجمال التّقنينَ ضمن أطر إبستيمية أو قواعد عقليّة صارمة، أو أن يحكمها منطق سكونيٌّ كميٌّ.
      وأعتقد في هذا المجال بالذّات، بأن الجمال يفقد جماليته عندما يُصبح أسير المنهج والقاعدة العلمية، وأن معايير الحكم على موضوعاته تنفر من القيم الجاهزة، لأن القيّمة الجمالية قيمة ذوقية قبل أن تكون قيمة عقلية أو علمية. ومن ناحية أخرى، نجزم بأن العمل الفني يندرج ضمن مجال الممكن والمتخيل والواقعي، والممكن يعطي فضاءً من الحرية للفنان، مما يجعله يطلق العنان لمخيّلته وشعوره وحدسه، عندئذ لا يعترف بحدود ولا قواعدَ، بل يصبح الهدف هو التّعبير عن المعنى المُنْشَأ لحظة إدراكه إدراكا فنيا أو جماليًّا، وفق قاعدة الممكن والمُتخيل:" الاعتراف بمجال الممكن في العمل الفني يفترض كنتيجة حتمية الاعتراف بفضل المخيلة والإبداع الإنساني، وذلك ما لم يكن ممكنا في حدود بنية الثّقافة الإغريقية وفي حدود الأسلوب الذّي دشنه أفلاطون بالذّات"[1].
     يستأنس أنصار  علمنة الجمال بمقولة الفيلسوف الألماني فريديرك هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770- 1831)حين اعتبر الجمال علما من حيث هو رائج ؛ وهو  في الوقت نفسه فلسفة الفن النبيل، ويستدرك هيجل صعوبة المسألة حين يوازن بين جوهر الجمال وبين سلطة اللغة الرائجة في عصره؛ فيقول: " سوف نأخذ إذن بمصطلح الإستطيقا- ليس لأن الاسم لا أهمية له تذكر عندنا، وإنما لأن هذا المصطلح فاز بحقوق المواطنية في اللغة الرائجة، وهذه بذاتها حجة لا يستهان بها في تأييد الإبقاء عليه."[2]
غير أن المتأمل للرؤية الهيجلية في أغلب كتبه يدرك بأنه دوما ينتصر  لفكرة أن الجمال مُجرّد فن نبيل وأبعد ما يكون عن العلم المُسيّج بقوانين.
   قد تصبح في رأي كل الفنون والصّناعات ذات يوم علوما قائمة بذاتها إلا الجمال، لأن الإنسان في المستقبل لن يبقى له إلا الجمال وبعض جيوب الفن ليمارس فيهما بعض الحرية، ويختبر بهما وجود كينونته بعد أن طغت التقنية والعقل الأداتيّ على كل مضامين الحياة، وأصبحت فضاءات الحرية تتقلص بشكل مطّرد، وأصبح الإنسان سجينًا في الفضاء العام والخاص على السواء.




* - أول من اصطلح مفهوم "علم الجمال" هو المفكر الألماني ألكسندر غوتليب بومجارتن Alexander Gottlieb Baumgarten (1714 – 1762)، وقد حدد رؤيته في الثلاثية المشهورة:
- الجمال = المعرفة الحسية.
- الحق = المعرفة العقلية.
- الخير = القدرة الإرادية.
[1] - حمادي حميد وآخرون، سؤال المعنى، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران (الجزائر)، ط 1، 2005، ص: 10.
[2] - هيجل، فردريك، المدخل إلى علم الجمال، تر: جورج طرابشي، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1988، ص:21.

موسوعة المذاهب والفرق


صدر في هذا الشهر كتابي الموسوم: موسوعة المذاهب والفرق قراءة في تاريخ الملل والنحل في المغرب الأوسط (الجزائر)
عن دار الروافد وابن النديم بيروت /لبنان.
وسكون متاحا بالمعرض الدولي بالجزائر 2017.
*****************
حاولنا من خلال هذا العمل إنجاز موسوعة ميسرة مختصرة لأهم المدارس الفكرية والفرق الصوفية، والنّحل والملل، ومجمل العقائد التي ظهرت بالجزائر على امتداد الحقب التاريخية الممتدة من العهود القديمة والوسطى إلى الفترة الحديثة والمعاصرة.
واستثنينا من الموسوعة الأحزاب السّياسية والحركات الإسلامية المعاصرة لأننا سنخصص لها كتابا خاصا بها بإذن الله تعالى.
 لا نقصد بالجزائر الحدود الجغرافية المعترف والمتعارف عليهاحاليا عالميا، وإنما نقصد بالجزائر ذلك الفضاء الثّقافي الكبير الذي ينتمي وينصهر في الفضاء المغاربي الكبير وفي الفضاء العالمي الفسيح، فالأفكار تسافر ولا تعترف بالحدود، والمعرفة ليس لها مالك، والعلم ليس له دار أو قرار، وإنما هم جميعا مِلْكُ الإنسان الذّي يقرأ فينتمي، أو يَنْظر فينتقد، أو يكتُب فيوجد ويولد.
نريد من هذا المشروع الكشف عن أولى إرهاصات الفكر الفلسفي والدّيني في عصور ما قبل الإسلام، ثم التّعرف على أهل الكشف والتّصوف، ومجمل العقائد والدّيانات في العصور الإسلامية المتعاقبة.
وعملنا بعد ذلك على تصنيف المادة وفق تقاسيم العلوم والمعارف المعمول بها أكاديميا، مع ضرورة الإشارة إلى المذاهب والنّحل والفرق والملل في كل حقبة من حقب تاريخ الفكر الجزائري وتبيان جديدها ونقيضها، وتوضيح أهم ما أضافهأصحابها لحقول المعرفة الإنسانية، وذكر الخصوصيات الثقافية التي تميزوا بها عن غيرهم من فلاسفة ومتصوفة المشرق العربي والعالم الإسلامي. 

الاثنين، 14 أغسطس 2017

فقه النوازل المفهوم والحاجة الونشريسي أنموذجاً

أ.د بوعرفة عبد القادر

ارتبط الفقه بالواقع ارتباطاً ضرورياً، فالحكم الفقهي يُبنى في كثير من الأحيان على حادثة تكون سبب نزول النّص التأسيسي سواءً أكان وحياً أو سنة فعلية أو قولية أو تقريرية.
 
ويفرض ذلك الارتباط وجود حكمة إلهية في ربط الفتوى بالواقع والراهن، لأن الشبكة الاجتماعية تتغير من البسيط إلى المعقد، ومن البداوة إلى الحضارة، ومن الطبيعة البسيطة إلى المدنّية المركبة تركيباً سياسياً واجتماعياً..، عندئذ يصبح دور الفقه مواكبة العصر والتاريخ، وتيسير أمور البشر لا تعسيرها، وحمل هموم المواطن حملاً يعتمد على فقه الأولويات وتقديم المصالح والمنافع مع دفع الضرر وأسباب انحلال المجتمعات.
 
النازلة تُفهم على أنها الواقعة الشديدة من شدائد الدّهر تنزل على قوم دون سابق توقع، نستثني منها الوقائع الطبيعية كالزلازل والبراكين لأنها أمور من تقدير الله.
ومن خلال التقديم السّابق يكتسب الفقه حركية الاجتهاد والإنتاج، ويصبح الخلف أكثر حركية من السلف لاختلاف الواقع والعصر، فكل عصر يختلف عن سابقه بمتطلباته ونوازله، وكذا التحولات التي تطرأ على سلوكات البشر وأنشطة حياتهم، فتنشأ الحاجة دوماً إلى الفتوى ومعالجة نوازل العصر.

اشتهر بعض الفقهاء بفقه النوازل، حتى أصبح فرعاً من فروع الفقه الضرورية للمجتمع وسياسة الدولة، وقد برع أحمد الونشريسي في فقه النوازل سواء ممارسة أو تجميعاً، وسنحاول في هذه المقال معالجة النّوازل المرتبطة بمسائل التدبير السياسي في فتاوى وفكر الونشريسي.

1- النّوازل: المفهوم والحاجة
يتفق جل العلماء على أن مفهوم النّازلة لا يخرج عن معنى الواقعة التي تقع دون سابق ترصد، أي التي لم تخضع للتنبؤ أو التوقع أصلاً، ولقد جاء في التعريف اللغوي قولهم: النّوازل جمع نازلة حيث قال ابن فارس: النّون والزّاء واللاّم كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه.
قال ابن منظور "والنازلة: الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس" وهو التعريف ذاته الذي كتبه الرازي في مختاره "النازلة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس".
فالنازلة تُفهم على أنها الواقعة الشديدة من شدائد الدّهر تنزل على قوم دون سابق توقع، نستثني منها الوقائع الطبيعية كالزلازل والبراكين لأنها أمور من تقدير الله.
يصبح التّعامل مع النّازلة أمراً محيراً ومدهشاً لعدم وجود النّص الذي يُعالجها، فتدفع النازلة إلى السؤال عن حكم الشّرع فيها بناء على القياس أو الترجيح أو الإجماع.. عندئذ يتقدم العلماء لفهمها وتحليلها من أجل إصدار الحكم الفقهي الذي يتناسب معها، وقد وقع المسلمون في كثير من الحيّرة في بعض النّوازل التي نزلت بهم فلم يهتد العلماء إلى حكم فيها، فكان الخلاف والاختلاف سيد الموقف.

يُعرفها أهل الاصطلاح بتعاريف مختلفة، ففي القديم تطلق على شدائد الدهر التي تنـزل بالناس، أما في الحديث فقد عرفت النازلة بعدة تعريفات منها:
أ‌- الوقائع: وهي المسائل المستجدة والحادثة، ونستدل ذلك من خلال ما أُلف من قبل العلماء كعبد القادر أفندي (ت/1085) واسم كتابه "واقعات المفتين"، وكذلك كتاب "الواقعات" للصدر الشهير بابن مسعود.

ب- الحادثة: التي تحتاج إلى حكم شرعي. والقصد بالحادثة هي الأمر الذي يحدث للناس فيربكهم، ويراد بها الشيء الذي يقع على غير مثال سابق له، ومنها:
1- حوادث جديدة تقع لأول مرة، مثل: النقود الورقية، وزراعة الأعضاء. وتتطلب الفتوى لذا كان العلماء يطابقون في بعض الأحيان الفتاوى بالنّوازل، ويراد بها الأمر الذي يحتاج إلى فتوى. وهذا المصطلح مشهور في المذاهب الفقهية، فهم يطلقون على كتاب الفتاوى: "النوازل" مثل "النوازل الصغرى" و" النوازل الكبرى" للوزاني.

2- حوادث جديدة يتغيّر حكمها لتغير ما اعتمدت عليه من عرف.

3- حوادث اشترك في تكوينها أكثر من صورة من الصور القديمة.

ج- الظاهرة: وهي التي ترتبط بسلوك الجماعة البشرية وتقترن بالعمران، وتكون من نتاج السياسة، والاجتماع البشري، كالهجرة، التدخين، الإدمان،.. وتعتبر من فقه القضايا المعاصرة والمستجدة ويراد بها الأمور المتنازع عليها في الوقت الحاضر.

ومن خلال ما سبق يمكن القول أن النازلة هي "معرفة الحوادث التي تحتاج إلى حكم شرعي". وتلك المعرفة ليست بالهينة ولا بالسهلة، فهي تتطلب من المفتي والحاكم الدّراية بالحّال والأحوال، والعلم بالمدنية ومتطلبات العصر، ولقد قال ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين "الفائدة الحادية عشرة: إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون عالماً بالحق فيها أو غالباً على ظنه بحيث إنه استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أو لا، فإن لم يكن عالماً بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا يعلم".
 
ارتبطت مسائل الولاية والإمامة بحياة الناس، فما عُلم بالضرورة من الدين لا يشكل صعوبة في التعامل معه، غير أن النّوازل في المسائل السلطانية يستدعي النظر والاجتهاد.
ويطلق على العلم الذي يُعنى بالنازلة عدة مصطلحات معاصرة:
فقه الواقع: يعنى فقه الحياة التي يعيشها الشخص.

فقه المقاصد: ومقاصد الشريعة هي مولدة للنوازل، فالنوازل أحكامها تستنبط من مقاصد الشريعة وتعلل بها.

فقه الأولويّات: يعنى أن النازلة سواء كانت للفرد أو المجتمع فهي أولى بالبحث والاستقصاء وإبراز الحكم من غيرها، فهي من الأولويات في هذا الجانب.

فقه الموازنات: أي أن من أبرز الوسائل لإيضاح فقه النازلة؛ الموازنة بينها وبين ما يشبهها أو يقاربها.
ومنه يمكن القول إن فقه النّوازل هو معالجة إشكالات الرّاهن المعقد المرتبطة بالظواهر الاجتماعية والسّياسية للمجتمع، وتُعد الأمور السّياسية ومنتجاتها أكبر منبت للنّوازل لارتباطها بالمعاش والحركة والوعي والتعقل، وعليه أصبح فقه النّوازل يُمثل الدّراية المعرفية في مقابل الدّراية السّياسية.

2- شروط التدبير السياسي
ينطلق الونشريسي في التّدبير السّياسي من قاعدة أن الإمامة والولاية منصب رفيع المستوي، شريف الغاية، خطير التكليف، صعب التنفيذ، وأن الشّرع حث على تحقيقه بناء على ارتباطه بمصالح النّاس.

يفرض تولي الخلافة والولاية أن يكون القائم بالتّدبير السّياسي أهلاً لتلك المهمة الصعبة، لأن الإسلام دين متكامل وأن أعظم عراه الحكم في المعاملات والولايات والصلاة في العبادات، فإذا فسد الراعي فَسُدت الرّعية ونزلت النّوازل والوقائع على الأمة فلا تجد من يستطيع أن يجد لها حلاً، ولكي نُنقذ الأمة من مصير مأساوي كان من الأفيد أن يكون الحاكم متميزاً بالشروط "شروط الإمامة العلم والعدالة والحنكة والرأي المؤديان للمقصود واختيار من هو أصلح للناس وأقوم للصالح".
وارتبطت مسائل الولاية والإمامة بحياة الناس، فما عُلم بالضرورة من الدين لا يشكل صعوبة في التعامل معه، غير أن النّوازل في المسائل السلطانية يستدعي النظر والاجتهاد، خاصة أن عصر الونشريسي تميز بالاضطرابات والفتن وتولية الأمور لمن لا يحسنها ولا يستحقها أصلاً. وتُعتبر ولاية السّفيه أكبر النّوازل التي أصابت المسلمين في تلك الحقبة بالذّات مما جعل الونشريسي يحاول التّعامل معها تعاملاً فقهياً، من خلال إضافة شروط جديدة حتى تستقيم فتوى شروط الحاكم مع الرّاهن والواقع.

وعند دراسة الراهن السّياسي في زمنه، نعلم علم اليقين علّة الاشتراط الزّائد على ما كان في العصور الأولى سببه نوازل العصر من تولي السفهاء والزّناة واللّصوص مقاليد الولايات والإمارات والشّرطة، فنتج عن ذلك كثرة المظالم والنزاعات، وضاق بالنّاس العيش في القطر والمصر، فأحبوا الهجرة إلى بلاد الكفر وديار الحرب على البقاء في ديار الإسلام. ولعل الونشريسي ذاته أصابته تلك النّازلة تحت ظل الحكم الزّياني مما جعله يفر إلى مدينة فاس طلباً للأمان.

العمل الفني وجدلية الشكل والمحتوى

أ.د عبد القادر بوعرفة

نقر بأن أصعب الإشكاليات التي تصادفنا عند تناول المسألة الفنية هي جدلية الشكل والمحتوى، فالعمل الفني من حيث هو أثر عيني -بغض النّظر عن الصورة التي يتمظهر فيها- يحمل بعدين، الأول نسميه الشّكل والثاني المحتوى.

تذهب النّزعة العامة في الفن إلى اعتبار الشّكل هو العمل الفني، ولا يهم المحتوى والمضمون، فلكل إنسان الحق في تمثل الأثر الفني وفق ما يريد ويشعر ويهدف، ولذا يصبح الشّكل هو معيار جمالية الشّيء.

العمل الفني لا يجب أن يقف عند الشكل، فالإنسان ليس مجرد حيوان فحسب، بل هو فوق ذلك عاقل وشاعر ومسؤول.
نعتبر الشّكل هو الغالب والظاهر في العملية الفنية عن المحتوى عند أول ممارسة ذوقية للإنسان، لأن الشّكل يرتبط بالإحساس والواقع، فالشكل له قوة كبيرة في تحديد طبيعة العمل الفني، فقصيدة شعرية تُغنى وفق الطريقة البدوية التّقليدية لا يكون لها الأثر نفسه لو غُنيت وفق الطريقة العصرية، فالشكل له دور كبير في تحديد هُوية العمل الفني.

عندما نتأمل مثال الرسم بالخطوط الهندسية، نلاحظ مدى أهميه الشكل في توضيح العملية التعبيرية، فالشكل له علاقة مباشرة مع قوى النفس البشرية، وعملية إدراك المعنى والفكرة غالبا ما تعتمد على الشكل أولا " وليس من السهل رد جمال الشكل إلى جمال العناصر التي يتألف منها لأن من أشهر التجارب وأسهلها تلك التجربة التي تبين لنا كيف أن أبسط الخطوط يختلف تأثيرها في النفس باختلاف النسب بينها. ولو كان جمال الشّكل مرده جمال العناصر التي تكون منها لكان العامة محقين في اعتقادهم أن جميع المنازل المبنية من الرخام متكافئة في جمالها."

غير أننا نعتقد أن العمل الفني لا يجب أن يقف عند الشكل، فالإنسان ليس مجرد حيوان فحسب، بل هو فوق ذلك عاقل وشاعر ومسؤول، مما يجعلنا نقر أن المحتوى هو جوهر العمل الفني من حيث كون الفن رسالة مفتوحة وليس مجرد عرض عيني أُنْتج في لحظة تاريخية ما.

ينطلق أنصار الشكل من ظاهرة الجسد، فالجسد يُعبر عن الأنا تعبيرا دقيقا وفق لغة الشكل، كشكل الفم أو العين لحظة موقف ما، فالشكل يحدد ملامح النفس لأن التعبير الفزيولوجي لا يتحكم الإنسان فيه، يل يعود إلا الجسد الذي يعبر عنه من خلال التعابير الظاهرة على الوجه أو اليدين أو الصوت والنظرات. قال الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى في هذا المضمار: والود لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان.

مارس موريس ميرلو بونتي لعبة الجسد والكوجيتو، فهو يعتبر أن الجسد لغة أكثر صدقا من اللغة العادية، فهو لغز جميل، يحاول الفنان أن يستثمره كعمل فني ليظهر الأنا والجانب الآخر منها من خلال إيحاءات الشكل والمظهر: " واللغز ينحصر في أن جسمي هو في الوقت ذاته راء ومرئي.

إن هذا الجسم الذي ينظر إلى الأشياء كلها، يمكنه أيضا أن ينظر إلى نفسه، وأن يتعرف فيما يرى عندئذ على "الجانب الآخر" من قدرته الرّائية. إنه يرى نفسه رائيا، ويلمس نفسه لامسا، فهو مرئي ومحسوس بالنسبة إلى نفسه."

ومن خلال ما سبق، أعتقد شخصيا أن أروع الأعمال الفنية تلك التي استخدمت الشكل والأشياء اللاّملفوظة للتعبير عن القضايا أكثر عمقا والتصاقا بالإنسان "إن الفن ليس تشيدا أو اصطناعا أو علاقة بارعة مع مكان ومع مكان من الخارج. إنه حقيقة "الصرخة اللاّملفوظة".

لقد سبق المسلمون كثيرا من الفلاسفة حين ربطوا العمل الفني بثلاثية متكاملة، أولها الفكرة الخالصة التي تنبثق من الإدراك الخالص لماهية الموجودات، وثانيها المادة التي تشع من فيض الفكرة (الخشب، المعدن، الرخام، الصوت، الجسد...)، وثالثها الحدس الذي ينقل الذّات من الشّكل الفيزيقي إلى الباطن أو الدّاخل، فيجعل الذّات تتأمل الذّات والموضوع معا تأملا باطنيا.

لقد أصبح الإنسان المعاصر لا يُولي الشكل اهتماما بليغا، بل يحاول التقاط المحتوي مباشرة يقول لوفافر:" إن عصرنا، وهو عصر إلتقاطه مباشرة للمحتوى، وتعبير مباشر عنه، يستبعد ما هو ملتبس ذو مَعنيين، واليّوم ليس الأمر متعلقا بإبهام يُفسَّر على وجهين، أو بتضاد مُخصِب وإنما بتضاد لا حل له، تضاد مهدِّم يعمل في ضمير الفنان."

إن هذا التوجه نحو المضمون والمحتوى هو وليد الفلسفة المثالية التي تحاول قدر الإمكان جعل الإنسان كائن متعالي عن غيره، فالعمل الفني لو ربط بالشكل فقط يصبح لا معنى له، يوضح هيجل تلك الفكرة في قوله: "الشّجرة كلها محتواه في البلوطة حسب مثاليتها، عندما تنمو البلوطة لتصبح شجرة نرى أمامنا واقع البلوطة، والبلوطة، بكونها جرثومة هي المفهوم والشجرة هي الواقع. كل مفهوم للشجرة ممثل بما يكون جرثومها، فالشجرة ليست سوى تفسير للمفهوم، سوى هوية المفهوم والواقع."

ربط الفن بالحيّاة هو في ذاته ربط جميل وجليل، فلا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بما يُفرزه الفن من جماليات وجلاليات تنساب في الحياة كنسمات الربيع.
تجعلنا جدلية الجرثومة والبذرة والشّجرة ندرك تماما أن العمل الفني عمل مركب، وبما أنه كذلك نحتاج لفهمه حركة جدلية أصلا نصل من خلالها إلى إدراك المحتوى بعيدا عن أعراض وتجليات الموضوع: " لكي نفهم الفن، علينا إلقاء نظرة على المحتوى الكلي لوعينا، فنحن نجد في الدّرجة الأولى النظام الشّاسع الذي يتألف من الحاجات المادية تلك التي تعمل صناعات عدة على كفايتها، تضاف إليها التجارة والملاحة، والفنون التقنيّة، وفوق هذا يقوم عالم القوانين الحقوقية، وحياة الأسرة، والطبقات الاجتماعية، وعالم الدّولة الإضافي كله..

وفي النهاية نجد نشاط العلم وفعاليته ذات الفروع المتعددة والمتقاطعة وفي داخل هذه المدارات تُمارس أيضا الفعالية الجمالية "Entrecroisés Aesthetik"."

يعـتبر الفن هو الحياة في ذاتها، فالعيش لا يستقيم لنا إلا بتلك المسوح الجمالية التي يُضفيها البشر على ما يبدعونه من أثار فنية تدل على وجودهم، لأن الفن هو توقيع شهادة الحّياة والوجود، أو بصمة تاريخية يحاول من خلالها السّلف إثبات وجودهم للخلف. ويمكن في هذا المقام أن نستأنس بما قاله زكريا إبراهيم" وليس أدل على القيّمة الحضارية للفن ما نلاحظه في كافة المجتمعات من أن الفن هو بماثبة بلورة لكل نشاط المجتمع، وتركيز لطبيعة الحياة البشرية، وسجل صادق لوجدان النّاس ووعيهم بصفة عامة. وأن مجتمعا قويا باستعداداته الحربية أو إمكاناته الاقتصادية، ولكنه مفتقر إلى النّشاط الفني، لهو مجتمع ضعيف بالقياس إلى أدنى قبيلة بدائية تضم بين جنبيها مصورين، وراقصين، ونحاتي أصنام."

اعتبر الشيخ عبد الحميد ابن باديس الفن أحد مقومات الدين الإسلامي ومقاصده، فالإسلام حسب نظرته يقوم على:" الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة وإيمان وجمال، والعلم يُمثل القوة والفن يمثل الجمال."

ويبدو من خلال مقولة عبد الحميد بن باديس بأن الرجل يؤمن كون الفن هو كل ما يُمثل الحيّ الجميل (الله) والجميل الحي (الإنسان)، فربط الفن بالحيّاة هو في ذاته ربط جميل وجليل، فلا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بما يُفرزه الفن من جماليات وجلاليات تنساب في الحياة كنسمات الربيع وهي تداعب أديم الأرض بعد أن أثقله صقيع وزمهرير الشّتاء.

الفعل: تأثيل الماهية وتطويع التاريخية

أ.د عبد القادر بوعرفة

كل محاولة لتأثيل الفعل ضمن الحقول الدّلالية يفرض القول بأن الفعل ليس مجرد حركة جسمية، بل هو تصور يحمل دلالات وإشارات، ويحمل أيضا رؤى وتصورات، قد تبدو لكثير من النّاس بسيطة وسطحية وعادية، غير أن تحليل الفعل يقودنا إلى تمثل عدة أفكار فلسفية، ويجب أن نمارس الحذر الإبستيمي عند دراسة الأفعال البشرية، يقول هاري فرانكفورت: "إن المعنى الذي نطلقه على أفعالنا بناءً على الحالات والأحداث التي تعتمد على ممارسة قدرات أعلى لدينا، يجب أن لا تقودنا إلا المبالغة في خصوصية ما يفعل البشر. نحن بعيدون كل البعد عن فهم كونها فريدة من نوعها سواء في تحديد سلوكياتنا أو في قصديتها."

فلسفة الفعل لا تنحصر فيما هو سببي أو مادي، بل تتعداه إلى ما هو مجازي افتراضي، فالقول فعل ناقص من حيث الصوت، ولكنه فعل كامل من حيث هو تعبير عما فوق حركة الجسد.
يجعلنا البحث الإيثمولوجي نردّ مصطلح فعل إلى جذره اللغوي ف.ع.ل، فهو فعل ثلاثي يدل في لسان العرب على معان ودلالات عدة، فهو كناية عن كل عمل متعد أو غير متعد، يأتي بمعنى: أنجز، عمل. يقابله في الرومانية مصطلح "Actus" الذي يُعبر عن كل ما هو حركي، باعتبار أن الفعل عملية تغييرية في موضوع الفعل ذاته، وأساس التّغيير هو الحركة. ويعتبر الأكتوس نعتا كاملا لفعل الأنا، من حيث هو تمام الحركة، مع العلم أن استعماله أول حمل معنى السّلبية. ثم استعمل هذا المصطلح من قبل رجال القانون الرومان ليدل على الطريق، أو على من لديه الحق في الطريق، كما دلت على الفعل الجرمي الكامل.

تحول الأكتوس من معناه ونعته السّلبي، إلى معنى حركي يدل على معنى الفعل الذي يمضي قُدما، أو على الذي يمارس نشاطه بإحكام، مثلما يعمل الممثل على تأدية دوره على خشبة المسرح. وقد نستنتج ذلك من مقولة أرسطو عندما وصف الإله بالمحرك الذي لا يتحرك، فهو فعّال لما يريد، وفي فعله المطلق تحدُث الأشياء كما يريدها على الصيغة التي يريدها، غير أنه في اعتقاد أرسطو لا يتحرك، لأنه لو جاز عليه فعل التّحرك لجاز عليه فعل التغيّر، ولأصبح هو ذاته موضوع الفعل، فيفقد بذلك صفة الربوبية.

ويحمل مصطلح الأكتوس أيضا معنى "Agere يساوي Agō" الذي يدل على معنى النشاط الدؤوب، سواء من حيث دفع الفاعل إلى فعل الشيء، أو قيام الذّات بفعل الشيء من تلقاء نفسها. ننظر للفعل الإنساني غالبا على أنه هو الفعل الإرادي بالذّات والصفات، والذي يُحققه الكائن الحر العاقل، ويصبح بذلك الفعل فعلا عَيْنِيا وخُلقيا، فهو عَيني لأنه يظهر معنى وجودي لكينونة الإنسان من حيث هو فاعل، ويدل الفعل على أنه موجود وجود تعيّن في الوجود المُعيّن الذي يرمز له بهناك، ويصبح الفاعل (الإنسان) هو الذي يرمز له بهنا (أنا)، ومن خلال المقابلة بين الهنا والهناك تتبلور علاقة تشاركية بين الفاعل وموضوع الفعل الذي هو الوجود من حيث هو موجود على ما هو وبما هو عليه.

يصبح الفعل من حيث الحمولة الوجودية موضوعا للفلسفة من حيث الفاعل المُتمثل لإشارة الهنا والفاعل المُوصوف بالهناك، وبين الواجد والواجب، وبين الرجاء واليأس، وبين الفناء والبقاء، وبين الموت والحياة، وبين الشقاء والسعادة، وبين الإرادة والرغبة، وبين المصير والقدر.. عندئذ يصبح الفعل الوجودي فعلا يحمل بعدا فلسفيا، يحتاج من فاعله اعترافا أنطولوجيا بصميميته، ومن المفعول به اعترافا بحدوثه.. ولا نقصد بالمفعول به كائنا ما، بل هو كل من يقع عليه الفعل الوجودي، فصخرة زيزيف اعترفت من حيث المجاز السردي بتمرد زيزيف، وأطلال امرؤ القيس اعترفت مجازا بوقوفه باكيا أو شاكيا. وعلى هذا الأساس تصبح فلسفة الفعل لا تنحصر فيما هو سببي أو مادي، بل تتعداه إلى ما هو مجازي افتراضي، فالقول فعل ناقص من حيث هو حركة اللسان فقط أي الصوت، ولكنه فعل كامل من حيث هو تعبير عما فوق حركة الجسد.

ميز قديما أرسطو بين الفعل الإرادي، والفعل الإكراهي، منطلقا أن أساس الفعل هو الحركة، فالفاعل محرك من حيث هو يتحرك، لأن علة وجوده في تحريك الأنا وتحريك الأشياء، ولقد وضع لحركة الفعل مجالا، فلكل فعل من حيث هو حركة نقطة إفراط وأخرى نقطة تفريط، وعليه يصبح الفعل السّوي هو الذي يتوسط النقطتين، فالمتجول أو الماشي يكون فعله فعلا واعيا إذا كان فعل حركة المشي معتدلا، فالمشي يصبح عندئذ متعةً ولذةً لكون الفاعل هو من يتحكم فيه أصلا، ولكن إذا تحول فعل الحركة إلى مشي بدون قصد سينتهي إلى الألم، أما إذا قل أدى إلى الخمول، وهذا يعني خلل في الإرادة، ويصبح المشي عندئذ شقاءً.

يرفض أرسطو تسمية الفعل بالإرادي عندما يحصل تحت الضغط، أو في حالة الجهل. ويعطي أرسطو مثالا، فرمي حمولة السفينة في البحر بسبب العاصفة لا يعتبر فعلا إراديا، حيث يرى أن في المطلق لا أحد يتخلص من ملكه بإرادته. ولكن عندما يكون المقصود نجاته شخصيا ونجاة رفاقه، فإن هذه الأفعال تصبح مركبا من الأفعال الإرادية واللاإرادية، فهي تشبه الأفعال الإرادية لأن من يفعلها اختارها بحرية في اللّحظة التي أتمها بها. ذلك أن غاية الفعل تتغير مع تغير ظروف الزّمن، ولذا يقترح أرسطو في حالة وصف فعل ما باللّإرادي أو بالإرادي أن نعود إلى دراسة اللّحظة التي تم فيها هذا الفعل أصلا.‏‏ كل فعل إرادي يجب أن يكون فعلا واعيا من حيث هو قائم، فالإنسان الذي يفعل، يعترف ضمنيا بأنه هو الفاعل، ولا يمكن أن يعترف بذلك إلا إذا كان مستطيعا، ولا يكتمل الفعل الإرادي إلا إذا كان الإنسان مقتدرا على الفعل.

‏لا تكفي الإرادة في تصميم الفعل الإنساني الكامل، بل يجب أن يكون الفعل مقترنا بالذات لحظة اختيار قرار الفعل، فالذات التي لا تستطيع الاختيار بين متقابلين على حد السواء إما بالترك أو بالتنفيذ، لا تعد ذات فاعلة، وذلك من مقتضيات فعل العزم في القرآن الكريم، فآدم لم يكن له عزم في اتخاذ قرار الأكل من عدمه، لأن لحظتها كان فعله تحت إكراه الغواية.

تكمن مشكلة الفعل في التّباين الحاصل في تفسير ما تقوم به الأنا وبين ما يُحدثها وما يحدث لها، وبين الحركات الجسدية التي تحدث دون إرادتها، فوفقا للنظريات السببية، فإن طبيعة الفعل دائما تمثل أوسع المقاربات من أجل فهم هذا التباين، فإن الفرق الجوهري بين الحدث من هذين النوعين هي التي يمكن إيجادها في تاريخ ما قبل العلية: حركة جسدي هي فعل، وهذا الفعل ينتج من عدة سوابق من نوع معين، وإصدارات مختلفة من المقاربات السببية قد تنتج أنواعا من الأحداث أو الحالات والتي يجب أن تكون سببا في إنتاج الفعل.

بيد أن الفعل هو الذي يتمثله الإنسان في لحظة وعي وقصد، ويعبر عنه بمفردات توضيحية: أنا أفعل الشيء لأني أريده، أرغب فيه... وتعكس هذه الصيغة القولية العلاقة الموجودة بين الحالات العقلية والأحداث والأفعال. وهذا الربط ينفر من النظرة التقليدية التي تربط الأفعال بالعلية أو السّببية أو بالقواعد العامة، بل هي تربطها بالقصد والوعي من حيث نية القيام بالفعل، وتربطها أيضا بقرار من العقل لفعل الشيء.

الخطاب الديني وإشكالية التفسير والتأويل

أ.د عبد القادر بوعرفة

ساد اعتقاد لدى الشعوب القديمة أن الإله يجتبي من بين خلقه من يكون وسيطا بينه وبين مخلوقاته على السواء، فكان الاجتباء مبنيا على جملة من الصفات والشروط استأثر بها سدنة المعابد والكهنة، وقبلهم السحرة والمشعوذين في المجتمعات الطوطمية.

وبُنيت فكرة الوسيط البشري على فلسفة أسطورية محضة، ترتَكن على أن الإله (لا نقصد به الله أو الرب وفق مفاهيم الديانات السماوية المشهورة) كلامه ليس ككلام البشر وإن كان بلسانهم وألفاظهم، بل عين كلامه تكمن وراء اللفظ، والذي بالضرورة لا يعرفه إلا الكاهن أو السادن، فالإله لا يلقى بحكمته إلا لمن ارتضاه صاحبا وترجمانا.

ارتبطت وظيفة الوسيط بممارسة السلطة والسيادة، ولازلنا ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين نلاحظ استمرار الوسيط الأسطوري في أبجديات الجماعة البشرية.
عندئذ يصبح السادن هو الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، والآخرون بحكم عدم الاجتباء والاصطفاء عليهم التصديق والتسليم بما يقوله من أقوال أو أحكام على لسان الإله.

ويصبح صاحب مقام التفسير "كلام الإله" الحاكم والمتسلط والسيد، والآخرون العبيد والخدم، هو صاحب الأمر والنهي، وهم أهل الطاعة والامتثال..

إن الدراسات التحليلية تؤكد بأن المقام السلطوي الذي حصّله الوسطاء "نستثني الرسل والأنبياء" بالمكر والخديعة كان يُدر عليهم بالأموال ما يفوق تصورهم، ومنه أصبحت السلطة منذ القديم تقوم على احتكار المعرفة لجني المال والمراكز الحساسة، ثم تحولت في العصور المتأخرة بفعل المؤسسات والمدارس إلى علم أو فن لفهم النصوص وتجاوزها.

لقد ارتبطت وظيفة الوسيط بممارسة السلطة والسيادة، ولازلنا ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين نلاحظ استمرار الوسيط الأسطوري في أبجديات الجماعة البشرية، ففي الأمة الإسلامية لازال أهل القبور من الأولياء يمثلون الوسيط السحري بين العبد والله، ويؤمن الناس بقدرتهم على الوساطة لدى الله رغم كونهم أمواتا ورفاتا .. وبالرغم أن تلك الظاهرة ليست من الإسلام (التوحيد) إلا أن المخيال الاجتماعي عبر الطفرة الطوطمية لم يتخلص من أولى معتقدات البشر، ومن أولى تصورات مغامرات عقلهم البدائي.

لقد استطاع العقل الأسطوري أن يؤسس عن طريق الأسطورة فلسفة تُبين ميلاد الوسيط الأسطوري ضمن أحداث خرافية، فأسطورة هرمس تعكس ذلك بكل وضوح، فالإله شاءت حكمته و عنايته أن لا يترك البشر دون تعاليم ومعرفة تنير دروبهم في الحياة، وبما أنه متعالِِ عنهم تعال مطلق (ترنسندانتالي) فلا يجوز في حقه أن يكلمهم تكليما، أو أن يوحي إليهم وحيا، بل تقتضي العظمة أن يختار من بين عباده من يكون همزة وصل بينه وبين مخلوقاته، وبالتالي اختار الإله هرمس كوسيط، لأنه الوحيد القادر على تأويل كلامه، وهو ليس بالمُؤول بالمعنى المعاصر بل هو المترجم والشارح لكلام الإله.

إن اليونان كمجتمع وثني جعلوا من هرمس القاعدة الإبستمية للخروج من أطر النّص المُسيج، إنه فتح لباب التأمل والتعقل أمام اللوغس اليوناني (Logos/ Λούος)، بحيث يجب أن يتفاعل اللوغس مع النص تفاعلا خلاقا، فهرمس ليس بالشخص الأسطوري فقط بل هرمس هو اللوغس في تجليات حركة الإنسان العاقل.

استطاع هرمس رمزيا أن يُحقق ضمن مجال الثقافة اليونانية منحيين مختلفين :المنحى الأول يكمن في أن المُؤهلَ لفهم النّص الإلهي هو المتحكم والسيد، لأن المعرفة تغدو سلطة والسلطة معرفة في بعض الأحيان، ولذلك كان أغلب الملوك والأباطرة تحت سيطرة الكهنة والسدنة من باب هذا المنطق.

أما المنحنى الثاني فيكمن في قدرة المفكر اليوناني على إخراج هرمس من المعبد إلى مجال الفلسفة، وأصبح الفيلسوف من خلال اللوغس هو هرمس الحقيقي، وبذلك انقلب الفكر اليوناني رأسا على عقب.وكان النجاح الباهر للهرمينوطيقا القديمة في مجال تأويل وشرح النصوص الدينية والشعرية الكبرى التي حبلت بها الملاحم والتراجيديا اليونانية، والتي حاول "جون بيبان Pépin" أن يربطها بالتفسير والتعبير ثم الترجمة.

أصبحت الهرمسية مرتبطة في الفكر اليوناني بتأويل النص الديني، وارتبطت بفلسفة اللغة وعلوم اللسان، وعُرفت بالهيرمنونيطقا، والتي نلاحظها اليوم تكتسي طابعا غير الذي نشأت فيه أول مرة، وتكتسح من جهة أخرى أغلب الدراسات اللغوية واللسانية. كما انها ترعرعت ضمن الفضاء الكنسي "ومصطلح الهرمينوطيقا في الأصل مصطلح مدرسي لاهوتي، كان يدل عند نشأته الأولى على ذلك العلم أو النظام المعرفي الذي يحكم عملية تفسير "الكتاب المقدس Scripture" أو "النصوص الدينية Exegesis" التي قد تتطلب فهما وتفسيرا بسب غموض معناها الذي نشعر إزاءه بالاغتراب، على أن يصبح هذا المعنى مقبولا ومنسجما مع العقائد الإيمانية."

لم يبق الوسيط مجرد خرافة أو حدث أنتجه المخيال الأسطوري، بل تحول الوسيط في الفكر الديني -أو ما يسميه إدموند بيرنال "عصر الإيمان"- إلى معتقد يتطلب وجوب الإيمان به، فالنبي أو الرسول في الديانات الشرعية هو الوسيط بين الله والعباد، ويكتسب الرسول والنبي قدرة خلاقة على تبليغ الوحي (كلام الله) أولا، ثم قدرة فائقة على شرحه وتبسيطه للخلق.

أهل حق اليقين، هم أهل العرفان من اجتهدوا في عبادة الخالق فوصلوا عن طريق المجاهدة والعبادة إلى معرفة حقائق النَص المخفي وراء اللفظ.
فالله قسم الحكمة إلى ثلاثة أنواع:
1- حكمة اليقين: أهل العقل .
2- حكمة حق اليقين: أهل العرفان .
3- حكمة عين اليقين: أهل الرسالات.

فمقام النبوّة والرسالة يُمثل عين اليقين، لأن الوسيط مُصطفى من قبل الله، والله لا يصطفي من خلقه إلا من هو أحق بذلك التكليف والتشريف معا، كما أن شرح كلام الله من قبل النبي إنما هو شرح باللسان فقط، أما المعنى فهو من الله، وبالتالي لا مجال للاجتهاد .

أما أهل حق اليقين، فهم أهل العرفان من اجتهدوا في عبادة الخالق فوصلوا عن طريق المجاهدة والعبادة إلى معرفة حقائق النَص المخفي وراء اللفظ، ووصلوا إلى هتك حُجب الظاهر، فذاك هو التأويل. ولا نقصد الصوفية ولا أهل الطرق، فكثير من الصوفية وصفوا أنفسهم بأهل العرفان وهم أبعد خلق الله عن الحق والمعرفة، وإنما نقصد الراسخون في العلم كسيدنا الخضر وغيره من المؤمنين.

أما أهل اليقين فهم أهل العقل والبرهان، فهموا النص من خلال حركة العقل والتجربة، وقاسوا الأشياء بنظائرها، والوقائع بتواريخها، وحاولوا أن يقيدوا النّص بالكلام وبنية الخطاب، وذلك هو التفسير.

ومن هذا التقسيم يتضح أن النص يخضع من حيث فهمه إلى ثلاث مستويات رئيسة، مستوى يفرض التسليم بالشرح المقدم له باعتبار أن الشارح مُلهم من قبل الله -النبي أو الرسول-، ومستوى نقبله قبول الإبداع باعتباره حالة وجد وخبرة فردية، ومستوى نحمله محمل الاجتهاد.

ومن خلال هذا المستويات الثلاثة، يصبح كل إنسان يحمل صفة هرمس مادام ينخرط في حركة فهم النص (الوحي).

نحو مشروع الغرقد

 أ.د عبد القادر بوعرفة

نقرأ عبر تاريخ القدس التليد ملحمة الهُوية وصراع الطوائف والأديان، وأسطورة الحياة بعد كل موت، فهي كطائر الفنيكس "العنقاء" ينبعث من تحت الرماد أكثر قوة وصلابة. كما نكتشف عبر التاريخ العريق أن القدس مدينة الله بالمعنى التام للكلمة، فلا "العبرنة" ولا "العربنة" تستطيع أن تسلبها صفة مدينة الله السلام المؤمن. إنها ليست مدينة داوود ولا عيسى ولا محمد عليهم السلام، بل مدينة من أرسل كل هؤلاء بدين الحق وكلمة السّواء.

يتعين على حملة مشروع نصرة القدس التّعالي عن المنطق الذي يروج له أنصار القومية، سواء العربية أو العبرية، فنصرة القدس يجب أن تنطلق من مسلمة ربانية تتمثل في كون القدس مدينة الله. ولتأسيس تلك المناصرة يجب رفض الطرح العبري القائم على تهويد القدس من خلال محاولة عَبْرنتها زورا ببعض آيات العهد القديم، ومن ذلك مثلا تسميتها ب:"مدينة داوود":2 صم، 5:7، أو "مدينة صهيون" مزامير48:13. وفي المقابل نرفض عَرْبنتها كما جاء في أطروحات أنصار القومية العربية، والشاهد الحصري قول اللواء الركن يسين سويد: " القدس عربية الأصل والمنشأ، أسستها قبائل عربية من (اليبوسين) هاجرت إلى أرض كنعان من جزيرة العرب.".
آية النّصرة تكمن في شجرة الغرقد، بالرغم من اعتقادنا نحن المسلمين أنها شجرة خبيثة لكونها كما جاء في الحديث شجرة اليهود، ولكن وجودها دليل على زوال بني إسرائيل من مدينة الله.
نعتبر أن النُّصرة تلغي النَّعرة، فالنّعرة ضيقة المجال والفكرة، لكونها لا تحمل البعد الإنساني والإسلامي في الوقت نفسه، بيد أن مفهوم النّصرة جامع مانع، ينهل من المنهل الإنساني والشرعة الإسلامية الحنيفة. وننطلق عند نصرة القدس من الطرح الذي انطلق منه صلاح الدين الأيوبي، حين اعتبرها مدينة السلام والأديان السماوية كلها، وأنها تخضع لسلطة الدولة والأمة الأكثر قدرة على حماية كل المؤمنين بالله وإن اختلفت معتقداتهم، فهي المدينة الجامعة. وعلى هذا الأساس سلمنا بأنها مدينة الله فحسب، وأن الأمة التي تُحقق رسالة الله هي الأحق بخلافتها وتعميرها وحراستها. ونستثمر الشواهد الدّينية التي تؤكد المسلمة السالفة، فلقد جاء في العهد القديم ما يلي

- "مدينة الله" مز 46و87:3.
- "مدينة إلهانا" مز 48: 2و9.
- "مدينة رب القوات" مز 48:9.
- " مدينة الرب" مز 101:1.

ويأتي ذكر القدس في القرآن والسنة دوما باسم المدينة المباركة من قبل الذات الإلهية، ومقامها لا يجاريه مقام لكونها مقام الأقصى الشريف: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" الإسراء: الآية 1. وقوله تعالى على لسان نبيه موسى: "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ " سورة المائدة: الآية 21 - 22.

ودلالة قدسية القدس ومسجدها الأقصى تكمن أيضا في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي. متفق عليه. ستظل هوية القدس عبر التاريخ مدينة الله، وترفض بإباء كل من يريد أن يهودها أو ينصرها أو يؤسلمها، فهي مدينة المؤمنين وقبلة الموحدين، مدينة الكل المختلف، تطيع فقط الطائفة التي تحقق التناغم وفكرة العيش معا، وتبارك من يعانق بين المعابد والمساجد، ويدافع عن تبرها وترابها، إرثها وتراثها، وتتنصل من كل من يريد أن يسلبها هوية التّنوع والاختلاف وأن يسميها باسمه أو دينه أو طائفته التي تأويه.
ولتأسيس تلك المناصرة يجب رفض الطرح العبري القائم على تهويد القدس من خلال محاولة عَبْرنتها زورا ببعض آيات العهد القديم، ومن ذلك مثلا تسميتها ب:"مدينة داوود".
تَعلم الخليفة الفاروق الدّرس فحفظه وطبقه، إذ جعل القدس مدينة الأديان والسلام، فتعايش المسلم مع النصراني واليهودي تحت سقفها، ولم تنقطع فلول الحجيج... إلا في زمن التّهويد والتّصهين. تتعرض القدس اليوم إلى خطر فقدان الهوية كينونة وجودها، إن فقدان تلك الكينونة معناه فقدان الوجود الحضاري والتاريخي... فالقدس لا تتعرض فقط لخطر فقدان الهوية بل إلى خطر فقدان الوجود. لأن تهويد القدس يسلبها الصفة الجوهرية في تعريفها، إذ لا يبقيها مدينة الله بل يحولها إلى مدينة داوود من جديد.

والمنظومة التربوية اليهودية مشبعة بالأفكار دانيال باسيس مؤسس رابطة الدفاع اليهودية والتي تحاول جاهدة البرهنة على:" وثيقة تمثل دعاوى قمة الغلو الصهيوني... كتبها مؤسس هذه الرابطة دانيال باسيس، وفيها كل الدعاوى التي يستندون إليها في أن القدس يهودية ولا علاقة لها بالإسلام، ولا مكانة لها في حياة المسلمين منذ حياة رسول الإسلام وحتى الحقبة الراهنة."

نحن نعلم جيدا أن التهويد لا يمس فقط ما فوق الأرض بل ما تحت الأرض، وهنا تكمن أزمة هويتها، إن حاللتها شبيهة بالإنسان الذي فقد أناه الاجتماعي والنفساني معا، فلم يستطع أن يحدد لذاته معالم شخصيته. إن خطر التهويد يفرض كل أشكال المقاومة المتاحة من أجل نصرة القدس، وأول شكل ممكن في الوقت الحالي يتمثل في المقاومة بالتفكير قبل يوم التحرير المنتظر. والتفكير لا يخرج عن رسم إستراتيجية النّصرة انطلاقا من مقومات الحاضر وصور الماضي، ونحن في هذا المضمار تصورنا مشروع النصرة من خلال الأفكار التالية:

1- الاستراتيجية المؤقتة
يقتضى التفكير في نصرة القدس البحث عن الحلول والمشاريع التي بفضلها يمكن أن ننصر القدس نصرا استراتجيا، ونحن نعلم أن أفضل الحلول غير متاحة في الحقبة المعاصرة، ونقصد الحل الأيوبي التحرير الذي لا يمكن أن نُنظر له اليوم لمسوغات موضوعية، لكننا نظل نؤمن بأنه الحل الأمثل للقدس. ولكي لا يتحول الحلم الأيوبي إلى عائق مشل لنصرة القدس، فإننا اليوم مطالبون بالتفكير في حلول استراتيجية تضمن للقدس البقاء في الضمير والشعور والذاكرة.. وتُؤمن لها في المقابل النصرة والنعرة.. وتجعل منها قضية الأحرار في كل بقاع العالم..
تَعلم الخليفة الفاروق الدّرس فحفظه وطبقه، إذ جعل القدس مدينة الأديان والسلام، فتعايش المسلم مع النصراني واليهودي تحت سقفها، ولم تنقطع فلول الحجيج... إلا في زمن التّهويد والتّصهين.
إن القدس تاريخ وعقيدة.. ومدينة الله بدل مدينة داود وسليمان.. ولكي ننصر القدس نصرا استراتيجيا نقترح على العموم مشروعين للمواجهة والتّدافع، الأول نسميه بمشروع "الغرقد الصغير"، تفرضه مرحلة الضَّعف والتشّتت، ويكون بمثابة مشروع للمجتمع المدني والأنتلجنسيا العربية والإسلامية الفاعلة، وهو كما يقول د. محمد عمارة: "ولأن هذا هو مقام القدس في عقيدة الإسلام والمسلمين في التاريخ الإسلامي... ومكانتها في الدولة الإسلامية... فإننا يجب أن نتعامل معها، في هذا الطور من أطوار الصراع التاريخي حولها وعليه، باعتبارها أكثر من قطعة أرض...".

إن اختيار تسمية مشروع المواجهة بالغرقد يعود للرمزية المقصودة التي يحملها المخيال الإسلامي، والمشبع بلحظة الأمل والانعتاق من هيمنة اليهود، وآية النّصرة تكمن في شجرة الغرقد، بالرغم من اعتقادنا نحن المسلمين أنها شجرة خبيثة لكونها كما جاء في الحديث شجرة اليهود، ولكن وجودها دليل على زوال بني إسرائيل من مدينة الله.

ونحن لا يهمنا نص الحديث بقدر ما يهمنا توظيف المخيال كرأسمال ثقافي في صناعة فعل تحرري، لأن حديث الغرقد يؤطر في ذهن المسلم شحنة الانتظار الإيجابي، واليهود استثمروا أسطورة مملكة الرب الكبرى لدفع المجتمع اليهودي نحو صناعة الوعد والتمكين للعهد. ونحن بدورنا لا بد أن نستثمر كل الأشياء والأفكار التي من شأنها أن تساعدنا على تحريك المسلمين نحو تحقيق العالمية والشاهدية الثانية. يتبع...