الاثنين، 14 أغسطس 2017

فقه النوازل المفهوم والحاجة الونشريسي أنموذجاً

أ.د بوعرفة عبد القادر

ارتبط الفقه بالواقع ارتباطاً ضرورياً، فالحكم الفقهي يُبنى في كثير من الأحيان على حادثة تكون سبب نزول النّص التأسيسي سواءً أكان وحياً أو سنة فعلية أو قولية أو تقريرية.
 
ويفرض ذلك الارتباط وجود حكمة إلهية في ربط الفتوى بالواقع والراهن، لأن الشبكة الاجتماعية تتغير من البسيط إلى المعقد، ومن البداوة إلى الحضارة، ومن الطبيعة البسيطة إلى المدنّية المركبة تركيباً سياسياً واجتماعياً..، عندئذ يصبح دور الفقه مواكبة العصر والتاريخ، وتيسير أمور البشر لا تعسيرها، وحمل هموم المواطن حملاً يعتمد على فقه الأولويات وتقديم المصالح والمنافع مع دفع الضرر وأسباب انحلال المجتمعات.
 
النازلة تُفهم على أنها الواقعة الشديدة من شدائد الدّهر تنزل على قوم دون سابق توقع، نستثني منها الوقائع الطبيعية كالزلازل والبراكين لأنها أمور من تقدير الله.
ومن خلال التقديم السّابق يكتسب الفقه حركية الاجتهاد والإنتاج، ويصبح الخلف أكثر حركية من السلف لاختلاف الواقع والعصر، فكل عصر يختلف عن سابقه بمتطلباته ونوازله، وكذا التحولات التي تطرأ على سلوكات البشر وأنشطة حياتهم، فتنشأ الحاجة دوماً إلى الفتوى ومعالجة نوازل العصر.

اشتهر بعض الفقهاء بفقه النوازل، حتى أصبح فرعاً من فروع الفقه الضرورية للمجتمع وسياسة الدولة، وقد برع أحمد الونشريسي في فقه النوازل سواء ممارسة أو تجميعاً، وسنحاول في هذه المقال معالجة النّوازل المرتبطة بمسائل التدبير السياسي في فتاوى وفكر الونشريسي.

1- النّوازل: المفهوم والحاجة
يتفق جل العلماء على أن مفهوم النّازلة لا يخرج عن معنى الواقعة التي تقع دون سابق ترصد، أي التي لم تخضع للتنبؤ أو التوقع أصلاً، ولقد جاء في التعريف اللغوي قولهم: النّوازل جمع نازلة حيث قال ابن فارس: النّون والزّاء واللاّم كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه.
قال ابن منظور "والنازلة: الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس" وهو التعريف ذاته الذي كتبه الرازي في مختاره "النازلة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس".
فالنازلة تُفهم على أنها الواقعة الشديدة من شدائد الدّهر تنزل على قوم دون سابق توقع، نستثني منها الوقائع الطبيعية كالزلازل والبراكين لأنها أمور من تقدير الله.
يصبح التّعامل مع النّازلة أمراً محيراً ومدهشاً لعدم وجود النّص الذي يُعالجها، فتدفع النازلة إلى السؤال عن حكم الشّرع فيها بناء على القياس أو الترجيح أو الإجماع.. عندئذ يتقدم العلماء لفهمها وتحليلها من أجل إصدار الحكم الفقهي الذي يتناسب معها، وقد وقع المسلمون في كثير من الحيّرة في بعض النّوازل التي نزلت بهم فلم يهتد العلماء إلى حكم فيها، فكان الخلاف والاختلاف سيد الموقف.

يُعرفها أهل الاصطلاح بتعاريف مختلفة، ففي القديم تطلق على شدائد الدهر التي تنـزل بالناس، أما في الحديث فقد عرفت النازلة بعدة تعريفات منها:
أ‌- الوقائع: وهي المسائل المستجدة والحادثة، ونستدل ذلك من خلال ما أُلف من قبل العلماء كعبد القادر أفندي (ت/1085) واسم كتابه "واقعات المفتين"، وكذلك كتاب "الواقعات" للصدر الشهير بابن مسعود.

ب- الحادثة: التي تحتاج إلى حكم شرعي. والقصد بالحادثة هي الأمر الذي يحدث للناس فيربكهم، ويراد بها الشيء الذي يقع على غير مثال سابق له، ومنها:
1- حوادث جديدة تقع لأول مرة، مثل: النقود الورقية، وزراعة الأعضاء. وتتطلب الفتوى لذا كان العلماء يطابقون في بعض الأحيان الفتاوى بالنّوازل، ويراد بها الأمر الذي يحتاج إلى فتوى. وهذا المصطلح مشهور في المذاهب الفقهية، فهم يطلقون على كتاب الفتاوى: "النوازل" مثل "النوازل الصغرى" و" النوازل الكبرى" للوزاني.

2- حوادث جديدة يتغيّر حكمها لتغير ما اعتمدت عليه من عرف.

3- حوادث اشترك في تكوينها أكثر من صورة من الصور القديمة.

ج- الظاهرة: وهي التي ترتبط بسلوك الجماعة البشرية وتقترن بالعمران، وتكون من نتاج السياسة، والاجتماع البشري، كالهجرة، التدخين، الإدمان،.. وتعتبر من فقه القضايا المعاصرة والمستجدة ويراد بها الأمور المتنازع عليها في الوقت الحاضر.

ومن خلال ما سبق يمكن القول أن النازلة هي "معرفة الحوادث التي تحتاج إلى حكم شرعي". وتلك المعرفة ليست بالهينة ولا بالسهلة، فهي تتطلب من المفتي والحاكم الدّراية بالحّال والأحوال، والعلم بالمدنية ومتطلبات العصر، ولقد قال ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين "الفائدة الحادية عشرة: إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون عالماً بالحق فيها أو غالباً على ظنه بحيث إنه استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أو لا، فإن لم يكن عالماً بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا يعلم".
 
ارتبطت مسائل الولاية والإمامة بحياة الناس، فما عُلم بالضرورة من الدين لا يشكل صعوبة في التعامل معه، غير أن النّوازل في المسائل السلطانية يستدعي النظر والاجتهاد.
ويطلق على العلم الذي يُعنى بالنازلة عدة مصطلحات معاصرة:
فقه الواقع: يعنى فقه الحياة التي يعيشها الشخص.

فقه المقاصد: ومقاصد الشريعة هي مولدة للنوازل، فالنوازل أحكامها تستنبط من مقاصد الشريعة وتعلل بها.

فقه الأولويّات: يعنى أن النازلة سواء كانت للفرد أو المجتمع فهي أولى بالبحث والاستقصاء وإبراز الحكم من غيرها، فهي من الأولويات في هذا الجانب.

فقه الموازنات: أي أن من أبرز الوسائل لإيضاح فقه النازلة؛ الموازنة بينها وبين ما يشبهها أو يقاربها.
ومنه يمكن القول إن فقه النّوازل هو معالجة إشكالات الرّاهن المعقد المرتبطة بالظواهر الاجتماعية والسّياسية للمجتمع، وتُعد الأمور السّياسية ومنتجاتها أكبر منبت للنّوازل لارتباطها بالمعاش والحركة والوعي والتعقل، وعليه أصبح فقه النّوازل يُمثل الدّراية المعرفية في مقابل الدّراية السّياسية.

2- شروط التدبير السياسي
ينطلق الونشريسي في التّدبير السّياسي من قاعدة أن الإمامة والولاية منصب رفيع المستوي، شريف الغاية، خطير التكليف، صعب التنفيذ، وأن الشّرع حث على تحقيقه بناء على ارتباطه بمصالح النّاس.

يفرض تولي الخلافة والولاية أن يكون القائم بالتّدبير السّياسي أهلاً لتلك المهمة الصعبة، لأن الإسلام دين متكامل وأن أعظم عراه الحكم في المعاملات والولايات والصلاة في العبادات، فإذا فسد الراعي فَسُدت الرّعية ونزلت النّوازل والوقائع على الأمة فلا تجد من يستطيع أن يجد لها حلاً، ولكي نُنقذ الأمة من مصير مأساوي كان من الأفيد أن يكون الحاكم متميزاً بالشروط "شروط الإمامة العلم والعدالة والحنكة والرأي المؤديان للمقصود واختيار من هو أصلح للناس وأقوم للصالح".
وارتبطت مسائل الولاية والإمامة بحياة الناس، فما عُلم بالضرورة من الدين لا يشكل صعوبة في التعامل معه، غير أن النّوازل في المسائل السلطانية يستدعي النظر والاجتهاد، خاصة أن عصر الونشريسي تميز بالاضطرابات والفتن وتولية الأمور لمن لا يحسنها ولا يستحقها أصلاً. وتُعتبر ولاية السّفيه أكبر النّوازل التي أصابت المسلمين في تلك الحقبة بالذّات مما جعل الونشريسي يحاول التّعامل معها تعاملاً فقهياً، من خلال إضافة شروط جديدة حتى تستقيم فتوى شروط الحاكم مع الرّاهن والواقع.

وعند دراسة الراهن السّياسي في زمنه، نعلم علم اليقين علّة الاشتراط الزّائد على ما كان في العصور الأولى سببه نوازل العصر من تولي السفهاء والزّناة واللّصوص مقاليد الولايات والإمارات والشّرطة، فنتج عن ذلك كثرة المظالم والنزاعات، وضاق بالنّاس العيش في القطر والمصر، فأحبوا الهجرة إلى بلاد الكفر وديار الحرب على البقاء في ديار الإسلام. ولعل الونشريسي ذاته أصابته تلك النّازلة تحت ظل الحكم الزّياني مما جعله يفر إلى مدينة فاس طلباً للأمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق