الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

أسباب تدخل الإمارات في مصر حسب نعوم تشومسكي



 أكد المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في ندوة بجامعة كولومبيا الأمريكية تحدث فيها عن الثورة المصرية أن مصر تواجه ظروفًا سياسية وتحديات صعبة، وخصوصًا دعم بعض الدول العربية لبعض العناصر المعارضة للنظام السياسي.
وأشار إلى أن هناك عدة أسباب تجعل دولة مثل الإمارات تعادي نظام الرئيس مرسي في مصر وتدعم المعارضة؛ ومنها: أن مشروع تطوير إقليم قناة السويس الذي يتبناه الرئيس المصري محمد مرسي سيصبح أكبر كارثة لاقتصاد الإمارات وخاصة دبي؛ حيث إن اقتصادها خدمي وليس إنتاجيًّا قائمًا على لوجستيات الموانئ البحرية، وأن موقع قناة السويس هو موقع إستراتيجي دولي أفضل من مدينة دبي المنزوية في مكان داخل الخليج العربي الذي يمكن غلقه إذا ما نشب صراع مع إيران.
وأضاف بأن حقول النفط في الإمارات تتركز في إمارة أبو ظبي، وأن كل إمارة في دولة الإمارات تختص بثرواتها الطبيعية فقط، ودبي هي أفقرها موارد طبيعية؛ لذلك فهي تعتمد اعتمادًا كليًّا على البنية الأساسية الخدمية التي تقدمها للغير، ومشروع تطوير قناة السويس سيدمر هذه الإمارة اقتصاديًّا لا محالة خلال 20 سنة من الآن.
وتابع أن الإمارات هي أكثر دولة عربية تعتمد سياسيًّا ومخابراتيًّا على الموساد "الإسرائيلي" والمخابرات الأمريكية، وخصوصًا بعد بناء المشاريع الخدمية بعد عودة هونج كونج إلى الصين والنمو الصاروخي لاقتصاديات للنمور الأسيوية، وسيضمحل هذا الاعتماد تدريجيًّا حيث إن هذا الاعتماد المخابراتي كان بسبب كمية المبادلات التجارية الضخمة التي كانت تجرى على أرض الإمارات.
وزاد أن الإمارات أكثر الدول العربية التي تربطها علاقات تجارية واقتصادية حميمة مع إيران خوفًا من تدمير البنية التحتية للإمارات فيما إذا نشبت حرب بين أمريكا وإيران وسحب البساط التجاري من دبي إلى مصر سيعمل على ترك الإمارات دون غطاء جوي أمريكي عمدًا كي يتم تدمير مرافقها وتأتي شركات أمريكية لإعادة بنائه بالأموال الإماراتية المودعة في أمريكا.
وأكد أن الإمارات ضد  الجيش السوري الحر والثورة المصرية حتى لا يتم نجاح التواصل بين تركيا ومصر، وهذا سيؤدي إلى فتح الأبواب التجارية الأوروبية للمنتجات السورية والمصرية، وتصبح الحاجة إلى مشاريع إعمار منطقة قناة السويس هي اللطمة للاقتصاد الإماراتي الخدمي.
وأكد تشومسكي في ختام الندوة بأن النظام المصري إذا ما تمكن من تنفيذ هذا المشروع العملاق في منطقة قناة السويس، فإن مصر ستنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديًّا، وقال: يجب أن يتم تطوير أنظمة التعليم والثقافة التعليمية في مصر كي تواكب النهضة المستقبلية

السبت، 13 سبتمبر 2014

الكتابة الفلسفية

الكتابة الفلسفية
يشهد التّدوين الفلسفي في العالم العربي رواجا لا نظير له، خاصة بعد تطور شبكة الاتصالات العالمية وتطور آليات التّواصل بين البشر. غير أن التّدوين الفلسفي لا يعني وجود كتابة فلسفية، فالتّدوين أشبه ما يكون بقرض الشّعر، بينما الكتابة هي كحالة النظم المبدع.
 تستوجب الكتابة كفعل حضاري  جملة من الشروط حتى تصل إلى مصاف الكتابات الفلسفية، ولذا قدم طه عبد الرحمان جملة من الشروط تجعل الكتابة الفلسفية كتابة أولا ثم حالة إبداع ثانيا.
 يعد فعل التحرير فعل ذو دلالات متنوعة، فتحرير الأرض والذّات كان ولازال مركز أغلب المطالب والمقاصد، بيد أن طه عبد الرحمان أضاف نوعا جديدا من التّحرير، هو تحرير الكتابة الفلسفية العربية من التّبعية المعجمية والأسلوبية والنّحوية والدّلالية للغة الآخر، فالرّسم العربي الظاهري للغة لا يُعبر بالضرورة عن جوهرها وماهيتها، بل الذي يُعبر عن الجوهر هو البِّنية المعنوية والأسلوبية.
 ونلاحظ أن عملية تحرير القول الفلسفي تستوجب التأهب للحظة التأصيل الإبداع، وهذا الترابط بين فعل التّحرير وفعل التأصيل يجعل مشروع طه عبد الرحمان أكثر استراتيجية من غيره، لكونه ربط بين هُوية الكتابة وهُوية الكاتب، فالنّص الفلسفي هُويته اللغة التي يُعبَر بها عنه، وهُوية الكاتب تكمن في تأصيل ما يُفكر ويِؤمن به.
إن إبداع كتابة فلسفية أصيلة ومتحررة من قوالب اللغات الأخرى كفيل بأن يُمهد سرح العصر الذهبي للفلسفة العربية مستقبلا، ولتحرير الكتابة الفلسفية من مكبلاتها وعوائقها ينبغي التحرر من الأمور التالية:
1-الخروج من دائرة الاجترار والتكرار والتقليد والنقل، أو ما يُسمى بالموضة. إذ أصبح البعض يحاول أن يُكرر ويجتر ما يثير النّاس والقراء، وما يجعل الصحافة تتهافت عليه.
2-عدم جعل الكتابة وظيفة إيديولوجية، لأن الكتابة الفلسفية تتميز باللايقين وهدم الأيقونات والمسلمات، فهي كتابة شكية هدمية تراجعية.
3-التّعالي عن الكتابة كمهنة ارتزاقية، فالإنسان الذي يكتب وفق الطلب والعرض لا يكون وفيا لأفكاره ومعتقداته، بل يُحاول أن يتقمص الأدوار التي تدر عليه الربح والقوت.
4-عدم الوقوع تحت سحر الكتابة النّجومية، لأنها الكتابة من أجل الشهرة لا تُقدم عملا خالدا يحيا رفقة الأعمال الكبرى كجمهورية أفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، ومدينة الرب لأوغستين، وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، وفصل المقال لابن رشد، ومقالة في المنهج لديكارت ..... بل الكتابة النّجومية تفقد بريقها بمجرد ولوج الخشبة من يُجيد الدور أفضل من الأول، عندئذ تصبح جل الأعمال المقدمة من قبله في مزبلة التاريخ.
 ومن بين أهم شروط الإبداع لغة الكتابة، فغياب الإبداع في النّص الفلسفي باللغة العربية يرجع إلى عدم إتقان اللغة العربية أصلا، فالإبداع كفعل تعبيري دلالي رسالي تواصلي يفرض أن تكون اللغة المُعبرة عنه تحمل موصفات اللغة الواصفة، العالمة، الشارحة .. فالكتابة الفلسفية باللغة العربية تشكو خللا في الصياغة الأسلوبية، الانتقاء، البلاغة، المجاز، القوة، دون أن ننسى الهنّات اللغوية، وتكسير قواعد النّحو العربي عند التّخريجات المفاهيمية أو الاشتقاقات اللّغوية.

 كما أن الكتابة الفلسفية لا بد أن ترتبط بأسئلة الغاية والقصد من الكتابة: لمن ؟ لما ؟ وبما؟ وما؟ ... فتحديد الآليات والمقاصد يُعطي للكتابة الفلسفية قوة، ويُمكنها من التّغلغل في المجتمع، وتشارك الناس في الراهن اليومي والعالمي دون أن تقع في الإسفاف. أ.د/ عبد القادر بوعرفة

الخميس، 11 سبتمبر 2014

الغرب بين فعل المغامرة وفعل التنوير


  ينطلق أغلب المفكرين العرب من النهضة الغربية كمعلم للتغيير، فهم ينخرطون في مقولة التنوير كأساس للتغيير والنهضة، وتغدو العقلانية التنويرية بمثابة الطريقة المثلي لتحقيق حلم النهضة. وكأن العالم العربي لا يمكن أن يجد طريقا للحرية والنهضة إلا من خلال المرور بالعقلانية التنويرية التي شهدتها أوروبا. ويصبح هذا الربط من أهم العوائق التي تعيق حركة التقدم العربي، فالتنوير لم يكن في الغرب إلا جزءا من المشروع الحضاري، فقبل التنوير كانت الخرافة وأساطير الرجل الأبيض هي التي دفعته إلى الاكتشافات الجغرافية التي مهدت للثورة الصناعية والتجارية.
 إن الاكتشافات الجغرافية كحركة توسعية كانت سابقة عن التنوير الذي مارسه الفلاسفة الغربيون أمثال ديكارت وروسو وكانط .. ولم تكن لدى الغرب في مرحلة الفتوحات الجغرافية سوى مقولات البحث عن ماء الخلود (أسطورة فانيس) أو البحث عن مملكة سليمان وكنوزه .. لقد كان المغامر الأوربي يجد في الخرافة المُغذية لفكره الباعث المعلل لتجربة الاكتشاف الجغرافي.
لم يكن فاسكودي قاما أو ماركو بولو، أو كريسوف كلومبوس أو إمريكو فوستبوتشي أو ماجلان .. مدفوعين بأفكار فلسفية تنويرية بل بأفكار روحية خرافية .. ومنه لا يمكن أن نضع انطلاقة أوروبا مرتبط بلحظة التنوير فقط .. فلما لا نرتبط نحن العرب والمسلمين بالتجربة اليابانية ؟؟ولما نجعل دوما العقلانية الغربية هي المعلم ؟؟
إن اليابان لم تتقدم إلا بالاعتماد على خصوصياتها الثقافية، ولم تنتظر ميلاد فكر تنويري يُنظر للنهضة من فيض الغرب، بل جعلت من الهزيمة معلم التغيير ومن العقيدة الميجية القوة المحركة .. فكان أن تقدمت بعد صحوتنا نحن في غضون عشرية واحدة .. رغم أن اليابان لو قرنت بالعالم العربي فهي لا تمتلك من خيراته الخمس.
 إن المراهنة على العقلانية وهم لا زال المفكر العربي يردده دون ملل، ومن باب التقية التي يؤمن بها حنفي يجدر فهم أنه من العقلانية عدم الإعلان عن العقلانية أصلا، لأن العالم في صدام حضاري والعقلانية عندما تُعلن وتُقنن تصبح هدامة، لأن الآخر سيعلم كيف تفكر وفيما تفكر وبما تفكر عندئذ تصبح دوما أنت المعلوم وهو المجهول.
ولو ذهبنا مع حنفي في ضرورة البحث عن عقلانية جامعة، فهذا شيء متعذر أصلا، فالعقلانية ضمن فضاء إسلامي وعربي مفكك من قبل الطائفية والإثنية والملكية والاستبدادية و... لا يمكن أن تنبلج منه إلا عقلانية رخوة تتحرك نحو التاريخ حركة حلزونية.
 كما أن الاعتماد على العقلانية التاريخية العربية وهم في ذاته، فالمعتزلة وابن رشد .. لم يعتمدوا على مفاهيم نسقية بل كان وضعهم التاريخي يفرض الانخراط في عملية إنتاج المفاهيم، لكون العقلانية الممارسة تزامنت مع مرحلة قوة الدولة، ففي العهد الراشدي أو الأموي لم يكن الحديث عن عقلانية معينة، لأن المرحلة كانت مرحلة تأسيس دولة إسلامية، ولذلك فمرحلة التأسيس تطلبت بالضرورة لحظة إيمانية لا لحظة عقلانية. وأوروبا نفسها وهي تؤسس لنهضتها الأوروبية كانت تستخدم اللحظة الإيمانية لدفع المغامرين الأوروبيين لغزو العالم تحت شعار الاكتشافات الجغرافية، واللحظة الإيمانية في العالم الإسلامي هي التي دفعت جحافل المسلمين لفتح العالم تحت شعار الدعوة لله.
وقد وجه السيد ولد أباه نقدا لحنفي في مجال وهم التنوير قائلا : "إننا نريد باختصار، نشير إلى أن حسن حنفي – وإن كان لا محالة –من أبرز مفكري الجيل الحالي، ومن أوسعهم اطلاعا وامتلاكا لأدق تفصيلات المعارف التراثية والفلسفة الحديثة، إلا أنه ظل سجين الأطروحات التنويرية الأكثر عرضة للجدل والنقد في الفكر المعاصر."
  قد يجد السؤال التالي مشروعية تاريخية، هل نحن الآن نحتاج إلى اللحظة الإيمانية أم إلى اللحظة العقلانية ؟؟ إننا بكل تأكيد نحتاج إلى اللحظة الإيمانية التي تقود الإنسان العربي إلى ساحة الوجود الحضاري، وبعد أن نتأسس كذوات تاريخية يأتي دور اللحظة العقلانية.
  يتحدث الغرب اليوم عن ما بعد العقلانية، ويعترف أن العقلانية التنويرية وإن استطاعت أن تُقدم أوروبا علميا فهي أخرتها روحيا، فالعودة إلى التدين إعلان عن حاجتهم للحظة الإيمانيةـ أو لحظة عرفانية إشراقية تزيح سيطرة الألة والمجتمع ذو البعد الواحد.




الاثنين، 1 سبتمبر 2014

القدس: خطر فقدان الهوية وإستراتيجية النصرة. نحو فلسفة مشروع الغرقدين

القدس: خطر فقدان الهوية وإستراتيجية النصرة.
نحو فلسفة مشروع الغرقدين
                      أ.د عبد القادر بوعرفة *
** المولج: سؤال الهوية   
    نقرأ عبر تاريخ القدس التليد ملحمة الهُوية وصراع الطوائف والأديان، وأسطورة الحياة بعد كل موت، فهي كطائر الفنيكس( العنقاء) ينبعث من تحت الرماد أكثر قوة وصلابة. كما نكتشف عبر التاريخ العريق أن القدس مدينة الله بالمعنى التام للكلمة، فلا "العبرنة" ولا "العربنة" تستطيع أن تسلبها صفة مدينة الله السلام المؤمن. إنها ليست مدينة داوود ولا عيسى ولا محمد، بل مدينة من أرسل كل هؤلاء بدين الحق وكلمة السّواء.
      يتعين على حملة مشروع نصرة القدس التّعالي عن المنطق الذي يروج له أنصار القومية، سواء العربية أو العبرية، فنصرة القدس يجب أن تنطلق من مسلمة ربانية تتمثل في كون القدس مدينة الله. ولتأسيس تلك المناصرة يجب رفض الطرح العبري القائم على تهويد القدس من خلال محاولة عَبْرنتها زورا ببعض آيات العهد القديم، ومن ذلك مثلا تسميتها ب:{مدينة داوود}:2 صم، 5:7، أو { مدينة صهيون} مزامير48:13. وفي المقابل نرفض عَرْبنتها كما جاء في أطروحات أنصار القومية العربية، والشاهد الحصري قول اللواء الركن يسين سويد : " القدس عربية الأصل والمنشأ، أسستها قبائل عربية من (اليبوسين) هاجرت إلى أرض كنعان من جزيرة العرب."[1]
        نعتبر أن النُّصرة تلغي النَّعرة، فالنّعرة ضيقة المجال والفكرة، لكونها لا تحمل البعد الإنساني والإسلامي في الوقت نفسه، بيد أن مفهوم النّصرة جامع مانع، ينهل من المنهل الإنساني والشرعة الإسلامية الحنيفة.
         وننطلق عند نصرة القدس من الطرح الذي انطلق منه صلاح الدين الأيوبي، حين اعتبرها مدينة السلام والأديان السماوية كلها[2]، وأنها تخضع لسلطة الدولة والأمة الأكثر قدرة على حماية كل المؤمنين بالله وإن اختلفت معتقداتهم، فهي المدينة الجامعة. وعلى هذا الأساس سلمنا بأنها مدينة الله فحسب، وأن الأمة التي تُحقق رسالة الله هي الأحق بخلافتها وتعميرها وحراستها. ونستثمر الشواهد الدّينية التي تؤكد المسلمة السالفة، فلقد جاء في العهد القديم ما يلي :
-       {مدينة الله} مز 46و87 :3.
-       {مدينة إلهانا} مز 48: 2و9.
-       { مدينة الملك العظيم} مز 48 :3.
-       {مدينة رب القوات} مز 48 :9.
-       { مدينة الرب} مز 101 :1.
ويأتي ذكر القدس في القرآن والسنة دوما باسم المدينة المباركة من قبل الذات الإلهية، ومقامها لا يجاريه مقام لكونها مقام الأقصى الشريف:{سبحانَ الذي أسْرى بعبده ليلًا من المسجدِ الحرام ِإلى المسجدِ الأقصى الذي باركْنا حولَه لنُريه من آياتنا إنّه هو الّسميعُ البصيرُ } الإسراء: الآية 1.
    وقوله تعالى على لسان نبيه موسى:{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (*) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون }. سورة المائدة: الآية 21 – 22.
  وقول الرسول عليه الصلاة والسلام : {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ( مسجد النبي بالمدينة) والمسجد الأقصى.}[3]
 ودلالة قدسية القدس ومسجدها الأقصى تكمن أيضا في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : " الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي. (متفق عليه.   

     ستظل هوية القدس عبر التاريخ مدينة الله*، وترفض بإباء كل من يريد أن يهودها أو ينصرها أو يؤسلمها، فهي مدينة المؤمنين وقبلة الموحدين، مدينة الكل المختلف، تطيع فقط الطائفة التي تحقق التناغم وفكرة العيش معا، وتبارك من يعانق بين المعابد والمساجد، ويدافع عن تبرها وترابها، إرثها وتراثها، وتتنصل من كل من يريد أن يسلبها هوية التّنوع والاختلاف وأن يسميها باسمه أو دينه أو طائفته التي تأويه.
  تَعلم الخليفة الفاروق الدّرس فحفظه وطبقه، إذ جعل القدس مدينة الأديان والسلام، فتعايش المسلم مع النصراني واليهودي تحت سقفها، ولم تنقطع فلول الحجيج ... إلا في زمن التّهويد والتّصهين.
       تتعرض القدس اليوم إلى خطر فقدان الهوية كينونة وجودها، إن فقدان تلك الكينونة معناه فقدان الوجود الحضاري والتاريخي... فالقدس لا تتعرض فقط لخطر فقدان الهوية بل إلى خطر فقدان الوجود. لأن تهويد القدس يسلبها الصفة الجوهرية في تعريفها، إذ لا يبقيها مدينة الله بل يحولها إلى مدينة داوود من جديد. والمنظومة التربوية اليهودية مشبعة بالأفكار دانيال باسيس مؤسس( رابطة الدفاع اليهودية) والتي تحاول جاهدة البرهنة على:" وثيقة تمثل دعاوى قمة الغلو الصهيوني ... كتبها مؤسس هذه الرابطة دانيال باسيس، وفيها كل الدعاوى التي يستندون إليها في أن القدس يهودية ولا علاقة لها بالإسلام، ولا مكانة لها في حياة المسلمين منذ حياة رسول الإسلام وحتى الحقبة الراهنة."[4]                 
      نحن نعلم جيدا أن التهويد لا يمس فقط ما فوق الأرض بل ما تحت الأرض، وهنا تكمن أزمة هويتها، إن حالتها شبيهة بالإنسان الذي فقد أناه الاجتماعي والنفساني معا، فلم يستطع أن يحدد لذاته معالم شخصيته. إن خطر التهويد يفرض كل أشكال المقاومة المتاحة من أجل نصرة القدس، وأول شكل ممكن في الوقت الحالي يتمثل في المقاومة بالتفكير قبل يوم التحرير المنتظر. والتفكير لا يخرج عن رسم إستراتيجية النّصرة انطلاقا من مقومات الحاضر وصور الماضي، ونحن في هذا المضمار تصورنا مشروع النصرة من خلال الأفكار التالية :
1- الإستراتيجية المؤقتة       
     يقتضى التفكير في نصرة القدس البحث عن الحلول والمشاريع التي بفضلها يمكن أن ننصر القدس نصرا استراتجيا، ونحن نعلم أن أفضل الحلول غير متاحة في الحقبة المعاصرة، ونقصد الحل الأيوبي (التحرير) الذي لا يمكن أن نُنظر له اليوم لمسوغات موضوعية، لكننا نظل نؤمن بأنه الحل الأمثل للقدس.
    ولكي لا يتحول الحلم الأيوبي إلى عائق مشل لنصرة القدس، فإننا اليوم مطالبون بالتفكير في حلول إستراتيجية تضمن للقدس البقاء في الضمير والشعور والذاكرة .. وتُؤمن لها في المقابل النصرة والنعرة .. وتجعل منها قضية الأحرار في كل بقاع العالم .. إن القدس تاريخ وعقيدة .. ومدينة الله بدل مدينة داود وسليمان .. ولكي ننصر القدس نصرا استراتيجيا نقترح على العموم مشروعين للمواجهة والتّدافع، الأول نسميه بمشروع الغرقد* الصغير، تفرضه مرحلة الضَّعف والتشّتت، ويكون بمثابة مشروع للمجتمع المدني والأنتلجنسيا العربية والإسلامية الفاعلة، وهو كما يقول د.محمد عمارة : " ولأن هذا هو مقام القدس في عقيدة الإسلام والمسلمين في التاريخ الإسلامي ... ومكانتها في الدولة الإسلامية ... فإننا يجب أن نتعامل معها، في هذا الطور من أطوار الصراع التاريخي حولها وعليه، باعتبارها أكثر من قطعة أرض..."[5]  
     إن اختيار تسمية مشروع المواجهة بالغرقد يعود للرمزية المقصودة التي يحملها المخيال الإسلامي، والمشبع بلحظة الأمل والانعتاق من هيمنة اليهود، وآية النّصرة تكمن في شجرة الغرقد، بالرغم من اعتقادنا نحن المسلمين أنها شجرة خبيثة لكونها كما جاء في الحديث شجرة اليهود، ولكن وجودها دليل على زوال بني إسرائيل من مدينة الله . ونحن لا يهمنا نص الحديث بقدر ما يهمنا توظيف المخيال كرأسمال ثقافي في صناعة فعل تحرري، لأن حديث الغرقد يؤطر في ذهن المسلم شحنة الانتظار الإيجابي، واليهود استثمروا أسطورة مملكة الرب الكبرى لدفع المجتمع اليهودي نحو صناعة الوعد والتمكين للعهد. ونحن بدورنا لا بد أن نستثمر كل الأشياء والأفكار التي من شأنها أن تساعدنا على تحريك المسلمين نحو تحقيق العالمية والشاهدية الثانية.    
 أما الثاني فنسميه بمشروع الغرقد الكبير، سيفرضه التاريخ والمستقبل، والذي سيحول المواجهة والتدافع إلى منطق الحل الأيوبي مستقبلا.
    يتمثل مشروع إستراتجية المواجهة ( الغرقد الصغير) في النقاط الرئيسة التالية:


1- تخليد القدس:
     نطالب كافة الدول الإسلامية بتبني مشروع توأمة مدينة القدس، وتسمية الشوارع الكبرى والمؤسسات الهامة باسمها. ويمكن لهذا الفعل الاستراتيجي أن يحفظ القدس في الذاكرة والمخيال، وأن يحفظ اسمها أبد الدهر.
    راهن المجتمع الإسرائيلي بكل مؤسساته ولوبياته على الخيار ذاته، من خلال تسمية وتوأمة مدينة (Jérusalem) مع كثير من الدول الغربية، لأجل طمس اسم القدس من المنظومة المعلوماتية العالمية، فالإعلام الغربي لا يستعمل أبدا مصطلح القدس، وقس على ذلك الخرائط والموسوعات الغربية، والمدونات الرقمية. لقد نجح اليهود في استبدال اسم القدس بمدينة السلام، واستطاعوا أن يُخلدوا اسمها العبراني القديم، لأن الهوية كإستراتيجية دفاعية تفرض أسلوب الفرمطة ( المسح) للذاكرة.
   ومن خلال ما سبق، يجب على الأمة الإسلامية أن تعمل على تثبيت مضمون الذاكرة التاريخية من خلال توأمة مدينة القدس مع المدن التي تحمل أكثر رمزية في العالم الإسلامي. وأن ندون اسم القدس وفلسطين في كل المجالات التي تُمكننا من تثبيتهما في الذاكرة والمخيال، حتى لا يأتي يوم ينسى الناس اسم القدس وتلوك ألسنتهم جيري سلام.
2- المنظومات التربوية والمدونات الفقهية:
   تقوم الدولة أول الأمر على فلسفة التربية، لأن استمراريتها كمؤسسة اعتبارية تكمن في مدى ارتباط الجيل بمادئها وأصولها، وتلك الأصول والمبادئ تنبثق من المنظومة التربوية.
 تحاول إسرائيل قدر الإمكان صرف المسلمين عن القدس من خلال نشر دعاوي مغرضة، تتمحور نفي قدسية القدس في الخطاب الديني الإسلامي منذ نبي محمد (ص)، وهذا ما تعكسه على سبيل المثال لا الحصر ( رابطة الدفاع اليهودية) التي تنفي نفيا قاطعا أن تكون القدس مركزا إسلاميا أو مكانا مقدسا. ورد د. محمد عمارة عن تلك الدعوى المغرضة في كتابه الشهير ( القدس بين اليهودية والإسلام) مبينا زيف اليهود :" أما دعوى وثيقة ( رابطة الدفاع اليهودية)، أن القدس لم تتحول في يوم من الأيام إلى مركز ثقافي لإسلامي، فيفندها ويدحضها مكانة القدس في الثقافة الإسلامية عبر أكثر أربعة عشر قرن متواصلة، فالمسلمون هم الذين أطلقوا على هذه المدينة اسم القدس ... وبيت المقدس... والحرم القدسي ... والقدس الشريف ... فجعلوا من القداسة اسما لها، وعنوانا عليه، يُعبر عن قداستها ومكانتها المقدسة في الثقافة الإسلامية والعقل الإسلامي والوجدان الديني الإسلامي.."[6] 
     وقضية القدس يجب أن تدخل ضمن المحاور البيداغوجية في المنظومات التربوية، من خلال التركيز على تاريخها وحاضرها ومستقبلها، لأجل أن تظل القدس قضية الجميع وليس الفلسطينيين فحسب.
    لقد تنبه أفلاطون في كتاب الجمهورية لمسألة التربية والتعليم، إذ اعتبرها الأساس القاعدي الذي يضمن ولاء الطفل ( مشروع رجل) للدولة حين يبلغ مرحلة الرشد، ولذا سن منظومة تربوية صارمة، مركزا على الفضيلة في أصولها الأربعة : الحكمة- العدالة- العفة- الشجاعة.
   ونحن نؤمن أن هُوية القدس تتجسد من خلال ترسيم مادة بيداغوجية خاصة بالقدس، تدرس في كل الأطوار، بحيث يعكس كل طور مرحلة من تاريخها العريق. والغرض من ذلك، ربط الشعور الديني والقومي للطالب والتلميذ بقضية القدس، والذي سيثمر بحضور القدس في الوجدان والعقل . ومن جهة أخرى، فنحن نحضر أجيال تحرير القدس من خلال المنظومة التربوية الهادفة.
    يعمل أعداء القدس اليوم على تدريس مادة ( تاريخ أورشيلم) في المدارس الإسرائيلية، وحجتهم في ذلك، تقوية الرابطة بين الأجيال والأرض. ولقد صدر مرسوم رئاسي بعد معركة غزة ، يفرض تلك المادة في كل أطوار التعليم .، ولقد كان الرد الفلسطيني في قطاع غزة مشابها، إذ أوصت لجنان المقاومة بضرورة وضع وحدة بيداغوجية خاصة بالقدس.
    ونقول في الأخير، نحن نأمل أن يُعمم تدريس مقياس القدس في كل الأقطار العربية والإسلامية ، لأن الحل الأيوبي المنتظر يتحقق باسم الأمة الإسلامية جمعاء.
    والمنظومة التربوية مرجعيتها أساسا التاريخ، ثم المدونات الفقهية التي تحمل إشارات ربانية عن القدس والأقصى، وتبشر بالنصر القريب. إن النص الديني هو رأسمال ثقافي لابد أن نوظفه توظيفا حضاريا في قضايا الوجود، فالدولة الإسرائيلية تشكلت على أساس ثيولوجي محض، وقوتها تكمن في ارتباط أفرادها بنصوص الدين اليهودي، لا تهم طبيعة النص لأي ديانة كانت، لأن المهم هو الوظيفة التي يؤديها والمتمثلة في الرمزية التي يُعطيها المخيال للموضوع أولا ، فينتج انصهار بين الذات في بعدها القبلي مع الموضوع في بعده المصيري.
    والمدونات الفقهية الإسلامية غنية بالنصوص التي تدعو لنصرة القدس، وتبارك ترابها وتراثها، وتعد بنهاية التّاريخ عند تحريرها من اليهود في اليوم المشهود ( الغرقد الكبير).         

3- البنك العالمي للقدس :
     الجهاد الأكبر هو جهاد المال، والله سبحان وتعالي يٌقدم جهاد المال على النفس في كثير من الآيات، لأن المال عنصر فعال في الجهاد المسلح. إن قوة إسرائيل تكمن في القوة المالية التي تمتلكها من خلال الأفراد والمؤسسات، فاليهود أسسوا جمعيات في كل بقاع الأرض، مهمتها جمع المال والدعم.
    إن نصرة القدس لا تستقيم إلا بالمال، لأن كل النقاط الواردة في مشروع النّصرة تعتمد على عنصر المال. ونظرا للفائدة العظمى نطالب بإنشاء بنك خاص بالقدس، نقترح تسميته بالبنك العالمي للقدس، تكون وارداته أموال الزكاة والهبّات، والصدقات والتبرعات، والاستثمارات الشرعية. 
     ولا يهم المكان بقدر ما يهم التأسيس، لأننا نتوخى أن يكون البنك قبلة لكل من يريد أن يجاهد بماله في سبيل القدس والمسجد الأقصى، ونرفع الحجة عن من يتعلل بعدم وجود قنوات النّصرة. ونحن في هذا الصدد نبارك فكرة د. يوسف القرضاوي التي تصب في الهدف نفسه : " وعلى هذه الهيئة أن تنشئ  "صندوق القدس" صندوقًا شعبيا إسلاميا عالميا، يساهم كل المسلمين-  بل كل الأحرار الشرفاء-  من أقصى الأرض وأدناها، بما يقدرون عليه، والقليل على القليل كثير، وذلك لإنقاذ القدس والمسجد الأقصى، ومواجهة خطط إسرائيل الجهنمية في إقامة المستوطنات، والترحيل الصامت لأهل القدس، والحفر المتواصل تحت المسجد المبارك، والتدمير المرتقب للمسجد الأقصى."[7]
  
4- استرجاع الأوقاف:
  كثير من الدول الإسلامية تملك أوقافا بالقدس، كأوقاف المغاربة والأتراك، إلا أن عدم الاكتراث سيجعل من عملية استرجاع الأوقاف عملا مستحيلا، وخاصة أن الدولة العثمانية سابقا لم تُحافظ على الوثائق. وفي دراسة متميزة قام بها الدكتور مصطفى عبد الغني*   نشرت الحياة اللندنية ملخصها التالي: " ... تكاد البلدة القديمة في مدينة القدس وأكنافها المعروفة أنْ تكون كلّها وقفيات بمقدّساتها وبجميع مبانيها وعقاراتها، ولكنْ مشكلة هذه الوقفيات هي بعثرة الوثائق الدالة عليها بين إدارات المحفوظات وإدارات الوثائق في العديد من الأقطار العربية والإسلامية، وتمتدّ أوقاف القدس في دائرةٍ متداخلة في أقطابها الأقطار المصرية والسورية والأردنية والتركية إلى غير ذلك. وفي كتاب "الأوقاف على القدس" للصحافي والباحث المصري الدكتور مصطفى عبد الغني؛ محاولةٌ جادّة لرصد مصير هذه الأوقاف خصوصاً في ظلّ المحاولات الشرسة التي تقوم بها سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" لتغيير واقع الأقصى والمقدسات الإسلامية بكل ما فيها من أوقاف تحمل رمز الهوية. لقد سعى الباحث طويلاً للوصول إلى أوقاف القدس وأكنافها في كثير من الأقطار العربية وواجه صعوبات -سجلها في مقدمته- وأخطر ما في هذه الصعوبات الجهل بقيمة الوثائق."[8]  
    يتمثل مشروع تهويد القدس في القضاء على الأوقاف العربية والإسلامية، لأنها معالم تدل على هوية القدس، وتساعد عرب فلسطين على التشبث بالقدس كعاصمة لفلسطين . ولهذا السبب شرعت الحكومة الإسرائيلية  بتسجيل الممتلكات العقارية العربية والأوقاف الإسلامية في البلدة القديمة بالقدس الشرقية في قسم التسجيل بوزارة الداخلية الإسرائيلية "الطابو" كممتلكات يهودية، وبتدعيم من بعض الأغنياء* والجمعيات اليهودية المتطرفة.
    تُشكل الأوقاف هاجسا مريعا لليهود، لأنها الشاهد على الطابع الإسلامي والعربي للقدس، وتغذي الذاكرة التاريخية بقيم التشبث بعربية القدس وإسلاميتها، ولقد قدم المعهد الإسرائيلي للقدس الإحصائيات التالية: 
-         مساحة البلدة القديمة (القدس الشرقية) تصل إلى 870 دونمًا.
-         24% ملكية الوقف الإسلامي (210 دونمات).
-         29% ملكية مسيحية، كنائس وأديرة مختلفة (250 دونمًا).
-         28% (240 دونمًا) هي أملاك عربية خاصة.
-         استحوذ الاحتلال الإسرائيلي على 19%.
   ومن خلال الإحصائيات المقدمة من دولة صهيون، نعرف أن القدس الشرقية كنموذج فقط، يعكس شرعية العرب والمسلمين في التمسك بمدينتهم.
      دفع صراع الهُوية والوجود العدو الإسرائيلي إلى تهويد الأوقاف من خلال القضاء، ولقد ذكرت صحيفة "هاآرتس"  في حوار مع نسيم آرزي مدير "شركة تطوير الحي اليهودي" في القدس التابعة لوزارة الإسكان الإسرائيلية:" أن هذه الخطوة ذات أهمية قصوى من الناحية القومية والتاريخية، علما أن الشركة نفسها هي التي تتولى تسجيل الممتلكات في الطابو".
    ويبدو أن العرب لحد الساعة لم يقدموا على أمر حضاري نصرة للقدس، فصراع الهُوية يفرض على الدول العربية والإسلامية المعنية بالوقف أن تقدم مذكرات قضائية لتبيت ملكيتها لأوقافها بالقدس. إن تجاهل الفعل اليهودي ينجر عنه خطر التهويد الذي حذرنا من نتائجه  خليل التفكجي : " أن ما تقوم به إسرائيل يمثل أخطر خطوة تهويدية تقدم عليها إسرائيل في القدس، فهو بمثابة إضفاء صبغة شرعية وقانونية على عمليات التّهويد التي تعرضت لها القدس منذ العام 1967 وحتى الآن".[9]
     ويقدم التفكجي الدليل على خطورة التهويد من خلال تحويل معظم الممتلكات على أنها أملاك يهودية ثم تسميتها بأسماء عبرية، والشّاهد التّاريخي "حي المغاربة" الذي هُدم بالكامل، ومن المعلوم أن حي المغاربة كان يحوي 122 منزلاً عربيا في المقابل منزل واحد لأحد اليهود.
5- الأبحاث الأكاديمية الجامعية:
    تشجيع البحث الجامعي الذي يسعى لفضح مشاريع التهويد، لأن الدراسات العلمية الجادة تُعمق الوعي ، وتُجلي الوهم، وترشد الساسة إلى أفضل الحلول المتاحة في معركة الوجود والكينونة.
    يُجمع الباحثون العرب بالخصوص على ندرة الدراسات الجامعية التي تهتم بالقدس، في المقابل نلاحظ الصهاينة لا يملون من الكتابة والدراسة، ولا يبخلوا في تشجيع الدراسات الأكاديمية التي تخدم مشروع تهويد القدس.       
    ونلمس ذلك الإهمال في مسألة الأوقاف بالقدس:".. إن الدراسات الوقفية في عالمنا الإسلامي تكاد تكون ضئيلة جداً قياساً مع قضايا مختلفة، وأهملت السنوات الخمسون الماضية معالم الوقف الإسلامي إلى حدٍّ كبير، وأنه بات من الضروري العمل من أجل أوقافنا ومقدساتنا في القدس وأكنافها والمهددة بالخطر."[10]
     إن مهمة الدراسات الجامعية تعود أساسا على عاتق مراكز البحث الإسلامية، ثم على عاتق كل باحث عربي ومسلم، وتلك المسؤلية سيحمل وزرها يقوم القيامة الساسة والدعاة، فالساسة بالدعم وسلطة القرار، والدعاة بالتذكير والتنبيه.   
6- إنشاء قناة (القدس العالمية):
 الحرب الإعلامية جزء مهم من إستراتيجية المواجهة التي ينبغي أن نؤسس لها لنصرة القدس، ونطمح من خلال تلك القناة التلفزيونية توعية الرأي العالمي وخاصة الأوربي الذي أنحاز عقدا من الزمن مع اليهود، نتيجة تحكمهم في وسائل الإعلام.
    إن الإعلام ليس هو السلطة الرابعة كما يصنف في العلوم السياسية، بل أصبح السلطة الأولى في العالم المتقدم، لأن من يملك الإعلام يملك العالم.
   إن تصدير القضايا يحتاج إلى فلسفة إعلامية محكمة، فالقضية العادلة لا يمكن أن تنجح في التعريف بنفسها إذا لم تمتلك ترسانة من الوسائل المعبرة عنها.
    نأمل من خلال  إنشاء قناة القدس العالمية اتحاد الرأي العالمي حول شرعية الشعب الفلسطيني في المحافظة على مدينته التاريخية، ثم حق العيش الكريم في أكنافها.
    ونتصور أن القناة ستكون مجمعا إعلاميا متنوعا، تشارك فيها كل الدول الإسلامية، وتنطق بكل اللغات، من أجل أن تظل القدس دوما قضية الساعة، ولتبصير المسلمين بضرورة التفكير دوما في القدس، لأن العبر التاريخية تخبرنا أن أكبر خطر يهدد الوجود هو النسيان أو الذاكرة المخرومة.
  ونعتقد أن فعالية القناة تكون أكثر إيجابية ومردودية لو استطعنا أن نؤسسها بلندن، والغاية من اختيارها يعود لعدة أسباب موضوعية :
-       أن مصائب القدس نبعت من العاصمة اللندنية، وخاصة وعد بلفور 1917، ثم قرار السلطة البريطانية إحلال المتشردين اليهود مكان قواتها في الثلاثينات والأربعينات، والذين أحكموا سيطرتهم على فلسطين سنة 1947.
-       أن بريطانيا لازالت تستقطب الرأي العالم الأوربي، لوجود شريحة من المجتمع المدني تناصر الحق وقضايا الكفاح.
-       إستراتجية المواجهة ( مشروع الغرقد الصغير) تقتضي نقل المواجهة الإعلامية من المجال الإسلامي إلى المجال الأوربي، فالغرب هم سبب قوة ووجود إسرائيل، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكونوا سبب فنائهم، ولذلك نراهن على المعركة الإعلامية كشرط من شروط نجاح مشروع الغرقد الكبير. إن إمكانية تغيير الرأي الأوربي أصبحت اليوم ممكنة، فالأجيال الغربية المعاصرة لا تشعر بتأنيب الضمير تجاه اليهود، فهم لم يشاركوا في الحرب العالمية الثانية ولم يتورطوا في قضايا التعذيب والمحرقة كما يزعم اليهود. إن الجيل الغربي المعاصر أصبح أكثر تحررا من أبائه وأجداده من سلطة فكرة معاداة السامية.           
7- إنشاء المرصد العالمي لحقوق القدس.
تعتبر فكرة المراصد الحقوقية من أهم الأفكار الرائدة في مكافحة القوى المناهضة للسلام والخير العالمي، وتستطيع أن تؤثر في الرأي العالمي وتُجنده من أجل الدفاع عن القضايا العادلة والإنسانية. وغالبا ما ينصاع الساسة لمطالب المرصد خوفا من الرأي العام، والنتائج المترتبة عن المطالبة والمغالبة التي يرفعها.
   ونحن نأمل في السّياق ذاته، أن يتأسس المرصد العالمي للقدس، والذي يتشكل من كبار المحامين والقضاة والفقهاء. ويكون بمثابة صوت القدس في المحافل الدولية، ويزاول مهمة المرافعة عنها في المحكمة الدولية.
    إن أول مهمة للمرصد العالمي لحقوق القدس، هو ترسيم الهوية العربية الإسلامية للقدس، وتقديم السلطة الإسرائيلية للمحاكمة العلمية بتهمة تهويد القدس، وطمس التراث والمعالم التاريخية والتي أصبحت بفعل التقادم التاريخي ملكا للعالم بأسره. 
   لقد أثبت التاريخ قوة التأثير التي تمارسها المراصد العالمية، خاصة في عصر عولمة المعلومة والانتشار الرهيب للوسائط الإعلامية. إن القدس لا بد أن تصبح قضية العالم بأسره، فهي ليست قضية العرب والمسلمين فقط، بل قضية كل أحرار العالم.

2- إستراتجية التحرير
     إن نصرة القدس عملية متواصلة وممتدة في الزمن، تبدأ بالنصرة المؤقة وتنتهي بالتحرير الكبير. وتحرير القدس ليس بالأمر الهين، لأن القدس أصبحت بفعل السنين معضلة دولية، وقضية معقدة تعقيدا، خاصة دخولها ضمن مجال الصراع الثلاثي على هُويتها، ونقصد الديانات الثلاث :" فالقدس إذن هي الموقع المقدس بالنسبة للأديان السماوية الثلاث. وهذا ما يضفي على الصراع بشأنها تعقيدات إضافية، فعندما يتداخل البعدان السياسي والديني تصبح إمكانية المساومة على المكان محدودة للغاية."[11]     
    إن التحرير المرتقب ليس وليد الصّدفة والأقدار، بل هو وليد التفكير والتنظير، ويفترض التريث والتمهل، لأن نهاية التاريخ تتطلب قوة الإرادة والفعل معا.
    يؤمن الفكر الغربي بنهاية التاريخ كمقولة فلسفية، وكفعل إيديولوجي متولد من حركية الأفكار المتناقضة، فحسب فرديريك هيجل سينتهي التاريخ عند نقطة انتفاء النقيض بعد سلسلة من الجدل الفكري بين القضايا ونقائضها، والذي سيُحسم آخر الأمر للفكرة الأصلح. إن المطلق عند هيجل ينبلج عندما يتحد العرق الأرقى في العالم مع الرب، هذا الاتحاد هو إعلان عن موت النقيض وسيادة العرق السيد فوق الأرض، ولم يكن العرق السيد عند هيجل سوى العرق الآري.
   وبالرغم من تهافت نظرية هيجل حول نهاية التاريخ ، وسقوط نظرية العرق السيد بعد هزيمة النازيين إلا أن الغرب استثمر نهاية التاريخ مرة أخرى باستبدال العرق السيد بالنظام الأفضل، فحاول فرانسيس فوكو ياما التنظير للنظام الديمقراطي الرأسمالي كقضية مسيطرة تُلغي كل النظم المضادة لها، واعتبر أن النظام الرأسمالي سيسود العالم، عندئذ يصبح العالم وحدة واحدة.
      نؤمن نحن كمسلمين أن نهاية التاريخ ستكون عندما يُحقق المسلم شاهديته الثانية، والتي ترتبط بفلسفة الغرقد الكبير أو يوم التحرير الأخير، إن الإنسان الأخير هو الذي سيحرر القدس من اليهود  وعلامته زوال إسرائيل من الوجود زوالا نهائيا. إن النصوص الدينية تشير إن القيامة لا تقوم حتى يُقدم المسلم على تحرير بيت المقدس من نوابت الأرض.     
        إن تحقيق الشاهدية الثانية، وإبرام صفقة نهاية التاريخ مع الله تستدعي التفكير والإعداد لمرحلة الحسم الأيوبي ( مشروع الغرقد الكبير) عن طريق بناء الإنسان والتاريخ، وتجديد العهد مع الله والأرض المباركة. وأول عمل نقول به من أجل تجديد العهد الأيوبي هي توعية الناس على أن القدس ليست للفلسطينيين فحسب بل هي قضية الجميع : " إن القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، وإن كانوا أولى الناس بها، وليست للعرب وحدهم، وإن كانوا أحق الأمة بالدفاع عنها؛ وإنما هي  لكل مسلم أيا كان موقعه في مشرق الأرض أو مغربا، في شمالها أو جنوبها، حاكما كان أو محكوما، متعلما أو أميا، غنيا أو فقيرا، رجلاً أو امرأة، كلٌّ على قدر مُكنته واستطاعته."[12]
    نراهن على التربية والتعليم في نشر فلسفة التحرير، وتكوين المسلم الذي سيحرر الأرض المباركة ويُنهي التاريخ لصالحه.
      نحن لا نتعجل يوم التحرير بل نتعجل التنظير له، ونطلب من كل المفكرين العرب أن يعملوا على وضع الأرضية الفكرية والفلسفة ليوم تحرير القدس.  

   
                                 وإن تنصروا القدس اليوم ينصركم الله يوم القيامة
                                                     أ.د عبد القادر بوعرفة.
**المراجع والمصادر
-       .Grousset, René ;Histoire des Croisades, Plon, Paris, 1936
-       الزين سمير و نبيل السهلي، القدس معضلة السلام، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ط1، 1997.
-       سويد، ياسين ، حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، دار الملتقى، بيروت، 1997.
-       عمارة، محمد (د)، القدس بين اليهودية والإسلام، دار نهضة مصر، 1999.
-       القرضاوي، يوسف، القدس قضية كل مسلم، 1997.
-       القرعي، أحمد يوسف، القدس من بن غوريون إلى نتانياهو، مركز الدراسات العربية، ط 1، 1997.
-       هيثم الكيلاني، وآخرون، القدس والحال الفلسطيني، المؤسسة العربية للنشر، ط 1، 1999. 




* - أستاذ تعليم العالي ومدير مخبر الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية بالجزائر / جامعة وهران.
[1] - سويد، ياسين ، حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، دار الملتقى، بيروت، 1997، ص 7.
[2] - Grousset, René ;Histoire des Croisades, Plon, Paris, 1936, P.816.
[3] - رواه الأزرقي في أخبار مكة بسند صحيح ( 2/65 )، ورواه ابن أبي شيبة أيضا .
* - مدينة الله لا تعني المعنى الذي أراده سان أوغسطين في مؤلفه الشهير ( Cite de dieux ).
[4] - عمارة، محمد، القدس بين اليهودية والإسلام ، دار نهضة مصر، 1999، ص 7.
*  مصطلح الغرقد نوظفه توظيفا رمزيا ، ولا نريد من ورائه نصية الحديث المروى عن أبي هريرة  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام  قال : { لا تقوم الساعة حتى يقتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجرة فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.}  البخاري:3/232، أو 4/51.
[5] - عمارة، محمد، القدس بين اليهودية والإسلام ، دار نهضة مصر، 1999، ص 42.
[6] - عمارة، محمد، القدس بين اليهودية والإسلام ، دار نهضة مصر، 1999، ص 34/35.
[7] - القرضاوي، يوسف، القدس قضية كل مسلم، ص 66.
* -  كتاب د.  مصطفى عبد الغني الموسوم ب(  الأوقاف على القدس )  صدر سنة 2007 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، ووقع في 358 صفحة.
[8] - عن الحياة اللندنية- 4/7/2007.
* -  المثال على ذلك ما يقوم به الإسرائيلي اليميني آريه كينج، المقرب من الملياردير اليهودي الأمريكي آرفين موسكوفيتش  الذي أسس الأشهر الأخيرة جمعية : "صندوق من أجل أرض إسرائيل" والذي يهدف من خلاله لتوسيع رقعة الملكية اليهودية في البلدة القديمة.
[9] - مدير دائرة الخرائط التابعة لجمعية الدراسات العربية.
[10] -  عن الحياة اللندنية- 4/7/2007.
[11] - الزين سمير و نبيل السهلي، القدس معضلة السلام، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ط1، 1997،ص 15.
[12] - القرضاوي، يوسف، القدس قضية كل مسلم، ص 2.