الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012


· مدرسة أرسطو ( العقلانية الواقعية)

 *      حياته
ولد أرسطو (أرسطاطاليس) في عام 384 ق.م. وعاش حتى 322 ق.م. في ستاجرا. وهي مستعمرة يونانية وميناء على ساحل تراقيا. و كان ابوه نيقوماخوس طبيب بلاط الملك امينتاس المقدوني ومن هنا جاء ارتباط أرسطو الشديد ببلاط مقدونيا، الذي أثر إلى حد كبير في حياته ومصيره فكان مربيالإسكندر. لقد دخل أكاديمية أفلاطون للدراسة فيها وبقي فيها عشرين عاما. ولم يتركها الا بعد وفاةأفلاطون. كان من أعظم فلاسفة عصره وأكثرهم علما ومعرفة ويقدر ما اصدر من كتابات بـ 400 مؤلف ما بين كتاب وفصول صغيرة. عرف بالعلمية والواقعية. يعرف أرسطو الفلسفة بمصطلحات الجواهر essence ،فيعرفها قائلا أنها علم الجوهر الكلي لكل ما هو واقعي. في حين يحدد أفلاطون الفلسفة بأنها عالم الأفكار ideaقاصدا بالفكرة الأساس اللاشرطي للظاهرة.
         بالرغم من هذا الإختلاف فإن كلا من المعلم والتلميذ يدرسان مواضيع الفلسفة من حيث علاقتها بالكليuniversal ،فأرسطو يجد الكلي في الأشياء الواقعية الموجودة في حين يجد أفلاطون الكلي مستقلا بعيدا عن الأشياء المادية، وعلاقة الكلي بالظواهر والأشياء المادية هي علاقة المثال prototype( المثل exemplar ) و التطبيق . الطريقة الفلسفية عند أرسطو كانت تعني الصعود من دراسة الظواهر الطبيعية وصولا إلى تحديد الكلي وتعريفه، أما عند أفلاطون فكانت تبدأ من الأفكار والمثل لتنزل بعد ذلك كتب أرسطو فى كل العلوم. وقد ألف نوعين من الكتب، كتب عامة وأخرى خاصة. العامة تلك الكتب البعيدة عن المصطلحات العلمية والتى كتبها بأسلوب علمى مهذب وهذه هي الكتب التي أثنا شيشرون على أسلوبها. أما مؤلفاته الأخرى فقد كتبها لتلاميذه وهى تحتاج إلى إلمام بقسط من العلوم ومعرفة بالاصطلاحات العلمية التى اختارها أرسطو والتي بدونها تصبح قراءتها عبثا.
         وأسلوب أرسطو يمتاز بجفافه وشدة تركيزه، ويرجع ذلك إلى أن كتاباته كانت بمثابة نقط مركزة يسترشد بها المعلم الأول أثناء الشرح فى الليكوم ولكن شيشرون يذكر أن أسلوب أرسطو في عهد الشباب كان متأثرا بجمال أسلوب أفلاطون ورشاقته.
         1ـ دور الشباب: تجد فيه محاورة أوديموس مثلا وهى على غرار فيدون لأفلاطون، ونلاحظ أن أرسطو فى هذا الدور متأثر بتعاليم الأكاديمية.
         
2ـ دور الانتقال (أرسطو الكهل): يضع أرسطو فيه كتابا عن الفلسفة ينتقد فيه نظرية افلاطون فى المثل ويضع الخطوط العريضة لمذهبه فى الميتافيزيقا والطبيعة والأخلاق والسياسة.
         إلى تمثلات الأفكار وتطبيقاتها على أرض الواقع.
         ـ الدور الخير: وهو مرحلة النضج الكامل وهى تمثل الثلاثين سنة الأخيرة من حياة أرسطو، وضع أرسطو مؤلفاته الرئيسية على صورة مذكرات تعليمية.
         مؤلفاته
وتنقسم كتب أرسطو إلى المجموعات الآتية:
         
1ـ الكتب المنطقية: وقد سميت بالأورجانون أى ىلة الفكر منذ القرن السادس الميلادى وهى : المقولات، والعبارة، والتحليلات الأولى، والتحليلات الثانية، والجدل، والأغاليط.
         
2ـ الكتب الطبيعية وتتضمن:
         أ- كتب الطبيعة أو السماع الطبيعى وهو مؤلف من ثمانية أجزاء.
         ب- كتاب السماء.
         ج- كتاب الكون والفساد.
         د- كتاب الظواهر الجوية.
         
3ـ الكتب البييولوجية وهى:
         تاريخ الحيوان وحركة الحيوان ويضم اليها كتاب النفس والرسائل الصغرى المتصلة به وعددها ثمانية. وقد سميت بالبيعات الصغرى وهى: الحس والمحسوس، والذكر والتذكير، والنوم واليقظة، وتعبير الرؤيا فى الأحلام، وطول العمر وقصره، ورسالة فى الحياة والموت، ورسالة فى النفس، ورسالة فى الشباب والشيخوخة.
         تأسيس مدرسة اللكيوم
         في عام 334 عاد إلى أثينة، وافتتح فيها مدرسته الشهيرة لتعليم البلاغة والفلسفة واختار مكانها في أجمل دار للتدريب الرياضي في أثينة، وهي طائفة من المباني خاصة بأبلو ليقيوس تحيط بها حدائق غناء، وطرقات مسقوفة، وكان في صدر النهار يلقي على الطلاب المنتظمين فيها دروساً في موضوعات راقية، وفي عجزه يلقي محاضرات على جماعات من الشعب أقل انتظاماً وأقل رقياً ممن يستمعون إليه في الصباح. كانت أغلبها في البلاغة، والشعر؛ والأخلاق والسياسة، وقد جمع في هذا البناء مكتبة كبيرة، وأنشأ فيهِ حديقة للحيوان ومتحفاً للتاريخ الطبيعي، وسميت المدرسة فيما بعد، باللوقيون بالمشائين وسميت فلسفتهم بالمشائية. نسبة إلى المماشي المسقوفة (Perptaoi)الأن أرسطوطاليس كان يحب أن يسير فيها مع طلابه وهو يحاضرهم. وقامت منافسة حادة بين اللوقيون التي كان معظم طلابها من الطبقة الوسطى، وبين المجمع العلمي الذي كان يستمد معظم أعضائه من طبقة الأشراف، ومدرسة إسقراط التي كان يؤمها في الغالب يونان المستعمرات. ثم خفت حدة هذه المنافسة فيما بعد حين وجه إسقراط اهتمامه إلى الفلسفة، وحين أخذ المجمع العلمي يعنى بالعلوم الرياضية، وما وراء الطبيعة، والسياسة، وأخذت اللوقيون تعنى بالتاريخ الطبيعي. وكان أرسطو يطلب إلى تلاميذه أن يجمعوا المعلومات في الميادين العلمية المختلفة وينسقوها: كعادات البرابرة؛ ودساتير المدن اليونانية، وتواريخ الفائزين في الألعاب البيثية والديونيشيا الأثينية، وأعضاء الحيوانات، وعاداتها، وأصناف النباتات وتوزيعها؛ وتاريخ العلوم والفلسفة، وأضحت هذه البحوث ذخيرة طيبة من المعلومات يستمد منها رسائلهم المختلفة التي يخطئها الحصر، وكان أحياناً يولي هذه المعلومات من الثقة أكثر مما تستحق. وكتب لأنصاف المتعلمين نحو سبع وعشرين محاورة يرى شيشرونوكونتليان أنها تضارع محاورات أفلاطون؛ وهذه المحاورات هي التي قامت عليها شهرته في الزمن القديم؛ وقد ضاعت فيما ضاع على أثر استيلاء البرابرة على روما.
·       عناصر فزياء أرسطو
         النار, التي هي ساخنة وجافة.
         التراب, التي هي باردة وجافة.
         الهواء, التي هي ساخنة ورطبة.
         الماء, التي هي باردة ورطبة.
         الأثير, وهو العنصر المقدس الذي يكون دوائر السماء والأجرام السماوية (النجوم والكواكب).
          المعرفة الفلسفية
         أشرف المعارف الإنسانية وسبيلها العقل الواقعي
         أن موضوعاتها أربعة
         الوجود
         الميتافيزقا
         الأكسيولوجيا
         الإبستيمولوجيا
         . إن معيار صحة الأفكار هو عدم تناقضها مع ذاتها ومع الواقع.
          النفس
         "الدافع الداخلي الأول في الكائن العضوي”
         والنفس ثلاث درجات: نامية، وحاسة، وناطقة. فالنبات يشترك مع الإنسان والحيوان في النفس النامية- أي في قدرته على تغذية و النماء الداخلي، وللحيوان والإنسان النفس الحاسة- أي قدرة الإحساس، وللحيوانات الراقية والإنسان نفس "منفعلة عاقلة"- أي قدرة على الأشكال البسيطة البدائية من الذكاء، والإنسان وحده هو الذي له نفس "فاعلة عاقلة"- أي قدرة على التعميم والابتكار. وهذه النفس الأخيرة جزء أو انبعاث من قوة الكون الخالقة العاقلة وهي الخالق، وهي بهذا الوصف لا تموت. ولكن هذا الخلود غير شخصي، أي أن الذي يبقى هو القوة لا الشخصية؛ والفرد مركب من المواهب النامية والحاسة والعاقلة؛ وهو لا يصل إلى الخلود إلا نسبياً؛ وذلك عن طريق التوالد، وبطريقة غير شخصية عن طريق الموت . والله هو "صورة" العالم أو "حقيقته الفعلية Entelechy"-طبيعته الفطرية، ووظائفه، وأغراضه كما أن الروح هي "صورة" الجسم.
          السياسة والأخلاق
         كلاهما علم مدني، الأول خاص بسلوك الجماعة والثاني بسلوك الفرد
         لا يهم النظام بقدر ما يهم الغاية من وجوده وهي تحقيق المصلحة العامة
         الأنظمة على العموم ثلاثة – الفردي – الملكي- الشعبي
         المدينة هي أرقى تطور عرفته الأسرة
         السعادة هي الوصول إلى إشباع الحاجات المادية للإنسان أصلا.
          المادية الأرسطية
         يعتبر أرسطو أن الظواهر الطبيعية مرتبطة بأربع علل علة ميتافيزقية والباقي مادي
         العلة الفاعلة وهي تنبعث من الحالق ( المحرك الذي لايتحرك)
         العلة الغائية ( حكمة الخلق)
         العلة المادية ( السبب المادي)
         العلة الصورية ( التي ترتبط بشكل الهيولى).
          نموذج

         وهو يقسم المملكة الحيوانية قسمين، ذات دم وغير ذات دم: إنيما، وأنيماAnaima, Enaima    وهما يقابلان بوجه التقريب تقسيمنا إياها إلى "فقاريات" و "لا فقاريات". ثم يعود فيقسم الحيوانات غير ذات الدم إلى صدفية، وقشرية، ورخوة، وحشرات، ويقسم الدموية إلى أسمال، وقوازب ، وطيور، وثدييات.
         الخلاصة
         المدرسة الأرسطية هي مدرسة تمتاز بالخصائص التالية
         العقلانية
         الواقعية
         المادية
         الغائية
         وبالتالي استطاع أرسطو من خلال مدرسته أن يُهيمن على تاريخ العلم إلى غاية القرن الثامن عشر.

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

مقدمة كتاب أعلام الفكر والتصوف بالجزائر / أ.د عبد القادر بوعرفة


مقدمة كتاب أعلام الفكر والتصوف ( وهران)
في البدء كان
     منذ العهود القديمة والغابرة عرفت بلاد الجزائر حواضر علمية وثقافية،كان لها الأثر الكبير في تفتيق العقل البشري،و تشبيع الساحة الفكرية العالمية بالفكر وما يتبعه من لواحق إبداعية تتجلى الحضارة من فيض عطائها،إن العقل الجزائري هُمّش وغُيّب من طرف الأنتلجنسيا الجزائرية أولا، ذلك أن الصراع الفكري بين أبناء الجزائر جعل كل طرف يتمسك بأعلام ورجالات خارج بلازما وجوده فإما توجه سافر نحو الغرب أو انحياز مقيت للشرق.
 أصبح النشء الجزائري عموما لا يعرف من تاريخ بلاده العلمي إلا بعض المعالم الباهتة والرموز الطافحة على هامش التاريخ،إن البحث والتنقيب عن أعلام الفكر في الجزائر على امتداد حقبها التاريخية يُجلى الغشاوة عن البصر ويكشف لكل باحث مدى غِنى الجزائر بالعلماء والمفكرين الذين آثروا التراث العالمي بالمؤلفات والمصنفات التي لحد الساعة أغلبها يظل مجرد مخطوطات تنتظر الأرضة لتلتهم ما تبقى من صفحاتها.
  لم يكن هناك تأريخ للفكر في شخص العَلَمِ، نستثني فترة القرون الوسطى أين نجد الغبرينى يؤرخ لعلماء بجاية من خلال كتابه (عنوان الدراية في أخبار علماء بجاية)، ونلمس نحوه عند ابن فرحون وهو يؤرخ لعلماء المذهب المالكي في مصنفه ( الدّيباج المُذهب في أعيان المذهب ).
أما في العهد القديم والمتمثل في الحضارة الأمازيغية، فنلاحظ ما يلي:
1 ـ الحواضر العلمية تمركزت في الشرق الجزائري،وتوزعت في ربوع نومديا ومدارواش وبونة وسيرتا،بينما لم نشهد إلا بعض الحواضر في الوسط كشرشال (بول).
2ـ العقل الجزائري توزع بين المرجعية الأمازيغية الوثنية الأكثر بساطة في تشكلاتها المعرفية والمرجعية و اليونانية _ الرومانية التي تحمل إرثا حضاريا أكثر تجذرا في طبقات المعرفة الإنسانية المتراكمة.
3ـ الفكر الجزائري وقع في دائرة التوفيق بين النّص المسيحي الوافد والمتن الفلسفي اليوناني فنتج عن ذلك إما محاولة للتّوفيق بينهما توفيقا يجعل الدين المسيحي الجديد أكثر احتواء له وثراء منه،ونلاحظه من خلال أعمال سان أوغسطين في ( مدينة الإله) أو في رسالة                              ( السعادة)،ومن جهة أخرى محاولة رفض أو قبول الدين الجديد عن طريق الفعل والعقل،كما فعل أبوليوس في مشواره الفكري الأول قبل أن يحدث له التَّحول الجذري في كل جوانب حياته، ونلمس ذلك من خلال كتابه (الدّفاع) يعكس التَّحولات التي تحدث للمفكر الحر،كما يعكس المعاناة التي يعيشها كل مفكر في مجتمع متعدد المشارب الثقافية والإثنية.
 كما نلمس محاولة أخرى تحاول تغليب التراث المحلي الوثني والاعتزاز بالإرث القومي،كما فعل يوبا الثاني في كتابه (إبيكا) بالرغم من كونه تربى في القصر الروماني.
 ومن خلال أبوليوس صاحب (الحمار الذهبي) و يوبا مؤلف (إيبكا )و أرنوب كاتب (رسالة رد على الوثنين)،ثم سان أوغسطين مبدع (مدينة الإله) نكتشف فضاء للفكر المتنور،وعقلا يحاول أن يؤسس لنفسه نسقا متميزا يتلاقح فيه المد الفلسفي الإغريقي والمد المسيحي في تشكلاته الأولى، وبعد القرن الثالث الميلادي يشهد العقل الجزائري بياتا حضاريا لم تعلن نهايته إلا مع بداية القرن الثالث الهجري الموافق للقرن التاسع الميلادي.
تفتق العقل الجزائري في العصر الوسيط على معضلات علم الكلام بالخصوص نتيجة دخول المذهب الإباضي وتأسيس الدولة الرستمية بتيهرت، وكان للمناظرة الكلامية تأثير كبير في خلق مجال للتنظير الإيديولوجي والمذهبي ،فَأُلفت في ذلك المؤلفات ونسخت المجلدات،وكان من أبرز أعلام هذه الفترة المتقدمة من التّواجد الإسلامي علماء الإباضية كالتيهرتي وعبد الله اللّمطي.
 لقد تمركز الإشعاع الفكري في حاضرتين بجاية وتلمسان ،وكانت أهم القضايا المُعالجة في تلك الفترة تتمثل أساسا في مسائل علم الكلام التقليدية ،كالجبر والحرية، التشبيه والتجسيم،فانطبع التأليف بالردود وفن المحاجة والمغالبة، ويتجلى بصورة ملفتة في كتابات أبي القاسم القسنطيني (تنزيه الإله وكشف فضائح المشبهة الحشوية) و الكومي التلمساني صاحب كتاب( فرقان الفرقان) وأبي بكر الوزان صاحب رسالة(الرد على الشُّبوبية).
  بعدها انتقل العقل إلى ميادين العقيدة والتوحيد ،حيث أُلفت في ذلك الرسائل الطوال و المؤلفات الضخام، أمثال ما كتبه الإمام عبد الله السنوسي( عقيدة أهل التوحيد)و( العقيدة الوسطى) ثُم (العقد الفريد في حل مشكلات التوحيد)، وكذا أبي زيد الثعالبي صاحب ( الأنوار المضيئة في الجمع بين الشريعة والعقيدة).
 وفي أواخر القرن الخامس عشر غلب التأليف في مجال التَّصوف والزهد، حيث برز علماء أمثال ابن زكري الحائك والشيخ طاهر بن زيان القسنطيني صاحب كتاب ( القصد إلى الله).
     ومما سبق نلاحظ أن العقل الجزائري في العصر الوسيط امتاز بما يلي:
1_ التركيز على مسائل الفقه وكثرة التأليف في بعض الموضوعات الفقهية بصورة غير موضوعية،خاصة مسائل فقه الفروع.
 كما نلاحظ تكرارا مملا في إعادة شرح بعض الرسائل الفقهية كرسالة خليل بن إسحاق التي شُرحت أكثر من عشرين مرة .
 ورسالة ابن الحاجب أُلف حولها ما ينيف عن عشرين مدونة كشرح الونشريسي وابن زكري والنقاونسي والعنّابي ...                     
2ـ غلبت العقل السِّجالي المهتم بالفروع والعوارض،مما جعل الكتاب مجرد من التّحليل و التّركيب ،بل يحمل مضمون المطارحة والتي هي من سمات أمراض الحضارة التي تدل على علامات بداية الأفول.
3 ـ  غلبت الأراجيز الشعرية على الكتابة العلمية بالخصوص كالمنطق              (الأخضري) في السُّلم المرونق،وبالرغم من كونها طريقة ناجحة لترسيخ المعلومات وحفظها، إلا أنها علامة من علامات الانحطاط،كما أنّها طريقة سلبية كونها تجعل العقل لا يفكر ولا يبدع وإنّما يجنح إلى حصر المعرفة بالكم، وأشهر الأراجيز أرجوزة الأخضري والبيدري و المشدالي.
4 ـ  حضور المخيال الأسطوري في الفكر الصوفي،ويتجلى بالخصوص في شخص الشيخ ،حيث نلاحظ عقلا يبني أصناما بشرية في مخياله الثقافي يغدقها بفيض من الصفات لا نجد نظيرا لها في الملاحم، وكمثال على ذلك يكفي مطالعة كتاب (عنوان الدراية) لأبي العباس الغبيريني.
5 ـ   بروز ظاهرة التّنوع والاختلاف،مما يعطينا صورة واضحة عن التعايش الثقافي والسِّلم الفكري في وسط الأنتلجنسيا الجزائرية، والتي لم ترفض الأخر،وكنموذج ما وقع بين المغيلي والإمام السيوطي والذي سيكون موضوع دراستنا.
6 ـ  قد لا يخطئ المحلل حين يجزم أن النخبة المفكرة الجزائرية أسست لسلطة المعرفة بدل معرفة السُلطة ، والدليل في ذلك ما نلاحظه في أعمال عبد الله الأصولي و عبد الكريم المغيلي.
7 ـ  الاهتمام بالآخر،ـ المفكر ـ  وتأسيس مبدأ مناصرة العقل أينما كان كمناصرة عبد الله الأصولي لفيلسوف قرطبة ابن رشد.
8 ـ  ظهور أولى بوادر العقل النقدي المتأسس على قواعد إبستيمية، خاصة في مجال النقد الأدبي ،كما هو الحال في أطروحات ابن رشيق المسيلي خاصة كتابه ( العمدة) و(المساوئ).
    وفي ختام المقدمة لابد من الاعتراف أن نقص المصادر الأصلية وعدم العناية بالمخطوطات صعّب من عملية البحث العلمي، فالإطلاع المباشر على التراث هو الحل الوحيد الضامن والكفيل لتأسيس رؤية نقدية،وأرضية خصبة لتفعيل الجو الثَّقافي الجزائري من جديد.
 وكما قال الفيلسوف ديدرو : " إذا كانت الجنة دار خلد المؤمنين فإن الخلف خلد وجنة الحكماء".
  ولعل الفكرة ذاتها هي التي دفعت أبا القاسم الحفناوي إلى تأليف كتابه     ( تعريف الخلف برجال السلف).
  إن الوجود الحضاري لأمة ما  يقاس فقط بما أنجبته من أعلام وعلماء، وبما أنتجته من روائع الفكر والأدب.

  لقد آن أن نقول أن الجزائر بماضيها العريق و حاضرها العتيق صنعت مدرسة فكرية تمتد جذورها في كل ثقافات العالم.

كتاب الحضارة ومكر التاريخ / أ.د عبد القادر بوعرفة


مقدمة كتاب الحضارة ومكر التاريخ (الجزائر)


    بيّنا في كتابنا الموسوم: الإنسان المستقبلي في فكر مالك بن نبي  بأن  الحضارة في العالم الإسلامي تتعلق أساسا بالإنسان أكثر من عنصري الوقت والتراب، ذلك أن التراب والوقت يرتبطان من حيث الوعي والحضور الفعال بالإنسان، وبالتالي يصبح المشكل الحقيقي في الحضارة هو الإنسان بالدرجة الأولى.
  وفي الكتاب الموالي، سنحاول قدر الإمكان، تحليل ظاهرة التَّحول الحضاري وأفول مسيرة الإنسان الشاهد، وفق فكر مالك بن نبي أولا ثم من خلال الفكر النقدي ثانيا، كما أنه لا بد أن نحدد أيضا الأبعاد الأساسية لمشكل الحضارة بغية وضع مشكلة الإنسان في حقولها المعرفية وأطرها الحضارية، عندئذ يمكن القول أن النقد الحضاري يتجه نحو غاياته الكبرى فقط عندما يعي الإنسان وضعه الحضاري في لعبة عالم الكبار.
      إن إشكالية الإنسان في الفكر البنابي تتخذ صورة عميقة وخطيرة، وتلك المسألة فرضت عليه عدم اللجوء إلى منهج التجزئة أو الذرية المعتادة من منطلق فهمه لمشكلات الحضارة، بل حاول أن يتجاوز - كما نرى- هفوات مفكري النهضة في معالجة مشكلة الحضارة عموما.
      ومن نَحو الحضارة نعتقد اعتقادا جازما أن الإنسان علة ومقياس كل الأشياء من باب الممكن والفعل، بغض النظر عن الحتميات الطبيعية والغيبية. ولست أريد من ذلك الرجوع إلى القول السفسطائي المُمَجد للإنسان، بل التركيز على أن قولهم لم يكن مخالفا للصواب لو وضع في باب الممكن و النسبي. فكل ما هو قوام الموجود في الوجود  يفتح إمكانية الممكن والمحتمل، وكل ما هو ممكن يرتبط بالفعل والقدرة، أو كما قال فيلسوف قرطبة ابن رشد بالاستطاعة.
      والمسلم كنموذج للإنسان العالمي من خلال أفق الغَدية [ نقصد بها الغدDemain ] المرتبطة بالنظرية السلفية استطاع في الماضي أن يُحرك ويتحرك نتيجة وعيه لحقيقة التدافع الحضاري ومبدأ الاستخلاف الإلهي، فاقتحم باب الممكن من خلال حركة الفتح العالمي واستند على الفعل [ التقوى ]* كمعيار التفوق.
       إن ما نلاحظه اليوم من أفول وانحطاط لحضارة الإسلام بعد عالميتها الأولى، هو مظهر من مظاهر سنن التداول الكوني، وهذه الأخيرة تفرض العودة المُتقدمة نحو أفق الحضارة المرتقبة، إنها تشبه دورة القمر تماما، فالحضارة تبدأ أول ما تبدأ كالهلال في يومه الأول، ثم تكبر حتى تصير بدرا مكتملا، لكن بعد الاكتمال تأتي مرحلة الأفول والعتمة. وإذا كانت دورة القمر تتحكم فيها سنن كونية بحتة فإن دورة الحضارة مرتبطة أشد الارتباط بالمحرك الذي يتحرك، الذي هو الإنسان، الخليفة في الأرض والموعود بالخلود في الجنة. وليس هذا التشبيه قياسا على ما قدمه أرسطو حول الصانع الذي وصفه بالمحرك الذي لا يتحرك، بل الغرض منه تحرير الإنسان من الحتميات المُحركة لمسيرته.
      ومما سلف يبقى الإنسان عند الفلاسفة والعلماء حجر الزاوية في الوجود كله، فلا حضارة بدون بنائه، ولا فلسفة بدون مركزيته، ولا تكنولوجيا بدون إنجازاته.
    وعلى هذا الأساس، استحق الإنسان الاستخلاف في الأرض، والأمانة المذكورة في القرآن[1]  لم تكن أمانة العبادة فحسب بل كانت أمانة الفكر والتدبير، الحضارة والعمارة.. لأن المُخاطب هو الإنسان المُستخلف في الأرض، واللفظ في الآية الكريمة يفيد العموم لا الخصوص.
    وإذا كنا اليوم نقر بتراجع المسلم عن الخط الإستخلافي الذي خُلق من أجله أصلا ( الشهادة الحضارية )، فإنه يتحتم علينا اليوم وغدا أن نعود إلى ذاته دراسة و تحليلا من أجل معرفة إمكانية البعث و الإحياء، والتمهيد للعالمية الإسلامية في دورتها الثانية أو الخاتمية المنشودة لأمة الرحمان، لأن القاعدة الأكيدة في معادلة الحضارة هي كل أفول للحضارة يعني بالضرورة أن أفول الإنسان كان السابق عنها، وبالتالي فإن البناء الحضاري يستوجب الرجوع إليه أولا لكونه الرأسمال الحقيقي والرمزي لكل أمة تحمل أبعاد الوجود.
    ولا بد أن نعترف منذ البداية أن الدراسة ليست قراءة تفسيرية لفكر مالك بن نبي بل هي دراسة نقدية لمرجعياته الفكرية ولنظرياته المتنوعة، التي تخص على العموم موضوع الإنسان والحضارة، وبالتالي فالموضوع المقترح اخترنا أن يكون حول الحضارة ومكر التاريخ لما للموضوع من علاقة وطيدة بفلسفة التاريخ.
     إن أزمة الإنسان العربي المعاصر، ينبغي أن تعطي لها الأولوية التامة والهامة، من خلال وضع الأعمال الفكرية بمنأى عن الإيديولوجية الظرفية الحانقة والمترعة بالشك والحقد، والذرية الفكرية القاتلة التي لم تزد الأزمة إلا اتساعا والانحطاط إلا ترسخا. فنحن لا نريد أن يُدرس الإنسان مفككا ضمن حركة الحضارة ومكر التاريخ، بل ينبغي أن تكون الدراسة شاملة لكل مناحي الحياة والوجود. فلقد بات واضحا أن طريقة التجزئة لا تنفع في تحقيق العالمية الإسلامية الثانية من الأندلس إلى أندونسيا، بل هي تفيد التاريخ في تجسيد مكره وبقاء عصر دويلات الأعراب على حالها منذ عهد التشرذم الأول.
      وتكمن المفارقة في الفكر العربي المعاصر على الخصوص والإسلامي على العموم عندما يعمد البعض إلى دراسة العقل فقط، والبعض الآخر القلب والإيمان، و طرف ثالث اليد والإنتاج.. فهذا يعني أن العقل لا يزال تحت نير المكر والوهم، لأن العقل المتحرر من مكر التاريخ هو الذي يلج و يلح على ضرورة دراسة الإنسان كوحدة متكاملة، و كذات شاعرة بوجودها في أبعاد التاريخ الثلاثة.
     إن الفكر الغربي أصبح سيد التاريخ والحضارة عندما استطاع أن يمكر فوق مكر التاريخ، لكنه حين جعل الإنسان مجرد رمز أو شفرة في عقل إلكتروني مُجَرَد من كل الصفات الإنسانية، بل هو آلة مزدانة بالشعور كما يرى العالم هوكسلي. عندئذ أصبح الفكر الأوروبي المعاصر ينزاح نحو مكر التاريخ، ويصحو على استشرافات أزفولد شبينغلر في كتابه  أفول الحضارة الغربية سنة 1924 أو رجاء غارودي في كتابه البنيوية موت الإنسان.
      إن أبرز ما نخلص إليه كبديهة هي أن  الإنسان الشاهد  يعتبر كنموذج مستقبلي في عالم قتل الإنسان وجرده من كل ما يحمل من إنسانية وأبعاد، وبالتالي فالشاهد حتما سيتحرر من مكر التاريخ في لحظة وعيه لتحديات الوجود، وسيكون معلما فكريا يمكن على ضوء النظرية البنابية أن يتجسد تاريخيا، وأن يجد لنفسه موضعا أساسيا و رياديا في حضارة العالم القادمة.
       كما نلاحظ وجود نزعة إنسانية مفتوحة لا مغلقة، لا يحدها خط طول و عرض ولا يأسرها مذهب أو دين، بل نزعة إنسانية عالمية منبثقة من المبدأ القرآني الشامل.
       ولعل أبرز سمة في الفكر البنابي مطابقة التاريخ لحركة الإنسان، فالإنسان لا يتعالى على التاريخ، بل ينسجم معه و فيه، و تتحد روحه به إتحادا وظيفيا. والإتحاد ليس من منظور الفلسفة الجبرية، بل الإتحاد يكون من منظور فلسفة التاريخ الحركية، التي لا تلغي حرية الإنسان وقوته في تحريك الحدث التاريخي.
         إن الفكر البنابي لا بد أن يدرس بمعزل عن الذهنيات والصراعات الوهمية، والغاية تأسيس فكر جزائري أصيل مرتبط بذاكرته التراثية ارتباطا شعوريا ووظيفيا، ومع حاضره فكرا وعملا، ومع مستقبله استشرافا واستعدادا، ومع العالم العربي حرقة وتلاحما، والعالم الإسلامي وعيا وتقدما.
    ولا بد في عملية الولوج الحضاري الجديد أن نصحح المفاهيم عن الفكر و العقل، عن الدين والفلسفة، وعن الهوية التاريخية، لأن أزمتنا الحقيقية أزمة مفاهيم وفعل. إن نقد العقل غير كاف لتجديد الإنسان، بل نحتاج في الوقت نفسه إلى نقد الفعل.
     كما أن مشاكل العالم العربي و الإسلامي لا تحل بالفكر المستورد فقط، وإنما تحل بالفكر المحلي الذي ينسجم مع روح الأمة، ويتطابق والتاريخ الحي للإنسان الشاهد.
     إن الفكر بصورة عامة، هو إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها، سواء بالنظر العقلي (REFLEXION )، أو التأمل (Méditation ). والفكر كما قال بن سينا: " وأعني بالفكر ها هنا ما يكون عند إجماع الإنسان، أن ينتقل عن أمور حاضرة في ذهنه متصورة أو مصدق بها تصديقا علميا أو ظنيا أو وضعيا و تسليما على أمور غير حاضرة فيه."[2]
      والفكر من خلال النظرة السناوية يعبر بكل وضوح عن انتقال الذات العارفة مما هو حاضر إلى ما هو ليس بحاضر، وعليه ينبغي على الفكر الإسلامي المعاصر أن يُفكر في المفتقد والغائب، وأن يُطور المستهلك والراهن لعدم نجاعته في كثير من الجوانب, ولا يكون ذلك إلا إذا كان الفكر يشك وينتقد، يحلل ويركب، يتخيل و يبدع...الخ. والهدف رد الكثرة إلى الوحدة، والكم إلى الكيف، والنظرة إلى الفكرة، والفكرة إلى العمل.
    والفكرة ذاتها تطرح عدة إشكاليات، فليس كل فكرة تتولد عنها أفكار نافعة وناجحة تعبر عن انسجام الذات والموضوع، لأن الفكرة تتمظهر في عدة مظاهر، فهنالك الفكرة العارضة (Idée ADVENTICE ) وهي لا تخدم مصالح الأمة لأنها مجتثة القرار، تتولد عن الحواس، وتكون أقرب إلى العقل الطبيعي.
     كما أن الفكرة المصطنعة (Idée FACTICE ) لا تحل الأزمات، لأنها مرتبطة بالحاجات الملحة لا بالغايات المقصودة و يمكن أن يكون لها بعض الأثر في التجديد لكن سرعان ما تنجذب نحو دائرة المكر التاريخي لعدم أصالتها.
    وينبغي أن يتفطن العقل إلى وجود أفكار قاتلة، تتجلى خاصة في الفكرة المتعالية (IDEE TRANSENDENTALE ) تجنح إلى المثل و الإيطوبيا، والأفكار المطلقة، مما تجعل العقل يبتعد عن واقعه ومتطلبات وجوده.
  وهناك الفكرة الكاذبة ( PSEUDO IDEE ) التي تتجه نحو الغموض واللاوضوح كما يكون اللبس و الوهم أبرز مظاهرها، وأغلب مصادرها الفكر السياسي المؤدلج، والتأويلات الدينية لكثير من النصوص المقدسة .
     وأخطر أنواع الأفكار تلك التي يتسم بها الفكر العربي المعاصر، الموسومة بالفكرة الثابتة (IDEE FIXE ) إذ هي صنوان المرض النفسي، تجعل الذات متسلطة، تتسم بالوثوقية و تتحول في أغلب الأحيان إلى ممارسة ذات طابع عنيف وترتبط بالفكر الدّيني والإيديولوجي.
       ومن خلال ما سبق نلاحظ أن الفكرة البنابية اتجهت نحو الفكرة المطابقة (IDEE ADEQUATE) التي تتميز بالانسجام التام بين الذات والموضوع، ومطابقة العقل للفعل، وملائمة المقال للمقام.
      إن أزمة الفكر العربي المعاصر تكمن في عدم تحديد طبيعة الفكرة التي تخدم القضية العربية خاصة والإسلامية عامة، ولازلنا نعيش صراعا فكريا نهايته القتل أو التكفير، وفي الجهة المقابلة الاعتقال أو الاغتيال.
    إن الفكر العربي انساق عموما وراء الفكرة العارضة ثم الكاذبة منتهيا عند المتسلطة، وبالتالي فإن الأزمة سيطول عمرها، وتزداد خيوطها تشابكا وتداخلا، ما لم نخرج من أسر الدوغمائية والإيديولوجية ونحطم أصنام العقل الجديدة. ولكي نتجاوز أمراض الحضارة وأصنام العقل لا بد أن نستعين بالفلسفة ولكن أي فلسفة لأية حضارة غَدية؟
      إننا نعني تلك الفلسفة الواقعية المرتبطة بحروف الحكمة العملية، والبعد النقدي الإحيائي، المتحررة من متاهات الميتافيزيقيا والطوباوية الحالمة. ولو أردنا تحديدا دقيقا، فنحن بأمس الحاجة إلى ما سماه أوغنست كونت بالفلسفة العامة (LA PHILO-GENERALE )، لأنها تتعلق بالمسائل العامة والمُعاشة، كمسائل النفس، المعرفة، التاريخ، المنطق، الأخلاق والجمال...الخ
      إن الشطحات الفكرية التي نسمع إيقاعاتها من حين لآخر، تزيد في تعميق المشاكل الراهنة، فعندما يظهر كتاب (الإيديولوجية العربية المعاصرة ) لعبد الله العروي ثائرا على النزعة التوفيقية الانتقائية، فإن عمله لا يخرج عن شطحة فكرية، تمخضت عن نشوة وترف فكري لا غير، إذ الكتاب لم يأت بجديد، فالمثقف العربي لا زال أسير الإيديولوجيات الماركسية بالرغم من لوجه الألفية الثالثة. والجابري في ثورته على الخطاب العربي المعاصر لم يخرج من دائرة النقد والاتجاه نحو نزعة ثيموسية فكرية، من خلال نحته مصطلحات فلسفية لا تؤثر في حركة التاريخ وإن فعلت فعلها في تحريك العقل السجالي.
      وتصطدم بالخيبة وأنت تطالع كتاب( الثابت والمتحول ) لأدونيس، ومؤلفات محمد أركون الخاصة بنقد العقل الإسلامي، وفؤاد زكرياء ... إذ تشعر بنفسيات منسلخة متصدعة، تريد أن تنبت في تراب لم تطأه قدم، فالقطيعة مع الذاكرة التراثية والوجهة الحداثية في رأيهم مطلب عاجل وضروري وكأن الأمة التي ينتمون إليها قد وصلت إلى أفق الحضارة مما يتطلب القول بالحداثة وغيرها....  وليس من باب السجال العقلي أن أخوض في ذكر التجارب الفكرية الأخرى في العالم الإسلامي بل سأكتفي بما ورد سالفا.
     وليس من التهكم والسخرية القول أن الفكر العربي المعاصر لا زال لم يدرك مشكلاته الحقيقية، بل يعيش لحظة ترف فكري في بعض المواضيع، ويعيش في مواضيع أخرى فقرا فكريا مدقعا ( الأنيميا الفكرية ).
        إننا كجيل دخل عتبة القرن الواحد و العشرين بحمولة من الهزائم المتكررة ونفسية متعبة من جراء الظلم والاستبداد و القهر الاجتماعي، نريد أن نتخلص من كل رواسب الفكرة العارضة والمتسلطة، ونضع الفكرة المطابقة طريقا للوجود.
       إن مالك بي نبي يمثل حلقة وصل بين جيل صنع الجهاد الشعبي وثورة التحرير وبين جيل يحمل تحديات المستقبل، ويستعد لخوض دوره الحضاري في القرن القادم.
    عندما نطالع التراث الإسلامي، نقف عند لحظة تاريخية تعكس مدى تطلع العلماء والمفكرين السلف للإنسان النموذجي، فلقد أكد الأستاذ زكي نجيب محمود في كتابه  تجديد الفكر العربي وخاصة الفصل الخامس عشرة المعنون:" نموذج الإنسان في تراثنا "، أن صورة الإنسان النموذج عند السلف ترتبط بالعقل دون أن يخوضوا في معانيه و مفاهيمه الفلسفية و لكن في صوره البسيطة، من معكوس ما يقتضيه مفهوم الهوى، فالكمال الإنساني عند السلف يكمن في العقل وحده.
    وهذا يدل على أن الذاكرة التراثية اهتمت بالنموذج الإنساني لكن دون أن تؤسس علما أو مذهبا يهتم بالإنسان من أجل حصانته وحمايته من جميع أنواع الانسلاخ والانحطاط المُلمة به، والتي هي من فعل مكر التاريخ.
      إننا كجيل، نعيش أصعب اللحظات وأمرها، فنحن نتقلب بين ماض يخط في نفوسنا صور الكمال النسبي للإنسان، وبين حاضر ينقش في شعورنا انطولوجيا الشك والوهم والغل[3]، ثم نعيش واقعا تجتر فيه الذات العربية، مرارة الانهزام المتكرر، وفظاعة الاستبداد والحكم.
    إننا كجيل نبحث عن خيط " أريان " يقودنا بعد المعركة مع ذواتنا إلى نقطة الانطلاق في متاهات الذاكرة المنسية والنصوص المقدسة وعودة عبادة الأوثان البشرية.
    إن الفلسفة أغرقت الإنسان في المفاهيم اللاهوتية و الوجودية ثم الحداثية، وبدأ الإنسان يشعر أنه غريب عن تلك النماذج التي أبدعها مفكرون أقل ما يقال عنهم المترفون فكريا.
    إن الفكر العربي المعاصر موازاة بالفكر الغربي تخطى لحظات الميلاد، بل الحقيقة أنه ولد منذ عهد قريب، و هو يعيش مرحلة الفطام, أعني الفطام من التبعية للفكر الغربي بجميع أشكاله والفكر العربي القديم من جانبه السلبي واللامعقول.
       عندما يتحدث مفكر مخضرم، عن نهاية التاريخ ويُنَّظر للرجل الأخير، تشعر أن العالم أصبح لا يسع إلا رجلا واحدا، يعتبر نموذج زمانه في كل مجالات الحياة، لكن هل انتهى التاريخ كغاية؟
        إننا كجيل، سنحطم تلك الرؤى الفلسفية التي تبحث عن منفذ يُشل قدراتنا الإبداعية، ويعرقل نهضتنا الفتية، لكي يصبح العالم وحيد القرن، وتظل الليبرالية الفلسفة المهيمنة.
     إننا كجيل سنضع من فلسفة الرفض سلاحا، نخوض به معركة الوجود، ونعمل على أن نكون أول من يبدأ التاريخ الجديد، ولن يكون هناك رجل أخير إلا الإنسان الشاهد خاتم البشر.
          إن أول خطوة، ينبغي عملها الوعي التام بضرورة إعادة بناء الإنسان الجديد والتحرر من مكر التاريخ عن طريق وعي حركته.
     إن جهود التنمية في البلاد العربية، تصطدم دوما بالعوائق المشلة، التي تفرزها الأمراض الصبيانية المورثة منذ عصور الدروشة والشطحات الصوفية، فأوهام العقل لا زالت تحجرنا وتفقدنا أمام المواقف الحرجة التفكير الجاد والعمل الفعال، بل تعلو الرومانسية الحالمة في شعورنا فوق كل اعتبار، وننفخ ذواتنا القزمية حتى نخال أنفسنا عمالقة لكن مجرد نسمة هواء تسقطنا أرضا ، ولعل نموذج العراق خير دليل.
     إني أومن أن العمل الحقيقي يكمن في تحرير الإنسان من تلك الأمراض النفسية، فالتغير وفق المبدأ القرآني يبدأ من النفس قبل كل شيء.
    إن أحبولة التاريخ تتمثل في نرجسية الذات، وذهان السهولة والمستحيل، والفخر بالإرث التليد، وغيرها من الصفات، التي هي العدو الحقيقي للشاهدية.لأننا لم نهزم كأمة، إلا بعد أن هُزمنا في ذواتنا فتكونت في أذهاننا قابلية لكل أشكال الإستحمار والغلبة.
   إن الأمة التي لا تأكل مما تزرع، ولا تلبس مما تنسج، هي حتما محكوم عليها بالانقراض الحضاري، أو على الأقل بالبيات الحضاري عند أدنى درجات مكر تاريخ.
   إن الفرد عندما تُهان كرامته، وتُهدر حقوقه وتُقيد حريته من طرف أولي الأمر والغلبة فلن يطول الأمر به حتى يفقد وجوده الحضاري ويغدو مجرد عالة على مجتمعه.
        إن مالك بن نبي لم يكن مفكرا شعبويا، أمثال علماء الدين والأئمة الذين شغلوا الناس و سدوا الأفق، لكن رغم نخبويته نعتبره أكثر فاعلية وديناميكية من أولئك الذين حركوا الأجساد البشرية في مظاهرات حاشدة، لكنهم لم يحركوا أبدا عقولهم، و لم يهزوا أنفسهم المريضة،  بل الأدهى والأمر أضافوا إلى أمراضنا أمراض التعصب و التطرف.
   إن الياباني يحمل بين جوانبه دوافع روحية مصدرها عقيدته الوثنية، لكن كما يقال في المثل الشعبي " عقله حامي وقلبه بارد " أما نحن معشر العرب فنملك العكس " القلب الحامي " و" العقل البارد "، مما جعل كل عمل مجرد ثورة ظرفية تخنقها بعد لحظة الفورة القلبية، ثم الهدوء والسكون القاتل.
     إننا نأمل أن يكون القرن الحادي و العشرين، قرن الميلاد و التجدد، و ظهور العالم الإسلامي كقوة أولى أمام الوحش الرأسمالي، الذي يعد أيامه الأخيرة على حسب كثير من فلاسفته و مفكريه كشبنجلر وكاريل.
و ختام القول يمكن الجزم أن الدراسة رغم ما بذلت فيها من جهود وتقصى، قد تكون مجرد نقش على الرمل أو خط على صفائح يّم، لكنها تمثل بادرة صغيرة، ونورا خافتا، إذا وجدت العقول المستنيرة قد تصبح بعد أمد نورا يشع على العالم كله. فإذا كانت شمس الله قد سطعت على الغرب في عصور الإسلام المنيرة، فإنها ستعود لكي تسطع ليس على الغرب فقط بل على العالم كله.
       قد لا أكون وفيت مالك بن نبي حقه، بل يمكن أن أكون قد حملته ما لم يقل، لكن عذري قد يقبل إذ ما علم نيتي، وما يخامرني من غربة واحتراق، ومن معاناة ومكابدة، وسؤال يتلوه سؤال، يلج في ذهني كما يلج السهم في الهدف، وألم السؤال أصعب من ألم الجراح.
       إن السؤال هو الذي أخرج آدم من جنته، ولعل الشيطان في أفق المجاز الرباني لم يكن إلا مجرد وسوسة السؤال.. ونحن نأمل أن نعيش السؤال بكل أبعاده، لعل وعسى تنبثق عنه الدوافع والمسوغات التي تخلق ميكانزمات الانبعاث الحضاري، وتحرر العقل من جموده، والنص من قداسته، والاجتهاد من آسره، والإنسان من كبوته وغفلته.
       إن وجودنا مرتبط بمدى تفكيرنا، فعلى قدر ما نفكر على قدر ما نكون. وسنحاول أن نُكَوّن مدرسة بنابية مع المثقفين الخيرين من أبناء العالم الإسلامي، ليس من أجل تريد ما قاله بن نبي في القرن العشرين ولكن من أجل البحث والاستشراف والعمل على التنظير وفق روح مالك بن نبي لا وفق منهجه ونسقه ونصه ،لأن الإبداع الحضاري يتطلب من الأجيال التواصل كشرط للتمدن لكن تتطلب أيضا التحرر من السلف .
   وإذا كان لكل جيل نوع من الكوجيتو الذي يحدد معالم هُويته في لحظة ممارسة التعبد  الحضاري في هيكل الخلافة الربانية ،فإن الكوجيتو الذي نتمثله في لحظة التدافع الإنساني  هو : " أنا أشهد إذن أنا موجود ".



* -  التقوى تعني في اللغة الاتقاء والحذر والمكر الإيجابي ، ونحن نعتقد أن الله كان يقصد بها في النص القرآني معنى الحذر من الفعل وضرورة النظر في عاقبته على مستوى الفرد الشاهد أو الجماعة.
[1]- الآية الكريمة: {إننا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا } الأحزاب: 72.
[2] صليبا، جميل، المعجم الفلسفي،دار الكتاب اللبناني،بيروت،ج 2، ط 1 ، 1982،ص 155.
[3] - لقد حاول صديقي د. الحسين الزاوي أن يعالج تلك الأزمة الحضارية في كتابه الرائع و الممتاز " الشك ومكامن الغل - قراءة في فلسفة المشهد الجزائري " المنشور برياض العلوم للطبع والتوزيع بالجزائر 2005.