الجمعة، 25 يناير 2019

المقامة الوَهْرَانِية

المقامة الوَهْرَانِية
عبد القادر بوعرفة
********
حدثنا عامر بن صعصعة فقال: حَالُ البلاد في الصّيف عَجبٌ، وأحوالُ العبادِ فيها عجبُ العجب، فكلما أبرق الصّيف، كثر العزف والزّف، والنّقر على الدّف، وأكل ما طاب ولذ من الطعام، ولُبس ما غلى وازّين من اللّباس. وكل ذلك من كثرة الأعراس، وأفراح النّاس، والتي تُعد بالأخماس والأسداس، ويُعلن عنها بالطبول والأجراس.
        ذات أمسية من الأماسي، بينما أنا جالس في بهو الاستراحة، تحت ظل شجرة فواحة، أقبل علي العم مفتاح، وقد بدت عليه تباشير الفلاح، وتقاسيم الانشراح، وتهَاليل النجاح، فلما دنا مني دنوا قال: السلام عليكم يا أهل الصلاح، شذاه عليكم حتى الصباح. فرددت عليه مداعبا: ومثله على أهل الفلاح، والناس الملِاح، أقبل فكل معي بعض التفاح، وكأس شاي بالنعناع، يزيل الصُداع، ويُهدئ الأوجاع.
   جلس العم مفتاح، وهو يداعب القدح لثما، ويقضم التفاح قضما، حتى أجهز على ما في السّلة، وشرب ما في الإبريق، وكأنني به لا يَمْضغ ولا يَصْمغ، والحمد لله أن الإنسان خُلق بفم لا بفمين.
   ولما بلع الكل شَبِع، ثم تربع وخشع، وابتدرني بالكلام: جئتك اليّوم في مسألة، مالها عندي ترجئه، فأرجو منك التّنوير، التوضيح ودقة التّصوير، وأنت كما نعلم ابن الجامعة، بخباياها ضليع، وبخفاياها سميع.
   قاطعته ساخرا قبل أن يسأل: خيرا يا حاج، لما اللجاجة، والتنميق والديباجة ؟، وأنا كما تعلم لا أملك بناتًا للزواج، ولا ديكة ولا دجاج....  قال غاضبا: كف عن المزاح، واسمع يا صاح، إني اليوم لفي سرور وانشراح، خاصة وقد نجحت بُنيتي صباح، وقد جنت غرس الكفاح، وسهر الليالي الجِماح، فتوجت مشوارها "بالباك"، وما أدراك ما "الباك"، وأريد تسجيلها بالجامعة، لأضمن لها مستقبلا ووظيفة ناجعة، تقيها شر الفاجعة، والفقر وكل قارعة.
قلت: أه الجامعة، بل قل يا حاج القامعة، ولا تخشى الصاعقة، فهي جامعة العطل، الفوضى والكسل، نهارها رحل، وكثرة الشلل، وتعدد النحل، وتنوع الملل ..... فيها لا تفرق بين المذكر والمخنث والمؤنث.
قاطعني الحاج: صه مه .... ما هذا الذي أردت، ولا الذي قصدت، ..... إنما سألتك عن الطلاب والآداب، والأساتذة الأحباب، العمال والمدراء، وكل ما يهم الوَالج دون الخارج، ولو تعلق الأمر بخم الدجاج، أو قطع الزجاج.  
قلت له عندئذ: مبارك عليك أولا النجاح، وأنعم الله على بُنيتك صباح. ولكن يا حاج مفتاح كلامي لا يُعجب، وللآذن لا يُطرب والسّمع لا يُطنب، فإلى غير اذهب، حتى لا تسمع ما يُغضب.
  فقال: والله لن أدعك، حتى استقي منك ما أريد، وعنك لن أحيد، فأخبرني عن الطلاب والآداب.
   قلت له دون تمهل ولا انتظار، وقد أخذتني العَبرة، وخنقتني الحَسرة: طلاب كالذباب، يحملون كل شيء إلا الكتاب، المعرفة مهجورة، والأقلام مكسورة، والأفكار مأسورة، والعقول محجورة. أَلبستهم غريبة، وأَسبلتهم عجيبة، فالسراويل مُقطعة مُمزقة، كسراويل المجانين، أو الضالين التائهين، وقمصانهم مرقطة، كتبت عليها عبارات منمقة، تخدش الحياء، وتروج للشواذ والشّذاذ.
فقاطعني ساخطا: حسبك ما وصفت، فما حال الطالبات وما أخبار البنات؟
قلت بنبرة كلها النكبة: كاسيات عاريات، غائبات حاضرات، راسبات ناجحات، ذائبات في حكاي الهوى وآساطير المعذبين بالنوى، وأحاديث الجوى. معاشرة أهل الفسق عندهن شطارة، ومواعيد الفسق عندهن تجارة.
فرأيت وجه الرجل قد تغير، فاصفر وتضمر، فسكت عن الوصف، برهة من الزمن، ثم خاطبني: أخبرني عن المدراء، والأساتذة النبلاء، والعمداء الفضلاء، وكل أسلاككم من الحُجاب إلى الوزراء.
قلت: يا مفتاح لا تكن ملحاحا، فتسمع مني ما لا تريد، وأرجوك ألا تزيد، فالطيور على أشكالها تقع، والأحجار على أجناسها توضع، والأسمال على خرقها ترقع، فالمدراء جياح، يقطفون التفاح، من الحدائق "الأح آح" ودكاترة شحاح، مُلاةُ لا شراح، بضاعتهم غير مجزاه، ترد لهم دون زكاة، ومن حاد عنها فالصفر لا محالة آت.
فقال مقاطعا: أخبرني عن العمال وهل عليهم المآل يوفون بالمنال؟ أجبته فورا: عمالها متخصصون في النطاح، كأنهم تيوس البطاح، البلبلة والصياح، والكلام اللامباح، وسب الرب عندهم مباح.
  فقال غاضبا: دعني من حديث الناس، فما أضنك إلا فاقدا للإحساس، حدثني عن الأكل والمبيت، والخبز والزيت، والتمر والثمر...
فقلت: تقصد الأحياء الجامعية، هي كالمحاشد النازية، والمداشر الترابية، أو المستشفيات العنابية، استعمرتها جحافل النّاموس، وما لا يخطر في أي قاموس. سكنتها الكلاب والقطط، الشواذ واللُّقط، ليلها شطح وردح، ......
   فقام الرجل وقال: والله لو كنت أدرى ما تقول، ما في الأصل عنك أتيت، لقد حبست البسمة في الثغر، وأوغرت الصدر.    فقلت له: لو عشت بها لعلمت بأن وصفي لها قليل، وعلمي بخباياها عليل، ألم تسمع قول أحد الطلاب:
يا معشر الطلاب لله خبروا      إذا حلت البلية بالفتى ما يفعل
فالناموس في سمانا كتائب      له مع الدجى في الاذان صلصل
أو قول متخرج منها شويعر:
آليت ألا آتي جامعةً بعدها       ولو كانت بدار خلود
حللت بها سعيدًا مُنعمــــــــًــا      وخرجت منها كآل ثمود
وما أن أتممت البيت، حتى قفل الرجل ناكصا، وهو يلعنني لعنا، ويسبني سبا، ناعتا إياي بالخبال والوسواس، وقلة الإحساس، والانطواء عن الناس.
       ضحكت ضحكا، حتى كاد القلب أن ينفطر، والبصر أن ينحسر. ولما غاب عن الأنظار، وتوارى خلف القفار، قمت من مكاني، وكنت لحظتها سيد زماني، أردد زهوا بعض الأغاني، ومن الحين للحين أنشد الأشعار، فأترنم بها ترنم الأحبار، ومنها ما أسرده في الحال، وهو من أجل الأقوال:
 أيها البدوي التائه في ظلمة الصحراء
ترجل عن فرس الكبرياء، فأنت في زمن الحيارى
 وفي درب السكارى، خانتك الذكريات
أيها النبي بلا كتاب ولا دعوة، والمحارب بلا عتاد ولا عدة
العيس ظمأى والصحراء عطشى، ويداك ضارعتان للسماء
 تستجديان قطرة ماء، من رحم غيمة صيفية
أيها البدوي ترجل عن فرس الكبرياء
فأنت لا تمتطى صهوة الداحس ولا الغبراء
أيها البدوي الموغل في المسير
أسمالك الرثة اشتكت منك، وسيفك تقزز من راحتيك
والبدوية القابعة في الخيمة، ملت من عينيك ... من شفتيك
ومن نتن فخذيك ...  وإبطيك
الشِّعر جفاك وكنت ترسله زهورا ربيعية
جفاك الشِّعر رفيق العمر... دفين الصدر
وتعصرن على إيقاع الروك والموسيقى العبثية
تهللت طلعته البهية... وارتدى أسمالا ليفية
فضاعت جهود الخليل... وتأوه المتنبي والبحتري
وقالوا جميعا من رمس الأبدية
جنون جنون وانتحار للقصيدة العربية
جفتك أبيات الشِّعر بعد بيوت الشَّعر
تمهل لقد سُرقت العربية
فلغة الضّاد صارت لها ألف ضرة
فافا وكيكي حبلى... فانتظر أبناء اللكنة العجمية
أيها البدوي، لم تعد لك اليوم دار ولا قرار
فالواحة الخضراء بيعتها بكؤوس خمر وردية
وبراميل النفط صارت مَنيا...
من خصيتك تسيل دون روية
أيها البدوي من غير عباءة ولا كوفية
أين الفرس والقوس والنخوة القيسية؟
أيها البدوي ... كعبتك صارت حانة
وعندما تسكر لحد الثمالة، تصيح خانقا أنفاسك قائلا،
كذاب كذاب أنا يا ابن الأمة العربية
في صلاتي في قنوتي، في خشوعي في دموعي
صدح بها نزار في ترانيمه الشعرية
وأُرسِلها اليّوم شجونا أبدية
أيها البّدوي ترجل عن فرس الكبرياء
فأنت يا صديقي متعب بالعروبة

فلقد صارت اليّوم لعنة وعقابا وأذية

المقامة الصَّفْراوية

المقامة الصَّفْراوية
عيد الأعياد يا سادة البلاد
 أد. عبد القادر بوعرفة
****
حدثنا عامر بن صعصعة فقال: أصابني ذات يوم الأرق، وأسرني القلق، من غلاء المعيشة، وارتفاع الضريبة، وكذب السّاسة، واعوجاج الرّياسة، وكثرة الغّطاسة والعّطاسة في خم مولانا الرئيس، فضجرت ضجرا من تبادل الأدوار، والضحك على الشعب والأخيار، وتمريغ رؤوس الرجال في وحل المزابل العمومية، وفي قمامات أثرياء الدولة الغُمومية، فلم أجد لنفسي سبيلا سوى الخروج من الدار، والتوجه صوب الجار، وأنا ألعن أبو النّار، الذي ورطني في الحديث عن الكبار.
     ولما اقتربت من الدّار، ولم يبق إلا بضع أمتار، صحت بأدب حتى لا أنعت بالحمار، فالنّهيق صار طبع الكثير، الصغير والكبير...
- يا همام يا همام .. أخرج إلينا أيها الجار.
فأجابني من الداخل: أقبل يا هلالي، استضاء بمطلعك الهلال، واستنارت بوجهك الأنوار، وتعطرت بمقدمك الأزهار، وتغنت بمقدمك الأطيار، فأهلا بك يا ابن الأبرار....
 فصحت: ويحك يا همام بن صعصعة، أتحسبني جِلْفَ فَلاة في قوقعة، ما حل بك اليّوم؟  أجننت أم تتجنى علي؟
فرد ولسان حال يقول: أهلا بك يا حبر زمانه، وعنترة أقرانه، إنك اليوم عندي حبيب، وأقرب من القريب، ومقامك السّاعة كالطبيب، لقد جئت في الميعاد، وأنا أحضر لعيد الأعياد، الذي أقسمت أن يحضره الأشراف والأسياد، والعجائز والأولاد، وحتى الأنذال والأوغاد....
فقاطعته غاضبا: عيد الأعياد!! والله ما سمعت به قط، ولا أرى منك سوى الخلط والهذيان والنّط، مابك يا رجل؟؟؟ أصابك اليوم مس؟ أم سكنتك صاحبة قيس؟
  فرد على دون روية: والله إني لفي أحسن الأحوال، وأهنأ بال، مذ بلغ سعر النفط مثقال، وارتفع العلف والغذاء، وشح الرئيس بالعطاء.... أما فَرحي بعد ترحي فيعود إلى الوفاء بالنذر، الذي قطعته على نفسي.
    اعلم يا جاري، ومكنون أسراري، أني قَطنت حي "القَرَابَه" في دار أحد القَرابة، وأنت ترى الدار أية في الخراب والدمار، فآلاف الجحور بين حنايا الصخور، حوت الأفاعي ذات اللدغات، والعقارب والحشرات، وما لا يخطر على بال .. وأنت تعلم حالي، أشتري الدقيق بالمكيال، والسكر بالأرطال، ولا تسأل عن البقية، التي أصبحت من خبر كان...
   آه ياجاري الكريم سُلط على "الزّلْطُ" فصبرت، والبرد فتحملت، والجوع فتضورت، والهم فتجملت، وقناةً يتيمة فتعللت، ومِيرا منافقا فتململت، وواليا متملقا فتنكرت، ووزيرا غائبا فتندرت، ورئيسا بعيدا عنا فتوكلت ... لكن لم يكن هذا مبلغ همي ولا مصدر غمي.
فقاطعته: ياهمام ما لي وهذا الكلام، لقد سمعته مذ أيام وأيام، فأوجز الحديث، وليكن خفيفا ظريفا، فما أسمع اليوم إلا قولا هزيلا ...
فأجابني ساخطا: الصبر الصبر، فالخطب فيما هو آت... فبالرغم من المصائب السالفة، وآرائي التالفة، وأحلام العزة الزائفة، إلا أن مصيبتي الكبرى تمثلت في كرب عظيم، أفقدني العقل الرزين، والصبر المتين، أغلى الدّم في عروقي، والثأر بين ضلوعي .. أنه خبيث لعين، مقيت مهين. أتلف قشي، وقيّض عَيْشي، ثم خرب عُشي، سرق الدقيق على قلته، وخبزي برغم يُبسه.... فكرت في أمره مِرارا، ونصبته له الفخاخ تَكرار، لكنها لم تنفع ولم تنجع ...
فصحت وقد نفذ صبري: ياهمام من يكن هذا اللعين؟؟؟
فرد دون اكتراث: صه، مه، لا تقطع حديثي يا هلالي، فالأخبار بنت الليالي... المهم والأهم يا جاري، مرت الأيام، وأنا أقاسي منه الآلام، وقد جَرَّعَني كؤوس العذاب، وعلمني شعر الهجاء والعتاب... وذات أمسية من الاماسي، من غير أمل ولا انتظار، وقع المِشْرار. لا تسألني عن الفرح والحُبور، ولا عن السعادة والسرور، لقد وقع اللعين الملعون أخيرا...
فسألت وقد حيرني أمره وشوقني مقاله: بربك يا همام، وتالله وبالله، أخبرني من ذا اللعين ؟؟؟ أو ذا المسكين ؟؟؟
فرد كالعادة غاضبا، منتشيا بنصره: على رسلك ما أعجلك!!! فما مقامك معي إلا كمقام موسى مع الخضر. أصبر فالصبر جُنة، والعجلة جِنة، ألا ترى أن البلاد ضيعتها العجلة، فأوردتها التهلكة.
  المهم يا جاري الكريم، رفعت هامتي، واعتدلت في قامتي، وتبخترت في مشيتي، ثم توجهت إليه، فنظرت إليه باحتقار ولوعة واحتسار. ثم شمرت عن ساعدي، وتناولت عصاي "مسعودة"، الموت الأحمر أريد أن أسقيه، والألم الدفين أرغب أن أريه، فلما اعتدلت للضربة القاضية قلت له: أيها اللعين!!! ألم تجد سوى هذا البائس المسكين، فتزيد غمه، وتعمق همه، أين تركت كبار التّجار؟ المتلاعبين بالأسعار، المكدسين للدينار والدولار.. أين تركت الأعيان، وأصحاب الوجاهة من ملاك الآبار.. أين تركت رَبْراب وأصحابه، وعمار وزبانيته، وغول وأحبابه، والعزيز وحاشيته ..؟
    وما إن أتممت الخطبة العصماء والبتراء، حتى رفعت مسعودة عاليا، وهممت ضربه ضربة قاضية، فسكت همام ....
   مما دفعني إلى السؤال والصياح: ثم ماذا ياهمام بن صعصعة؟ هل قتلته؟
فرد قائلا: كلا ورب الكعبة ما فعلت، لقد فكرت في قتله شر قتلة، لم تسمع بها العرب قاطبة، من طنجة إلى اليمامة، لكني يا هلالي استحيت...
    فلم أتمالك نفسي، وقد أسرني الرجل بخبره، فقلت: يرحمك الله، أكمل حديثك... ومما استحيت؟
  فقال متحسرا: آه يا جاري، حال بيني وبينه ملك الشعراء، فقد استحيت من أبي الطيب المتنبي أن يصدق وصفه على حين قال:
لقد أصبح الجرذ المستغير
أسير المنايا صريع العطب
رماه الكنـــــــاني والعامري
وتلاوة للوجه فــــعل العرب
كلا الرجلين أتـــــــــــلى قتله
فأيكما غـــــــــــــل حر السلب
وأيكما كـــــــــــــــان من خلفه
فإن به عضـــــــــــة في الذنب
                   
 وما إن أتم عجز البيت حتى كان جسدي على الأرض مُلقى من كثرة الضحك، وكاد أن يُغمى على مرتين. وشعرت ساعتها بالضجر قد ولى القهقرى. فقلت وغصة الضحك تكاد أن تقتلني: ثم ماذا حدث بعد ذلك يا صائد الفئران؟
  اغتاظ همام من ضحكي الذي بلغ العِنان، فنهرني نهرا .. ثم قال: اسمع أيها الغضنفر، لا تضحك على ما هو دونك فتلك مصيبة، وأن شر البلايا أصلها المنبوذ، ألم تر إلى النمرود قتلته ذبابة !! 
   أسمع لقد فكرت في أمره، ثم قررت نجدته. فامتطيت صهوة حماري، وزادي أشعاري، وجهتي شركة عمار بالقرب من مزرعة نزار، فلما وصلت قلت له: اسمع أيها اللعين، هذه الشركة دقيقها بالأطنان، ومن أجود الأنواع الحسان. وبها جرذان سمان، وقربك مزرعة سعدان وحمدان، فاتخذ لك عروسا وعش بأمان، ولا تعد لبيت رجل مثل "زْمَانْ". ثم رميته في الشركة وتمنيت له البركة، وعدت إلى الدار عفوا إلى الغار ولسان حالي يقول:
                       من مبــــــــلغ العزيز عني نصائح متوالية
إني أرى الأسعار أســــــــعار الرعية غالية
وأرى المكاسب نزره وأرى الضرورة قاسية
وسكت همام عن الكلام اللامباح، وهو عند خصومه نباح، يؤدي إلى الجنحة والعقاب، ولا ينفع معه تظلم ولا عتاب. حال الرعية يا رَيْس حال، لو تنطق الأرض لأبكت، ولو تشهد السّماء لأدمعت، فمن للمغبون والمظلوم؟، ومن للمقهور والمَحْقُورْ.؟
    استأذنته للخروج، وحال لساني يقول: لله درك ودر أبيك، لا يبرح السّاسة حتى يَسمدوا، والولاة حتى يَهمدوا، والعتاة حتى يَسمعوا، والطغاة حتى يَخنعوا .....
 وخرجت من عنده بدون ضجر ولا كدر، ولساني يُردد بيتا من الشعر:
                   ومن يك ذا لب سيفهم  ** أن الألفاظ تخفي دوما معانيا 

الخميس، 10 يناير 2019

قراءة في رواية "وشيء آخر" للروائيّ العربي عبد الملك مرتاض


 أد. عبد القادر بوعرفة
*****
   عبد الملك مرتاض ناقد وروائي جزائري معروف على المستوى العربي (10 أكتوبر 1935 بتلمسان)، ألّف ما يربو عن سبعين كتاباً، أبرزها: نظرية الرواية، نظرية البلاغة، نظرية القراءة، نظرية النقد، نظريّة اللغة العربيّة ... كما له اثنتا عشرة روايةً، أشهرها: نار ونور، وادي الظلام، رباعية الدم والنار، الخنازير، صوت الكهف، حيزية، ثلاثية الجزائر (الملحمة، الطوفان، الخلاص).
   يدل عنوان الرواية على مقام فلسفي ذي منعطف أدبيّ، حيث تنبلج الرُؤَى الوجودية وهي تتشابك تشابكاً بلاغياً مع المنعرج الميتافزيقي، فتحدث سجالاً غير ظاهر، ولكنه يختبئ وراء الجمل والعبارات.
   رواية أجمل ما فيها اللغة التي نمنمها نمنمة لا مثيل لها، وأغرب ما فيها المزاوجة بين عوالم الإنس والجن، وبين أفق البرهان وتسابيح العرفان، وبين الماضي العتيق والحاضر المُهمل، والمستقبل المجهول. إنها وَشم في جبين الأمة المتهالكة في غياهب الذاكرة، وفوضى الكلمات المنمقة برائحة العتاقة والمُنتفضة بزفرات المعاصرة.
ابتدأ روايته بمشهد نقدي صارخ، ينم عن وعي بفلسفة التاريخ، وفهم عميق لبشاعة التخلف والانحطاط. خلق من رَمزية القطار صورةً فنيةً ليُعبر عن واقع الأمة العربية والإسلامية، فهي من حيث التمثيل لا تختلف عن صورة القطار العتيق، قطار نهاية الألفية الأولى: "ولا يزال القطارُ يندفعُ نحو الأمام اندفاعا شديدا. يعدو لاهثًا. يَصْفر بصوت محموم. بصوت ينتشر دويُّه في الفضاء. ينبثُّ امتدادُه في الأرجاء. كرَجْس الرّعد القاصف. كهدير البحر الطافح. كان هَدِيره ينبعث في كل الأفضيَة المحيطة بالسّكة الحديدية الممتدة إلى ما لا انتهاء. كان ينهب الطريق نهبا سريعا. كان طائرةً تسير. بل كان قطارا يطير." (ص:3)
 لكن هذا الإطراءَ ما ينفك يتحول إلى قدح وذم: «... مسكينٌ قطارُكم إذ ْ كان يلهثُ من تقادمه وبلاَهُ لهثاً. كان عِظاما رميما. لم يكن قادرا على الصُعود في العِقاب. كان عاجزا عن الركض في السُهول والهضَاب. أيضاً. حتى كأنه شيخٌ خَرِعٌ هَرِم.... يسعل فيقذف دخاناً  كثيفاً...» (ص:4)
    إن الأمةَ أصيبت بالوهن والعجز، فهي تشبه الشيخ الخَرع الهرم، الذي لا يستطيع أن يُحرك ساقيه أو يمدهما مدا، له جعجعة وهدير ودخان كثيف، لكنه لا يستطيع أن يصعد هضبة صغيرة ...
   يريد عبد الملك مرتاض من خلال تلك المقابلة الرائعة، أن يقارن حال المسلمين بغيرهم، وخاصة بلاد الغرب، فَقُطُرهم اليوم أشبه ما تكون بالطائرات من حيث السرعة والراحة، ولم تعد قُطر الأربعينيّات سوى خردة في متاحفهم، وهذا يدل على سرعة التغير والتحول، فالإنسان مثل القطار.
   يغوص الروائي في جَلْد الذّات، لكنه جلد موضوعي، فالذات العربية انسلخت عن حاضرها وهربت نحو ماضيها، فسكان الزيتونيّة (اسم قرية الرواية) يعيشون وسط ركام من الأبنية، القبور أجمل منها بكثير، فالأبنية لا حياة لها، بل هي كالظلام والرميم، وهي أشد وحشة من القبور، فيا له من زمن غريب حين تكون قبور الموتى أفضل من منازل الأحياء...
    تنعطف أحداث الرواية، فيدخلنا الروائي بأسلوبه المتميز في فضاء العجائبية، حيث يتداخل الواقع مع الخيال ضمن جدلية الرموز والتمثلات، فسكان الزيتونيّة يتقاسمون البئر والقرية مع الجن، فاعتقد عقلاؤُهم بأن الجنّ تزاحمهم المكان والبئر، فقسموا اليوم، لهم النّهار والمنطقة العلوية، وللجن اللّيل والمنطقة السفلية.
   لكن البئر الوحيدة، كانت آية في الاتقان، وأجدادهم لم يكونوا بالبراعة الكافية لاحتفار مثل تلك البئر المرصعة بأنفس الأحجار، فكيف ترك الجن البئر لهم: «وكيف تركت الجن بئرها للأنس تستقي منها فتروَى، ولم تحرك لذلك ساكنا؟ ولم تتدخل لحماية مُمتلكاتها؟ مع ما خُصَّ به الجن من شدة البطش والعتو، ورغْبتهم في الانعزال، وغيرتهم على ممتلكاتهم، وحرصهم على أن لا ينال غيرهم منها ...»، (ص:15).
يأخذنا الروائي إلى عالم التأويل والتفسير، حيث يختلط العرفان بالبرهان، والحقيقة بالخيال، بين تفسير الشيوخ وبين رؤى الشباب، ويحتدم النقاش بينهم، ويكثر التحدّي، ... لقد أبدع عبد الملك مرتاض في تصوير الجدل حول الجن والبئر، ولعله يريد أن يصور ذلك الجدل الحاصل منذ عصر النهضة إلى اليوم بين أنصار الحداثة وبين حماة الأصالة، ذلك الجدل الذي لم يثمر يوما، بل تحول إلى سفسطة بائسة كان آخر فصولها هل البئر احتفرها الجن أم الولي الصالح الراقد في تربتها؟
  في هذا السياق الجدلي الرائع، من حيث لغة الحوار وأسلوب التصوير، تغيب الحقيقة عن الجميع، ولم تكن الحقيقة إلا سارة تلك المرأة الجميلة، التي أحبها عمر الفقير، وهي نفسها أحبته حباً خالصاً، تزوجها رغم الدسائس، لكنه أراد ان يُسعدها كما أسعدته، وليس لديه أي شيء ليقدمه لها ... فقرر الرحيل عن القرية ... إنه البحث عن الذات في زمن الكينونة المترعة بالبؤس والخيبة.
   ترك عمر سارة وحدَها، كما ترك المسلمون حضارتهم وإرثهم، لكن سارة الطيبة والجميلة ناضلت نضالاً كبيراً، من أجل أن تعيش بشرف وكرامة، وألا تبيع نفسها لوحوش القرية الطامعين في جسدها الجميل، الكل كان يحلم بأن يتزوجها، وأن يطفأ ظمأ السنين في حرّ فرجها، وشذى شفتيها، وأن يرضع من ثديها حليب الخلود، تماماً كأسطورة ينبوع الحياة.
   استطاع مرتاض أن يَحبك الرواية، وأن يعقدها تعقيداً لا نظير له، فسارة المرأة الجميلة حالها غريب وأمرها عجيب، كلّ يوم تزداد غنى وثراءً، كثر عنها السؤال، والظن والارتياب، وبعضهم رماها بما ترمى به النساء، خاصة الشيطان المُسمى زعرور أحد أبناء أثرياء القرية.
تنساب أحداث الرواية انسياباً، وتأخذ منعرجاً عجيباً، فسارة الحسناء سبب سعادتها وثرائها يكمن وراء أفعال الجنية خناتيتوس، التي أحبت سارة، فأغدقت عليها بأجود ما يمكن أن تجود به، الذهب والمرجان، وأغلى الثياب... ولم يقف الأمر عند الجود، بل تدخل في سجال رائع مع سارة حول الشعر والشعراء. يقودنا عبد الملك مرتاض إلى إشكالية خطيرة في تاريخ الأدب، فالجنية تنفي وجود شعراء عرب، فكلهم يقولون ما تجود به قرائح شياطينهم، فلكل شاعر شيطان.
   يعود عمر للحسناء والقرية، وهو ذاته لا يدري كيف عاد، لقد عاد كما عودتنا شهر زاد في قصص ألف ليلة وليلة.
  تتابع قصص الحسناء وعمر، وكل يوم هو أعجب وأغرب من اليوم الذي أمسى، وحال الزيتونيّة ما زال كحاله لم يتغير كثيراً، ما زال الماضي العتيق ينفث تعويذته، ويعقد عقده.
   ينقلنا الروائي في الصفحة 368 إلى مولج جديد، فابن الحسناء سارة، سيأخذ دور البطولة، فابن الحقيقة كغيره من فتية الزيتونيّة سيتابع الطريق ذاته، التعلم في الكتّاب، ثمّ التعلم بالمدرسة، والأم سارة في الحقيقة هي المعلم الأول، تصحّح بذكاء ونباهة ما يقترفه المعلم بالمدرسة من أخطاء.
   لم يكن ابن الحسناء إلا الفيلسوف الأديب، فهو الطفل الذي تعلم بالزيتونيّة مسقط رأسه، ثم يسافر إلى أوروبا، ويقطن بباريس عاصمة الجن والملائكة.
   يعود مرتاض إلى القطار من جديد، مازال قطارنا بطيئاً، وئيد الحركة، في حين أنّ قطارهم فاق الحدود وتصورات، إنها إشكالية التقدم.
   تظهر شخصيتان كاترين وسوزان، كاترين المُغرمة بعبق الشرق، تتزوج عربياً، وتهيم حباً بتراث الشرق، لكن الروائي يختم روايته بمنظر رهيب، موت العِرسان في برج نيويورك بعد انفجارات 11 سبتمبر 2001.إنها نهاية الحب والحكمة، وعودة الظلام وقطعان الذئاب.