مقدمة كتاب معجم الفرق والنحل في الجزائر ( دار رياض العلوم/ الجزائر)
يتناول الكتاب مشروع إنجاز معجم لأهم
المدارس الفكرية و الفرق الصوفية، والنحل ، ومجمل العقائد بالجزائر، على امتداد
الحقب التاريخية الممتدة من العهود الوسطى ، إلى الفترة الحديثة والمعاصرة.
والغرض من العمل المقدم، هو محاولة الكشف عن
أولى إرهاصات الفكر والتصوف، ومجمل العقائد والديانات، وتصنيفها حسب تقاسيم العلوم
والمعارف المعمول بها أكاديميا، وضرورة الإشارة إلى المذاهب و النحل و الفرق و
الملل في كل حقبة من حقب تاريخ الفكر الجزائري . وذكر الجديد الذي أضافوه لحقول
المعرفة، أو الخصوصيات الثقافية التي تميزوا بها عن غيرهم من فلاسفة ومتصوفة
المشرق العربي والعالم الإسلامي.
أما الإشكالية الرئيسة فتتمحور على الخصوص
حول القضايا التالية:
-
هوية الثقافة الجزائرية من خلال
المدارس و الفرق والمذاهب و الطرق.
-
دور المدارس الفكرية في تأسيس
الحواضر العلمية العريقة.
والإشكالية تفرض وضع جملة من الافتراضات
المؤسسة للبحث و التي تدور حول المعطيات التالية :
-
أغلب الحواضر و المدن العالمية أسست
لنفسها أنساقا معرفية ، تمخضت عن نهضتها ميلاد مدارس وفرق ، ومنه هل الحاضرة
الجزائرية حذت حذوهم ؟
-
بالرغم من التنوع المذهبي في الجزائر فلما لم
نسجل ظهور مذاهب كما هو الحال في بلاد المشرق و المغرب؟؟
-
النّحل الجزائرية هل كانت فعّالة أم
مجرد مقلدة وتابعة ؟؟
-
أين
تتمظهر معالم الإبداع والتجديد في الفكر الجزائري ؟؟
-
وهل الاختلاف ولّد التسامح الفكري أم
الصراع ؟؟
و البحث الموسوعي
يفرض منهجية خاصة ، توزعت على الشكل التالي:
1-
منهج الحفر و التنقيب . (
الأركيولوجيا )
2-
المسح البيليوغرافي.
3-
المقارنة.
4-
المنهج النقدي.
5-
المنهج التحليلي.
من خلال تتبع حركة الفرق الصوفية في
الجزائر ، تبين لنا نوع من التصوف السني الذي بدأ مع الشيخ عبد السلام أمشيش ،
والذي يختلف عن التصوف بالمشرق ، إنه تصوف في أغلبه يجنح نحو القيم الهادئة ،
والأخلاق المهذبة للسلوك ، ويحاول أن يجعل الله هو الغاية الكبرى ، والنهاية
القصوى ، والمعبود الذي نعرف به الوجود ، ونكتشف من خلال روحه مقامات الشهود .
فالله هو المقصود بالذكر والفعل والحركة و الإشارة و العبارة. والرسول هو الوسيلة
التي بها نُحصل الخيرات، وتُوجب لنا الشفاعة ، فالصلاة على النبي عماد الطرق
الصوفية في الجزائر.كما هو تصوف ينخرط في العمل السياسي إما بصورة مباشرة أو غير
مباشرة ، بل أن أغلب الطرق الصوفية نشأت بغرض دعوة سياسية لدولة مستقبلية يتوهمها
الشيخ و صاحب الطريقة ، على غرار ما حدث حين استمدت بعض الدول مرجعيتها من الفرق
كالدولة المرابطية و توظيفها للمذهب المالكي ، أو الدولة الموحدية وتوظيفها للمذهب
الأشعري و رد الاعتبار لأبي حامد الغزالي المتصوف.فالقادرية تحت قيادة الأمير عبد
القادر حاولت أن تِؤسس دولة هاشمية على أنقاض الدولة العثمانية المتهافتة .. وقس
على ذلك ما فعله التجاني و أبنه محمد حين حاولا أن ينفصلا عن دولة الدايات
بالجزائر ...
لكن رغم ما يمكن قوله في المدخل المقتصر ، فإن
الفرق الصوفية و النحل الدينية التي عرفتها الجزائر كدولة أولا وكفضاء مغاربي
ثانيا تميزت بظهور جملة من القيم الجادة
التي تنضح بها الطرق الصوفية بالخصوص هي :
1_ قيمة
دينية :
تقوم على محبة الله و التي تُعرف من
خلال محبة الإنسان مهما كان لونه أو دينه أو عرقه.ثم محاولة التأكيد على مقام
الصحبة : " إذا كانت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، وأقوال
العلماء تجمع على ضرورة الصحـبة ، وأهمـية اختيار الصاحب الموصل إلى الله ، فإن
لكل واحد من المرشـدين طريقا سلكها فأوصلته إلى ما يصبو إليه ، وهي التي اعتمدها
في إيصال من طلب صحبته." لأن الصحبة من صميم الدين وروحه ، فالصاحب
الموصل لله هو عين العبادة و المعاملة ، فالفيلسوف ابن طفيل في قصة حي بن يقظان
يصور روائع الصحبة من خلال لقاء حي بآسال رغم أن حي كان من حيث نسق القصة غني عن
الصاحب . لكن مقام الصحبة يفرض على المتوحد وجود الصاحب ، بل أن المطلق الذي هو
الله الذي لا إله إلا هو جعل من إبراهيم الخليل خليلا وصاحبا.
والقيمة الدينية الأخرى نلاحظها من خلال
التركيز على الذكر والشيخ ، لأن كلاهما يؤدي إلى جملة من القيم التي تجعل من
المريد أكثر ارتباط بالشيخ من خلال فعل الإقتداء ، و بالذكر من خلال المداومة: " وتحلق حول هؤلاء القوم رجال ، تأثروا
بتربيتهم ، والتزموا طرقهم ، فنشأت بهذا الطرق الصوفية ، منتسبة إلى
الأشـياخ الذين أخذوا أنفسهم بنوع خاص من التربية، وبمنهج خاص في التعليم،
وبصيغ معينة من الذكر. والذكر لا يختص به أحد ، ولا يتوقف الإتيان به على إذن
من أحد ، إذ كل مسلم مأمور بالذكر والصلاة ."
2_
قيمة التسامح وقبول الآخر :
وتلك ميزة تفتقر إليها أغلب الفرق
والنحل التي تُلغى المُخالف للطريقة أو النحلة . ولعل تعايش الفرق الصوفية في
المغرب الكبير هو الذي جعلها تركز على فضيلة التسامح ، بالرغم أن بعض الفرق خرجت
عن هذه الفضيلة وأعلنت الحرب على الطرق الأخرى فكثر القتل والتخريب ، وتدمير
العمارة، والدافع في أغلب الأحيان التنافس على مناطق النفوذ والخيرات .
لكن بالرغم من ذلك يعترف المتصوفة أن الاختلاف أصل من أصول الفكر و
الدين :" قد يظهر نوع من الاخـتلاف بين الطرق الصوفية، وهذا أمر طبيعي لأن
اختلاف الناس مدعاة لاختـلاف طرقهم .لكن المنيع واحد ، والمصب واحد، فالكل ينطلق
من الإيمان إلى الإحسان ." و الإحسان كما ندركه اليوم هو أحسن مفهوم يكرس
النزعة الإنسانية العالمية.
ولقد عبر عن هذا الانفتاح الإنساني الشيخ عبد
القادر عيسى حين قال : "... والطرق الصوفية كالمناهل، والسالكون فيها
كالواردين. ومن ساقه الله لمنهل، وحصل مطلبه، فلا يليق به الإنكار على من استغنى
من غير منهله، فهي كالمذاهب الفقهية تماما:
إن
المذاهب كالمناهل في الورى
والناس
مثل الوارد الظمآن
والنفس
إن وردت بأول منهــل
غنيت
بلا كره ورود الثاني
3_ قيمة
إنسانية :
تكمن في البحث عن سبل إنقاذ الإنسان من
أمراض القلوب الفتاكة ، و التي جعلت لها ترياقا خاصا يكمن في الذكر المتصل و
الدعاء المستديم.ومعاملة الإنسان كإنسان بالرغم من جنسه ودينه .
كما نلاحظ أن قبول الآخر كما هو بعيوبه
ومزاياه ممارسة فعلية لمفهوم الإنسانية.
4_ قيمة
اجتماعية :
مبنية مبدأ التعاون والتكاثف الاجتماعي ، ومحاولة
نصرة الضعيف ، ومساعدة المعوز .وخلق قيم التكاثف الاجتماعي "كالتويزة"[1] التي تتجه صوب مساعدة بعضهم بعضا في أمور الحياة
والاقتصاد ، وظاهرة "الوعدة"[2] تعد من أبرز مظاهر إصلاح البين وجبر الخواطر ، ووضع حد للخصومات و
النزاعات.
5_ قيمة
اقتصادية :
تكمن في الدعوة إلى الزهد والتقشف ،
فذلك يضمن سواء الإنسان وخلوه من حب الشهوات واللذات التي ارتبط طغيانها بالأفول
والانحلال . فالأمم المتقشفة المقتصدة هي التي تستطيع أن تحافظ على وجودها وأن
تبني نفسها بعيدا عن التبعية.
6_قيمة علمية :
وهي محبة العلم والمعرفة ، والمجاهدة فيهما
، والترحال من أجلهما ، وتكبد المشاق في الأفاق .فلقد تكبد بعض علماء الجزائر
المشاق التي توجت في الأخير بوجود حواضر علمية ، وتحول الشيوخ إلى مراجعيات.
فلا أحد ينكر أن الزوايا بالجزائر هي مهد
تحفيظ القرآن الكريم ، والصنوان الذي حفظ لغة الضاد من الضياع زمن الاستحمار و
الانسلاخ .
7_ قيمة
ميتا فيزيقية :
تكمن في
البحث عن الحقيقة خارج الظاهر ، واعتبار أن كل ما في الوجود علامة وإشارة
تحمل معنى ودلالة ، وتحتاج إلى فك رموزها و الغوص في بحورها.
وهي فعلا كما قال الشيخ النقش بندي
: " الطريق مسلك خاص من مناهج التصوف ، يتخذه السالك للوصول إلى
غاية هي الإيمان الكامل الذي يصل إلى عين اليقين ، أو حق اليقين ، وهنا لا يكون
الإيمان تقليديا أو استدلاليا يمكن تعرضه لهزات الشك، إذ يرى بعين بصيرته فلا يؤثر
فيه شيء." ذلك ما نلاحظه في مسألة وحدة الوجود التي شغلت كل الفرق الصوفية ،
وقد جاء في كتاب الجواهر : " .... اعلم أن أذواق العارفين في ذوات الوجود أنهم
يرون أعيـان الموجـودات ( كسراب بقيعة )
( النور : 39 ) ، فما في ذوات الوجود كله إلا الله سبحانه وتعالى تجلى بصورها
وأسمائها وما ثم إلا أسماؤه وصفاته ... "(الجواهر : 259 ).
ونلاحظ أن وحدة الوجود تحولت إلى
عقيدة صوفية ، ونلمس ذلك في الكثير من نصوص المتصوفة : " والقائلون بوحدة
الوجود أولو الذوق الصحيح ، والكشف الصريح وأهل هذا التصديق الجامع ؛ فإنهم قائلون
بأن الله تعالى هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي .. . " ( ميدان الفضل
والأفضال:ص 66 ) .
8_قيمة سياسية:
تكمن في هندسة نظام الجماعة والمحافظة
على المراتب و المقامات ، وإنزال الناس منازلهم.ومحاولة تكوين عُصبة روحية تكون
بمثابة المرجعية للسلطة الحاكمة .
وتلك
النزعة نحو الانخراط في العمل السياسي يمكن أن يؤثر في كثير من المواقف التي تمس
المجتمع ، فلقد استطاعت الزوايا بالجزائر أن تتصدى لكثير من المحاولات الرامية
لتهميش الأسرة الجزائرية وتغريبها ، ونتيجة وجود نفوذ قوي على هرم السلطة من قبل
بعض شيوخ الزوايا تراجعت السلطة عن كثير من المواقف.
9_قيمة جهادية:
تكمن في الطابع الثوري لبعض الطرق
الصوفية ، التي لم يمنعها الذكر والزهد من حمل السلاح ومجاهدة الغزاة ودفعهم عن
الحمى الوطن.كما فعل ملك المقاومة الجزائرية الأمير عبد القادر ، وكما فعل حكيمها
الشيخ بوعمامة ...
10_قيمة
حياتية :
تكمن في أبعاد التصوف عند كثير من
المشائخ ، فلقد ربط بعضهم الذكر بالعمل ، ولم يمنعه حال المقام أن لا يشتغل بأمور
السياسة ومشاغل الأمة ، والبحث عن سبل توحيد الأمة الإسلامية و تفعيل المسلم في
عصر انتصار الآخر .
و القيمة العاشرة تكمن في القدرة على الالتزام
بالأخلاق و الفضائل ، كخفض الجانب ، والجنوح نحو السلم .و المشاركة في كل ما يُمكن
المجتمع من نيل الخيرات.
أما القيم السلبية التي لوحظت على أغلب الطرق
الصوفية فهي :
أولا : التركيز على المنام والرؤيا في
تأسيس الفرق ، لا يرتبط بالمعقول ،بل هو في كثير من الأحيان مطية الطامعين . وهذا
ما نلمسه على سبيل المثال في أنصار التجانية ( جوهر المعاني 1: 51 ) .:" حصل
لسيدي أحمد التجاني الفتح الأكبر بأبي سمغون منذ السنة الأولى التي أقام بها بعد
رحيله من تلمسان عام 1196هجرية. فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، يقظة لا
مناما، بتربية الخلق على العموم والإطلاق، بعد أن كان فارا منهم. وعين له
الورد الذي يلقنه، وهو مائة من الاستغفار ومائة من الصلاة علي النبي صلى الله عليه
وسلم. وأذن له صلى الله عليه وسلم بتلقينه لكل من رغب فيه من
المسلمين والمسلمات، بعد تحديد الشروط والتزام المريد بها. وفي رأس المائة عام 1200هجرية كمل له، صلى الله
عليه وسلم، في الورد اللازم مائة من الكلمة المشرفة لا إله إلا الله."
وهذا النص بلغ من اللامعقول درجة يستحيل
تأويله على أوجه قريبة من حدود المنطق العرفاني ذاته .فلم تصبح الرؤيا هي المُحددة
كما كان الحال عند المتصوفة الآوائل بل أصبحت اليقظة هي الدعامة .. وهذا يجعلنا
نعتقد أن الفكر الذي ينتج هذه المزاعم إما أنه عاد إلى المرحلة البدائية ، أو أنه
يعيش لحظة سحرية..
وثانيها
: الإكثار من الأساطير والخرفات ، وتقديس الرجال فوق حدود الخيال و مدارك
المعقول.ووصف أعمال السيخ بما لا يمكن أن يوصف به إنسان ، من أعمال خارقة ،
وكرامات غير منسوبة حتى للأنبياء ، ولا
نقصد تلك الخوارق العادية كالقول بقدرة على وهب الحوامل الذكور ، بل نقصد كالقول
بطي الأرض و اختراق السماء ، وإحياء الموتى والشفاء من المرض ...
وثالثها: الاقتصار على الأذكار لا يعتبر حلا لمشاكل الأمم المتخلفة ، فاعتبار
الذكر النجاة والمخرج هي من مفعولات العقل السحري الذي يصاحب الحضارة في لحظات
أفولها و انحطاطها . فالحضارة علم وعمل.
كما أن بعض الأذكار خصت بالتقديس المطلق ،
واعتبرت أفضل من سور القرآن الكريم . ولنأخذ مثلا ما جاء في مذهب التجانيين حول ما
يسميه شيوخهم بالصلاة المحمدية أي " صلاة الفاتح لما أغلق " والتي نصها
كالتالي :" اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخـاتم لما سبق ،
ناصـر الحق بالحق ، الهـادي إلى صراطك المستقيم ، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم
" .
ونلاحظ كيف ينظر الذهن الصوفي للذكر الجديد من خلال الاعتماد على جملة من المرجعيات التي ترتبط بالمقدس و السحري في الوقت نفسه ، ومن ذلك على سيبل المثال ما قام به التجاني واتباعه ،فلقد اعتمدوا على ما يلي :
1- جواهر المعاني:"...ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق ، فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها ، فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ، ثم أخبرني ثانياً : أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ، ومن كل ذكر ، ومن كل دعاء كبير أو صغير ،ومن القرآن ست آلاف مرة. "(السابق 1: 136).
2- : " أن يعتقد أنها من كلام الله " ( الرماح : 139 ) .
3- : " ... مع اعتقاد المصلى بها أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام قدرة إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه ، وأنها لم تكن من تأليف بشري ،والفضل الذي فيها لا يحصل إلا بشرطين : الأول : الإذن ، الثاني : أن يعتقد الذاكر أن هذه الصلاة من كـلام الله تعالى كالأحاديث القدسية وليست من تأليف مؤلف " ( الدرة الخريدة 4 : 128،129 ) .
ورابعها: تكريس بعض القيم السلبية تتمثل في التعامل مع صاحب النحلة والفرقة فقط ، و كأني بها نوع من العصبيات الجديدة، والدليل على ذلك أن في الجزائر ما ينيف عن المئة ، ولكل نحلة ذكرها وسبحتها، وكل نحلة تظن نفسها الفرقة الناجية و المقصودة بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام . وهذا التفكير خطير ، يقودنا إلى جعل الطبقات الاجتماعية أكثر انعزالا عن بعضها البعض. و الاعتقاد أن الجنة أعدت لهم بدون حساب بل بمجرد الذكر وبركة الشيوخ ، وهي تشبه لحد قريب صكوك الغفران في المعتقد المسيحي ، قال صاحب "الجيش الكفيل " على لسان التجاني : " وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عنى ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ، ما تقدم منها وما تأخر ، وأن تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله ، لا من حسناتهم ، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل ، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ضمنت لك هذا ضماناً لا تنقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين " ( ص214،215 ) .
و خامسها : أن أغلب الفرق تجنح لفكرة التواكل وركب مركبة الغالب حتى ولو كان كافرا مغتصبا ، وهذا نراه جليا مع المستعمر الفرنسي.
ونلاحظ كيف ينظر الذهن الصوفي للذكر الجديد من خلال الاعتماد على جملة من المرجعيات التي ترتبط بالمقدس و السحري في الوقت نفسه ، ومن ذلك على سيبل المثال ما قام به التجاني واتباعه ،فلقد اعتمدوا على ما يلي :
1- جواهر المعاني:"...ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق ، فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها ، فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ، ثم أخبرني ثانياً : أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ، ومن كل ذكر ، ومن كل دعاء كبير أو صغير ،ومن القرآن ست آلاف مرة. "(السابق 1: 136).
2- : " أن يعتقد أنها من كلام الله " ( الرماح : 139 ) .
3- : " ... مع اعتقاد المصلى بها أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام قدرة إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه ، وأنها لم تكن من تأليف بشري ،والفضل الذي فيها لا يحصل إلا بشرطين : الأول : الإذن ، الثاني : أن يعتقد الذاكر أن هذه الصلاة من كـلام الله تعالى كالأحاديث القدسية وليست من تأليف مؤلف " ( الدرة الخريدة 4 : 128،129 ) .
ورابعها: تكريس بعض القيم السلبية تتمثل في التعامل مع صاحب النحلة والفرقة فقط ، و كأني بها نوع من العصبيات الجديدة، والدليل على ذلك أن في الجزائر ما ينيف عن المئة ، ولكل نحلة ذكرها وسبحتها، وكل نحلة تظن نفسها الفرقة الناجية و المقصودة بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام . وهذا التفكير خطير ، يقودنا إلى جعل الطبقات الاجتماعية أكثر انعزالا عن بعضها البعض. و الاعتقاد أن الجنة أعدت لهم بدون حساب بل بمجرد الذكر وبركة الشيوخ ، وهي تشبه لحد قريب صكوك الغفران في المعتقد المسيحي ، قال صاحب "الجيش الكفيل " على لسان التجاني : " وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عنى ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ، ما تقدم منها وما تأخر ، وأن تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله ، لا من حسناتهم ، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل ، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ضمنت لك هذا ضماناً لا تنقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين " ( ص214،215 ) .
و خامسها : أن أغلب الفرق تجنح لفكرة التواكل وركب مركبة الغالب حتى ولو كان كافرا مغتصبا ، وهذا نراه جليا مع المستعمر الفرنسي.
وسادسها : أن بعض قيم الطرق الصوفية تخرج عن
التوحيد السني ، وتدخل في الشرك من بابه الكبير ، وذلك من خلال ما تصبغه على شيخها
من الصفات والأفعال التي لم نسمع بها حتى عند خاتم الأنبياء.فلقد جاء في متون كثر
من الفرق الصوفية أن شيخها هو ختم الأولياء و الصلحاء قياسا على النبي صلى الله
عيه وسلم . فلقد اعتبرت القادرية أن عبد القادر الكيلاني هو خاتم الأولياء ، ونفس
المنحى ذهبت إليه التجانية التي اعتبرت أن شيخها هو خاتم الصالحين: "...أن
الله تعالى لما ختم بمقامه مقامات الأولياء ، ولم يجعل فوق مقامه إلا مقامات
الأنبياء ، وجعله القطب المكتوم ، والبرزخ المختوم ، والخاتم المحمدي المعلوم ....
" (المرجع السابق 2 :
145 ) .
وللتأكيد على الخاتمية نجد نص المريد يأتي
في سياق البرهنة على صدق المعتقد : " فقد ثبت عنه من طريق الثقات الأثبات من
ملازميه وخاصته ، أنه أخـبر تصريحاً على الوجه الذي لا يحتمل التأويل أن سيد
الوجود أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف عند جميع الأقطاب والصديقين ،
وبأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة
بالله . . " (بغية المستفيد ص
: 193- 194 ) .
وسابعها
: أن تأسيس الفرق يخضغ في بعض الأحيان إلى نوزع النفس ، كحب الزعامة وبسط النفوذ ،
والدليل على ذلك أن أغلب شيوخ الطرق الصوفية انحدروا من طريقة أو طريقتين فقط، بل
تجد أغلبهم كان مقدما أو فقيرا لطريقة ، ثم يدعو لنفسه بالمشيخة و يؤسس لنفسه
طريقة جديدة. وللحفاظ على الزعامة فلقد ربط أهل الطرق بين الخاتمية و المنصب :
" .... ومعنى كونه خاتماً لمنصب الولاية المحمدية ألا يظهر أحد في ذلك المنصب
بمثل الظهور الذي ظهر به فيه ، فهو خاتم لكمال الظهور في ذلك المنصب لا لنفس
الظهور".( بغية المستفيد : 107 ).
وثامنها
: أن بعض الفرق تدعو إلى الزهد والتقشف ،
لكنها تجمع الأموال و العطايا لمشائخها، فالمريد فقير و الشيخ غني ، وهذا نقيسه
على كل النحل التي عرفها التاريخ ، فلقد كان أصحابها يجعلون لأنفسهم قواعد غير
التي تُسن لأتباعهم.
وتاسعها : أن الطرق الصوفية بالجزائر لم تستطع
أن تبرز كقوة إصلاحية في الجزائر لحد الساعة ، بل شاركت في تطويل عمر الأزمة من
خلال مباركتها الأنظمة الفاسدة ، ونفورها من العمل السياسي الصريح .وانخراط العوام
في صفوفها .
وعاشرها : تركيزها على بعض الطقوس غير المألوفة
جعلت الآداب الأخلاقية تفقد وجودها كاختلاط النساء مع الرجال في بعض الطرق ، وإدخال الغرائبية والعجائبية التي لا
تمت للإسلام بوشيجة.كما هو الحال في العيساوية أو العمارية التي تجعل من فنون
الحركة والرقص واللعب بالنار والمشي على الجمر دليلا على صدق الطريقة.
أما فيما يخص الأديان المنتحلة في المغرب
الكبير ، فهذا يدل على عدم ترسخ الإسلام كعقيدة في سكان المغرب الكبير ، فإن عدد
المتنبئين يفرز مدى انسياق سكان المنطقة وراء الدعوة الكاذبة.
ونلاحظ من جهة أخرى مدى انتشار الشعوذة
والسحر واقترانها بالمعجزة دالة على النبوة .
إن تقلب السكان من دين إلى آخر يدل على أن
انتحال الفرق والملل لا يخضع لمعايير الاقتناع العقلي بل يكون في أغلب الأحيان
بممارسة الخداع وجذب الناس عن طريق القول الغريب، والفعل العجيب.
إن ظاهرة الفرق في الجزائر تجعلنا نعتقد
إمكانية انتشار مذاهب غريبة عن الإسلام في المستقبل الغريب ، وليس ببعيد أن تجد
فرقة لعبدة الشيطان كما هو الحال في أمريكا ، وربما تظهر عبادة النار من جديد.
وهذا الانسياق وراء الديانات المنتحلة والفرق
الصوفية يمكن تعميمه على ظاهرة الانتماء للأحزاب السياسية بالجزائر ، فإذا كان
المواطن الجزائري ينخرط في طريقة صوفية تعتمد على الخوارق والكرمات فإنّه من السهل
أن ينتمي إلى حزب يعتمد على الدعاية الديماغوجية ويوظف ثوابت الأمة لصالح أهدافه
ومراميه الآنية.
إن رصد الفرق والنحل التي ظهرت بالمغرب
الكبير ودراسة مبادئها وأصولها كان الغرض منه معرفة الثابت والمتغير في حركية
القيم الجزائرية، ومعرفة التحولات التي تطرأ على ذهنية المجتمع من خلال فلسفة
الانتماء .
إن جملة
التحولات التي تطرأ عند انتحال قيم جديدة تنعكس سلبا على شبكة العلاقات الاجتماعية
، فالمجتمع الذي يغير قيمه كما يغير لباسه ليس بجدير أن يسلك سبل الحضارة .
فالحضارة إنما تكون أول الأمر بثبات قيمها و الدفاع عنها، وأفولها يرتبط دوما
بلحظات ضياعها وتغييبها. لكن هذا لا يعني عدم إبداع قيم جديدة تتماشى وحركية
المجتمع العالمي ككل.
لقد آن للمجتمع العربي ، أن يع شروط التقدم
والتحضر ، فالتحولات على مستوى الحضارة تتطلب التحول من القيم الطفيلية التي تنشأ
بفعل الإيديولوجيا و العقل السحري إلى القيم التي تنبلج من صفاء الطبع و بداهة
المعقول.
ونرجو أن يكون هذا البحث قد وضح الصورة،
وبين الفكرة الجوهرية، وأعطى أبعادا لحركة النقد ، وسنتبعه بعد ذلك بعمل آخر يخص
الجمعيات والأحزاب التي عرفتها الساحة الجزائرية منذ القرن الثامن عشر الميلادي.
********************************************************
[1] -
التويزة لفظة عامية مشهورة في الجزائر ،تعني تعاون أهل المنطقة على أمر واحد حاصل
في المدينة كبناء بيت ، أو حصاد زرع ، أو ترميم بئر ...
[2] -
موسم محدد بأسبوع في أغلب الأحيان ، تذبح فيه الذبائح من أجل إطعام الفقراء
والمساكين ، لكن الغاية الحقيقية منها هي فك الخصومات وإصلاح ذات البين . رغم أن
بعض الوعدات أدخلت طقوسا تخالف العقيدة الإسلامية.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام=ستتفرق اءمتي اءلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار اءلا واحدة من كان على هدي اءصحابي=) التوحيد هو اءفراد الله بالعبادة وهودين الرسل عليهم الصلاة والسلام= واءولهم نوح عليه السلام = اءرسله الله اءلى قومه لما غلو في الصا لحين=) ودا وسواعا ويغوث ونسرا=))) واءخر الرسل محد عليه الصلاة والسلام ا= كسر صور هؤلاء الصالحين=)))) اءرسله الله اءلى قوم يحجون ويذكرون الله كثيرا=) ولكنهم يجعلون بعظى المخلوقات وسائط بينهم وبين الله=ويقلون نريد منهم التقرب اءلى الله=ونريد منهم الشفاعة عنده==مثل الملائكة والصالحين والنبين=)) لا اءله اءلا الله= لا معبود بحق اءلا الله مثبتا العبادة لله وحده=لا شريك له في ملكه=)))قال الله تعالى=))وما اءرسلنا من قبلك من رسول اءلا نوحي اءنه لا اءله اءلا اءنا فاعبدون=))فدين الرسل واحد والذي بعثو به التوحيد العبادة ومحاربة الاءنداد=)))قال الله تعالى=) ولقد بعثا في كل اءمة رسول اءن اءعبدوا الله واءجتنبو الطاغوت=)))=)))) فاوعبدوال ما حدث في قوم نوح بسبب الغلو== وهو مجاوزة الحد في محبة الصالحين=))))وتعظيمهم فوق ما شرعه الله=)==عظموهم تعظيما غير سائغ لهم باءن عكغوا على قبورهم====ثم صورو تماثيلهم=)) واءن كانوا عبدوهم=واءنما صورهم==لاءنهم لم ياءمرو بعبادتهم== واءنما كانوا لم يعبدوا الصور== واءنما عبدوا الشيطان في حقيقة =لاءنه الذي اءمرهم=))))))ودا وسوعا ويعوق ونسرا=سبب كفر بن اءدم الغلوا في حب الصالحين=قال اءبن عباس رظي الله عنه=هذه اءسماء رجال صالحين في قوم نوح=فلما هلكوا اءوحى الشيطان اءلى قومهم= اءن اءنصبوا اءل مجالسهم التي يجلسون فيها اءنصابا=وسموها باءسمائهم= ولم تعبد حتى اءذا هلك اءولئك =ونسي العلم عبدت=))))قال الرسول عليه الصلاة والسلام=لعنة الله على اليهود والنصاراى=اءتخذوا قبور اءنبيائهم وصالحيهم مساجدا من دون الله==))))) الشيعة اءنهم اءنما يعبدون=الصالحين هذه الاصنام= لتقربهم اءلى الله زلفى=فهم مقرون اءنها من دون الله=لا تملك لهم ضرا ولا نغعا=واءنهم شفعاء عند الله=))يا حسين=ياسيدي البدوي=) شيعةا تلاميذة= عبد الله بن سباء اليهودي==تلميذ الفلسفة الرومانية الطاغوت اءرساطيطس
ردحذفومن أوضح ما يكون لذوي الفهم قصص الأولين والآخرين ، قصص من أطاع الله وما فعل بهم ، وقصص من عصاه وما فعل بهم . فمن لم يفهم ذلك ولم ينتفع به فلا حيلة فيه . كما قال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص .
ردحذفوقال بعض السلف : " القصص جنود الله " يعني أن المعاند لا يقدر يردها .
فأول ذلك : ما قص الله سبحانه عن آدم ، وإبليس ، إلى أن هبط آدم وزوجه إلى الأرض . ففيها من إيضاح المشكلات ما هو واضح لمن تأمله ، وآخر القصة قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . - ص 12 - وفي الآية الأخرى : فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا إلى قوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
وهداه الذي وعدنا به : هو إرساله الرسل . وقد وفى بما وعد سبحانه ، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . فأولهم : نوح . وآخرهم : نبينا صلى الله عليه وسلم . فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الحبل ، الذي بين الله وبين عباده ، الذي من استمسك به سلم ، ومن ضيعه عطب .
فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم ، وعدوك إبليس ، وما جرى لنوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، وإبراهيم وقومه ، ولوط وقومه ، وموسى وقومه ، وعيسى وقومه ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم وقومه .
واعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه وما جرى له معهم في مكة ، وما جرى له في المدينة .
واعرف ما قص العلماء عن أصحابه وأحوالهم وأعمالهم . لعلك أن تعرف الإسلام والكفر . فإن الإسلام اليوم غريب وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر . وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح .
وأما قصة آدم ، وإبليس : فلا زيادة على ما ذكر الله في كتابه . ولكن قصة ذريته . - ص 13 - فأول ذلك أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر ، وأخذ عليهم العهود : أن لا يشركوا به شيئا ، كما قال تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج . ورأى فيهم رجلا من أنورهم . فسأله عنه؟ فأعلمه أنه داود . فقال : كم عمره؟ قال : ستون سنة . قال : وهبت له من عمري أربعين سنة ، وكان عمر آدم ألف سنة . ورأى فيهم الأعمى والأبرص والمبتلى . قال : يا رب لم لا سويت بينهم ؟ قال إني أحب أن أشكر . فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين أتاه ملك الموت . فقال : إنه بقي من عمري أربعون سنة . فقال : إنك وهبتها لابنك داود . فنسي آدم فنسيت ذريته ، وجحد آدم فجحدت ذريته .
فلما مات آدم بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم ، دين الإسلام . ثم كفروا بعد ذلك . وسبب كفرهم الغلو في حب الصالحين . كما ذكر الله تعالى في قوله وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وذلك أن هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم . فماتوا في شهر . فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم . - ص 14 - فصوروا صورة كل رجل في مجلسه لأجل التذكرة بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم ، ولم يعبدوهم . ثم حدث قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم من قبلهم ، ولم يعبدوهم . تم طال الزمان ، ومات أهل العلم . فلما خلت الأرض من العلماء : ألقى الشيطان في قلوب الجهال : أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم إلا ليستشفعوا بهم إلى الله ، فعبدوهم .
ردحذففلما فعلوا ذلك : أرسل الله إليهم نوحا عليه السلام ، ليردهم إلى دين آدم وذريته الذين مضوا قبل التبديل ، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه ، ثم عمر نوح وأهل السفينة الأرض ، وبارك الله فيهم ، وانتشروا في الأرض أمما ، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها ؟
ثم حدث الشرك . فأرسل الله الرسل . وما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولا يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك . كما قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية .
ولما ذكر القصص في سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
فقص الله سبحانه ما قص لأجلنا . كما قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى الآية .
- ص 15 - ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة - في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - أشياء فعلوها قال ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم ، ليعتبروا بذلك .
وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما جرى له مع قومه ، وما قال لهم ، وما قيل له .
وكذلك نقلهم سيرة الصحابة ، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين ، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم . كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر .
إذا فهمت ذلك :
ردحذففاعلم أن كثيرا من الرسل وأممهم لا نعرفهم ؛ لأن الله لم يخبرنا عنهم لكن أخبرنا عن عاد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد . فبعث الله إليهم هودا عليه السلام . فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عدم بعد مدة لا ندري كم هي؟ وبقي في أصحاب صالح . إلى أن عدم مدة لا ندري كم هي ؟
ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام ، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم . فجرى عليه من قومه ما جرى ، وآمنت به امرأته سارة . ثم آمن له لوط عليه السلام ، ومع هذا نصره الله ، ورفع قدره ، وجعله إماما للناس .
ردحذف- ص 16 - ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام لم يعدم التوحيد في ذريته . كما قال تعالى وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون .
فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئا من أحواله . لا يستغني مسلم عن معرفتها . فنقول :
في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة . فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة . وكانت أحسن الناس . فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي : يغلبني عليك ، فإن سألك . فأخبريه : أنك أختي . فإنك أختي في الإسلام . فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك . فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه . فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك . فأرسل إليها ، فأتي بها . فقام إبراهيم إلى الصلاة . فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها . فقبضت يده قبضة شديدة . فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ، فلك الله : أن لا أضرك . ففعلت ، فعاد : فقبضت يده أشد من القبضة الأولى . فقال لها مثل ذلك ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأولتين . فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ، ولك الله أن لا أضرك ، ففعلت . فأطلقت يده . ودعا الذي جاء بها ، فقال له : إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي ، وأعطاها هاجر . فأقبلت . فلما رآها إبراهيم . انصرف ، فقال لها : مهيم ؟ قالت : خيرا . كف الله يد الفاجر ، وأخدم خادما . - ص 17 - قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء .
وللبخاري : أن إبراهيم لما سئل عنها قال : هي أختي ، ثم رجع إليها . فقال : لا تكذبي حديثي . فإني أخبرتهم أنك أختي . والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك . فأرسل بها إليه فقام إليها . فقامت تتوضأ وتصلي . فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي يد الكافر ، فغط حتى ركض برجله الأرض . فقالت : اللهم إن يمت ، يقال : هي قتلته . فأرسل . ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله . فقالت : اللهم إن يمت يقال : هي قتلته . فأرسل في الثانية أو الثالثة . فقال : والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانا ، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر . فرجعت إلى إبراهيم ، فقالت : أشعرت؟ إن الله كبت الكافر ، وأخدم وليدة .
وكان عليه السلام في أرض العراق . وبعد ما جرى عليه من قومه ما - ص 18 - جرى هاجر إلى الشام . واستوطنها ، إلى أن مات فيها . وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار . فواقعها . فولدت له إسماعيل عليه السلام ، فغارت سارة . فأمره الله بإبعادها عنها . فذهب بها وبابنها فأسكنها في مكة . ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام ، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق . ومن وراء إسحاق يعقوب .
ردحذفوكان عليه السلام في أرض العراق . وبعد ما جرى عليه من قومه ما - ص 18 - جرى هاجر إلى الشام . واستوطنها ، إلى أن مات فيها . وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار . فواقعها . فولدت له إسماعيل عليه السلام ، فغارت سارة . فأمره الله بإبعادها عنها . فذهب بها وبابنها فأسكنها في مكة . ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام ، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق . ومن وراء إسحاق يعقوب .
ردحذفوفي الصحيح عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان : خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعه شنة فيها ماء . فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة . فوضعها تحت دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد - وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء - ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء . ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل . فلما بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا - وفي لفظ : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : رضيت - ثم رجعت . فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . وجعلت أم إسماعيل ترضعه - ص 19 - وتشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها . وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه . فوجدت الصفا أقرب جبل إليها ، فقامت واستقبلت الوادي تنظر : هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا . فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها . ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي . ثم أتت المروة ، فقامت عليها . فنظرت : هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ؟ - تعني الصبي - فذهبت فنظرت . فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقر نفسها . فقالت : لو ذهبت لعلي أحس أحدا ؟ فذهبت فصعدت الصفا . فنظرت . فلم تحس أحدا . حتى أتمت سبعا . ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ؟ فإذا هي بصوت . فقالت : أغث إن كان عندك خير . فإذا بجبريل . قال : فقال بعقبه على الأرض . فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل فجعلت تحفر ، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا - وفي حديثه : فجعلت تغرف الماء في سقائها - قال : فشربت وأرضعت ولدها . فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة . فإن ههنا بيتا لله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، إن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية . تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله . فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء ، - ص 20 - فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء . لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا ، أو جريين . فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وقالوا لأم إسماعيل : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا . وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام . وتعلم العربية منهم .
ردحذف. وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام . وتعلم العربية منهم . وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل . وجاء إبراهيم - بعد ما تزوج إسماعيل - يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة . فشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام ، وقولي له يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ - كذا وكذا - فسألنا عنك ، فأخبرته ، وسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته : أنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم . أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وقد أمرني أن أفارقك . الحقي بأهلك ، فطلقها . وتزوج منهم امرأة أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي . فجاء ، فقال لامرأته : أين إسماعيل؟ قالت : - ص 21 - ذهب يصيد . قالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ قال : وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم - قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : بركة دعوة إبراهيم ، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب . ولو كان لهم حب دعا لهم فيه - وسألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله . قال : إذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم . شيخ حسن الهيئة - وأثنت عليه - فسألني عنك ؟ فأخبرته . فسألني : كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير . قال : هل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء . فوافق إسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم . فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد . ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا - وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني . حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له . فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
ردحذففصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل . ثم لذريته من بعده ، وانتشرت - ص 22 - ذريته في الحجاز وكثروا . وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قرونا كثيرة . ولم يزالوا على ذلك حتى كان في آخر الدنيا : نشأ فيهم عمرو بن لحي . فابتدع الشرك ، وغير دين إبراهيم . وتأتي قصته إن شاء الله .
ردحذفوأما إسحاق عليه السلام : فإنه بالشام . وذريته : هم بنو إسرائيل والروم . أما بنو إسرائيل : فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق ، ويعقوب هو إسرائيل .
وأما الروم : فأبوهم عيص بن إسحاق .
ومما أكرم الله به إبراهيم عليه السلام : أن الله لم يبعث بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وكل الأنبياء والرسل من ذرية إسحاق . وأما إسماعيل : فلم يبعث من ذريته إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، بعثه الله إلى العالمين كافة ، وكان من قبله من الأنبياء : كل نبي يبعث إلى قومه خاصة . وفضله الله على جميع الأنبياء بأشياء غير ذلك .
وأما قصة عمرو بن لحي ، وتغييره دين إبراهيم : فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة ، والحرص على أمور الدين . فأحبه الناس حبا عظيما . ودانوا له لأجل ذلك . حتى ملكوه عليهم . وصار ملك مكة وولاية البيت بيده . وظنوا أنه من أكابر العلماء ، وأفاضل الأولياء . ثم إنه سافر إلى الشام . فرآهم يعبدون الأوثان . فاستحسن ذلك وظنه حقا . لأن الشام محل الرسل والكتب . فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز - ص 23 - وغيرهم . فرجع إلى مكة ، وقدم معه بهبل . وجعله في جوف الكعبة ، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله . فأجابوه . وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة . لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم . فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنا أنه الحق . فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم عليه السلام وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي .
ردحذفوكانت الجاهلية على ذلك ، وفيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله . وأيضا يظنون أن ما هم عليه ، وأن ما أحدثه عمرو : بدعة حسنة . لا تغير دين إبراهيم . وكانت تلبية نزار : لبيك . لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون .
ومن أقدم أصنامهم " مناة " وكان منصوبا على ساحل البحر بقديد . تعظمه العرب كلها ، لكن الأوس والخزرج كانوا أشد تعظيما له من غيرهم . وبسبب ذلك أنزل الله إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما .
ثم اتخذوا " اللات " في الطائف ، وقيل : إن أصله رجل صالح كان يلت السويق للحاج ، فمات فعكفوا على قبره .
ثم اتخذوا " العزى " بوادي نخلة بين مكة والطائف .
- ص 24 - فهذه الثلاث أكبر أوثانهم .
ثم كثر الشرك . وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز .
وكان لهم أيضا بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة . وكانوا كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
ولما دعاهم رسول الله إلى الله اشتد إنكار الناس له ، علمائهم وعبادهم ، وملوكهم وعامتهم ، حتى إنه لما دعا رجلا إلى الإسلام قال له : " من معك على هذا ؟ قال : حر وعبد" ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما .
وأعظم الفائدة لك أيها الطالب ، وأكبر العلم وأجل المحصول - إن فهمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ .
وقوله : لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ .
- ص 25 - وقوله : ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة .
فهذه المسألة أجل المسائل . فمن فهمها فهو الفقيه . ومن عمل بها فهو المسلم . فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل بها .
أما البيت المحرم : فإن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما بنياه ، صارت ولايته في إسماعيل وذريته . ثم غلبهم عليه أخوالهم من جرهم . ولم ينازعهم بنو إسماعيل ، لقرابتهم وإعظامهم للحرمة ، أن لا يكون بها قتال . ثم إن جرهم بغوا في مكة . وظلموا من دخلها ، فرق أمرهم . فلما رأى ذلك بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ، وغبشان من خزاعة ، أجمعوا على جرهم فاقتتلوا ، فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكة .
ردحذفوكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرج ، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك .
ثم إن غبشان - من خزاعة - وليت البيت دون بني بكر . وقريش إذ ذاك حلول وصرم ، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة . فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك . حتى كان آخرهم حليل بن حبيشة . فتزوج قصي بن كلاب ابنته .
فلما عظم شرف قصي ، وكثر بنوه وماله : هلك حليل ، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر ، وأن قريشا رءوس آل إسماعيل وصريحهم ، فكلم رجالا من قريش وكنانة في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة ، فأجابوه .
وكان الغوث بن مرة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة ، وولده من بعده . لأن أمه كانت جرهمية لا تلد . فنذرت لله إن ولدت رجلا : أن تتصدق به على الكعبة يخدمها . فولدت الغوث فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم . فولي الإجازة بالناس ؛ لمكانه من الكعبة ، فكان إذا رفع يقول :
اللهــم إنــي تــابع تباعـة إن كان إثما فعلى قضاعة
وكانت " صوفة " تدفع بالناس من عرفة ، وتجيزهم إذا نفروا من منى . فإذا كان يوم النفر أتوا رمي الجمار ورجل من صوفة يرمي لهم ، لا يرمون حتى يرمي لهم . فكان المتعجلون يأتونه يقولون : ارم حتى نرمي . فيقول : لا والله حتى تميل الشمس . فإذا مالت الشمس رمى ورمى الناس معه . فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بالجانبين . فلم يجز أحد حتى يمروا ، ثم يخلون سبيل الناس .
فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بني تميم .
وكانت الإفاضة من مزدلفة في " عدوان " يتوارثونها . حتى كان آخرهم كرب بن صفوان بن جناب : الذي قام عليه الإسلام . فلما كان ذلك العام ، فعلت صوفة ما كانت تفعل ، قد عرفت العرب ذلك لهم . هو دين لهم من عهد جرهم وولاية خزاعة .
فأتاهم قصي بمن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند العقبة ، فقال : نحن - ص 27 - أولى بهذا منكم . فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا . ثم انهزمت صوفة . وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم . وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي ، وعرفوا أنه سيمنعهم ، كما منع صوفة . ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة .
ردحذففلما انحازوا بادأهم وأجمع لحربهم . فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا . تم تداعوا إلى الصلح ، فحكموا يعمر بن عوف ، أحد بني بكر . فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة . وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شدخه تحت قدميه ، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية ، وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ومكة . فسمي يومئذ يعمر الشداخ .
فوليها قصي . وجمع قومه من منازلهم إلى مكة . وتملك عليهم وملكوه . لأنه أقر للعرب ما كانوا عليه . لأنه يراه دينا لا يغير فأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه . حتى جاء الإسلام ، فهدم ذلك كله . وفيه يقول الشاعر :
قصـي لعمري كان يدعى مجمعا بــه جـمع اللـه القبـائل مـن فهـر
فكان قصي بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه ، فكانت إليه الحجابة ، والسقاية والرفادة ، والندوة ، واللواء . وقطع مكة رباعا بين قومه . فأنزل كل قوم منهم منازلهم .
وقيل : إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم . فقطعها بيده وأعوانه ، فسمته قريش " مجمعا" لما جمع من أمرهم ، وتيمنت بأمره . فلا تنكح امرأة - ص 28 - منهم ولا يتزوج رجل ولا يتشاورون فيما نزل بهم ، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره يعقده لهم بعض ولده .
فكان أمره في حياته - وبعد موته - عندهم كالدين المتبع ، واتخذ لنفسه دار الندوة ، فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره . وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه ، وعبد العزى وعبد الدار . فقال قصي لعبد الدار : لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك . لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له . ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت . ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك . ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك . ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك .
فأعطاه دار الندوة ، والحجابة ، واللواء ، والسقاية والرفادة ، وهي خرج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي ، فيصنع به طعاما للحاج ، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد . لأن قصيا فرضه على قريش . فقال لهم : إنكم جيران الله وأهل بيته . وإن الحاج ضيف الله ، وهم أحق الضيف بالكرامة . فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم . ففعلوا .
وكان قصي لا يخالف ، ولا يرد عليه شيء صنعه .
فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم . ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار ، ورأوا أنهم أولى بذلك فتفرقت قريش : بعضهم معهم . وبعضهم مع عبد الدار . فكان صاحب أمر عبد مناف عبد شمس ؛ لأنه أسنهم ، وصاحب أمر بني - ص 29 - عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار . فعقد كل قوم حلفا مؤكدا . فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا . فغمسوا أيديهم فيها ، ومسحوا بها الكعبة . فسموا " المطيبين " وتعاقد بنو عبد الدار وحلفاؤهم فسموا " الأحلاف " ثم تداعوا إلى الصلح ، على أن لعبد مناف السقاية والرفادة ، وأن الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ، فرضوا . وثبت كل قوم مع من حالفوا ، حتى جاء الله بالإسلام . فقال صلى الله عليه وسلم : كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .
وأما حلف الفضول : فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه ، وهم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ، أو ممن دخلها ، إلا قاموا معه ، حتى ترد إليه مظلمته ، فقال الزبير بن عبد المطلب :
ردحذفإن الفضول تحالفوا وتعاقدوا أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمـر عليـه تحـالفوا وتعـاقدوا فالجـار والمعتر فيهم سالم
فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف . لأن عبد شمس سفار ، قلما يقيم بمكة . وكان مقلا ذا ولد . وكان هاشم موسرا ، وهو أول من سن الرحلتين ، رحلة الشتاء والصيف . وأول من أطعم الثريد بمكة ، فقال بعضهم : .
- ص 30 -
عمرو الذي هشم الثريد لقومه قــوم بمكــة مســنتين عجـاف
ولما مات هاشم ولي ذلك المطلب بن عبد مناف . فكان ذا شرف فيهم ، يسمونه الفياض لسماحته .
وكان هاشم قدم المدينة . فتزوج سلمى بنت عمرو ، من بني النجار ، فولدت له عبد المطلب . فلما ترعرع خرج إليه المطلب ليأتي به ، فأبت أمه . فقال : إنه يلي ملك أبيه . فأذنت له . فرحل به . وسلم إليه ملك أبيه . فولي عبد المطلب ما كان أبوه يلي . وأقام لقومه ما أقام آباؤه . وشرف فيهم شرفا لم يبلغه أحد من آبائه . وأحبوه وعظم خطره فيهم .
. . . . . . . . . .
ثم ذكر قصة حفر زمزم ، وما فيها من العجائب .
ثم ذكر قصة نذر عبد المطلب ذبح ولده ، وما جرى فيها من العجائب .
ثم ذكر الآيات التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته ، وبعدها . وما جرى له وقت رضاعه وبعد ذلك .
ثم ذكر كفالة أمه له . ثم كفالة جده . ثم كفالة عمه أبي طالب .
ثم ذكر قصة بحيرى الراهب وغيرها من الآيات .
ثم ذكر تزوجه خديجة ، وما ذكر لها غلامها ميسرة ، وما ذكرته هي لورقة ، وقول ورقة :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا لهـــم طالمـــا بعـــث النشـــيجا
إلى آخرها .
- ص 31 - ثم ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بين قريش في الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة . وذكر قصة بنائها .
وذكر أمر الحمس - وقال : إن قريشا ابتدعته رأيا رأوه . فقالوا : نحن بنو إبراهيم ، وأهل الحرم ، وولاة البيت . فليس لأحد من العرب مثل حقنا . فلا تعظموا أشياء من الحل مثلما تعظمون الحرم ، لئلا تستخف العرب بحرمتكم . فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها ، مع معرفتهم أنها من المشاعر ومن دين إبراهيم . ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها ، ويفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم . فلا ينبغي لنا أن نخرج منه . نحن الحمس و"الحمس" أهل الحرم .
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من أهل الحرم : مثل ما لهم بولادتهم إياهم . أي يحل لهم ما يحل لهم . ويحرم عليهم ما يحرم عليهم .
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك .
ثم ابتدعوا في ذلك أمورا ، فقالوا : لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط ، ولا أن يسلوا السمن وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر ، ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حرما .
ثم قالوا : لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم ، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا - أول طوافهم - إلا في ثياب الحمس . فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا - ص 32 - بالبيت عراة فإن لم يجد القادم ثياب أحمس : طاف في ثيابه وألقاها إذا فرغ . ولم ينتفع بها ولا أحد غيره . فكانت العرب تسميها "اللقى" وحملوا على ذلك العرب . فدانت به . أما الرجال : فيطوفون عراة وأما النساء : فتضع المرأة ثيابها كلها إلا درعا مفرجا ثم نطوف فيه ، فقالت امرأة وهي تطوف .
اليوم يبدو بعضه أو كله ومـا بـدا منـه فلا أحلـه
فلم يزالوا كذلك حتى جاء الله بالإسلام فأنزل الله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وأنزل فيما حرموا يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم إلى قوله يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد إلى قوله لقوم يعلمون .
وذكر حدوث الرجوم ، وإنذار الكهان به صلى الله عليه وسلم ونزول سورة الجن وقصتهم .
ردحذفثم ذكر إنذار اليهود ، وأنه سبب إسلام الأنصار ، وما نزل في ذلك من القرآن . وقصة ابن الهيبان وقوله : " يا معشر يهود ، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ " وقوله : " إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه . وهذه البلدة مهاجره " إلى آخرها .
- ص 33 - ثم ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه .
ثم ذكر الأربعة المتفرقين عن الشرك في طلب الدين الحق : وهم ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل .
ثم ذكر وصية عيسى ابن مريم عليه السلام باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به والنصر له ، وأن يؤدوه إلى أممهم . فأدوا ذلك . وهو قول الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين الآية .
ثم ذكر قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة في الصحيحين - وفيها : أن أول ما نزل عليه : اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله ما لم يعلم . ثم أنزل عليه يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر .
- ص 34 - فمن فهم أن هذه أول آية أرسله الله بها : عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك الذي يعتقدون أنه عبادة الأولياء ليقربوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات . وعرف أن قوله تعالى : وربك فكبر أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها . وعرف قدر الشرك عند الله وقدر التوحيد .
فلما أنذر صلى الله عليه وسلم الناس ، استجاب له القليل . وأما الأكثر : فلم يتبعوا ولم ينكروا ، حتى بادأهم بالتنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلهتهم . فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه . وعذبوهم عذابا شديدا ، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم .
فمن فهم هذا عرف أن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة لمن تركه وعيب دينه ، وإلا لو كان لأولئك المعذبين رخصة لفعلوا .
وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه . وقص الله سبحانه بعضه في كتابه .
ومن أشهر ذلك : قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته . وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة . وصبر عليها ، ومع ذلك كان مصدقا له ، مادحا لدينه ، محبا لمن اتبعه ، معاديا لمن عاداه ، لكن لم يدخل فيه . ولم يتبرأ من دين آبائه ، واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه . ولولا ذلك لاتبعه . ولما مات - وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له - أنزل الله عليه : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم .
ردحذف- ص 35 - فيا لها من عبرة ما أبينها ! ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! لما يظن كثير ممن يدعي اتباع الحق فيمن أحب الحق وأهله ، من غير اتباع للحق ، لأجل غرض من أغراض الدنيا .
ومما وقع أيضا : قصته صلى الله عليه وسلم معهم - لما قرأ سورة النجم بحضرتهم - فلما وصل إلى قوله : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في تلاوته : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى . وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، وتلقاها الصغير والكبير منهم ، وقالوا كلاما معناه : هذا الذي نريد ، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق ، المدبر للأمور ، ولكن نريد شفاعتها عنده . فإذا أقر بذلك فليس بيننا وبينه أي خلاف .
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه . وشاع الخبر : أنهم صافوه ، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة ، فركبوا بالبحر راجعين لظنهم أن ذلك صدق . فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : خاف أن يكون قاله . فخاف من الله خوفا عظيما ، حتى أنزل الله عليه : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله عذاب يوم عقيم .
- ص 36 - فمن عرف هذه القصة وعرف ما عليه المشركون اليوم وما قاله ويقوله علماؤهم ، ولم يميز بين الإسلام الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين دين قريش الذي أرسل الله رسوله ينذرهم عنه ، وهو الشرك الأكبر : فأبعده الله . فإن هذه القصة في غاية الوضوح ، إلا من طبع الله على قلبه وسمعه . وجعل على بصره غشاوة ، فذلك لا حيلة فيه ، ولو كان من أفهم الناس ، كما قال الله تعالى في أهل الفهم الذين لم يوفقوا : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء الآية .
ثم لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز المسلمين : أسلم الأنصار - أهل المدينة - بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود ، وذكرهم لهم النبي وصفته ، وأن هذا زمانه وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء الذين يتمنون ظهوره وينتظرونه ويتوعدونهم به - لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه - يكفرون به ويعادونه . فهو قول الله سبحانه ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
ردحذف- ص 37 - فلما أسلم الأنصار : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة . فهاجروا إليها . وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة . فهو قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية .
وفوائد الهجرة والمسائل التي فيها كثيرة ، لكن نذكر منها مسألة واحدة . وهي :
ردحذفأن ناسا من المسلمين لم يهاجروا ، كراهة مفارقة الأهل والوطن والأقارب ، فهو قول الله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين .
فلما خرجت قريش إلى بدر : خرجوا معهم كرها . فقتل بعضهم بالرمي ، فلما علم الصحابة : أن فلانا قتل ، وفلانا قتل ، تأسفوا على ذلك وقالوا : قتلنا إخواننا . فأنزل الله تعالى فيهم : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض إلى قوله : وكان الله غفورا رحيما .
فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة ، وما أنزل الله فيها من الآيات . فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر ، وفعلوا كفرا ظاهرا يرضون به قومهم : لم - ص 38 - يتأسف الصحابة على قتلهم . لأن الله بين لهم - وهم بمكة - لما عذبوا قوله تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .
فلو سمعوا عنهم كلاما أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه ، ما كانوا يقولون : " قتلنا إخواننا " .
ويوضحه قوله تعالى : قالوا فيم كنتم ولم يقولوا : كيف عقيدتكم ؟ أو كيف فعلكم ؟ بل قالوا : في أي الفريقين كنتم ؟ فاعتذروا بقولهم : كنا مستضعفين في الأرض فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا ، بل قالوا لهم ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ويوضحه قوله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا .
فهذا في غاية الوضوح . فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة فكيف بغيرهم ؟
ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنبا .
فإذا فهمت ما أنزل الله فهما جيدا . وفهمت ما عند من يدعي الدين اليوم ، تبين لك أمور :
- ص 39 - منها : أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم . فإن هذه وأمثالها : لا تعرف إلا بالتنبيه . فإذا كانت قد أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية ، فكيف بغيرهم ؟
ومنها : أنك تعرف أن الإيمان ليس كما يظنه غالب الناس اليوم ، بل كما قال الحسن البصري - فيما روى عنه البخاري : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال .
نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا ، ويعيذنا من علم لا ينفع .
قال عمر بن عبد العزيز : يا بني ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن تعقل عن الله ، ثم تطيعه .
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة ، واجتمع المهاجرون والأنصار : شرع الله لهم الجهاد . وقبل ذلك نهوا عنه ، وقيل لهم : كفوا أيديكم فأنزل الله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى ، رضي الله عنهم ، فشكر الله لهم ذلك ، ونصرهم على من عاداهم ، مع قلتهم وضعفهم ، وكثرة عدوهم وقوتهم .
ردحذففمن الوقائع المشهورة ، التي أنزل الله فيها القرآن : وقعة بدر ، قد أنزل الله فيها سورة الأنفال ، وبعدها وقعة قينقاع ، ثم وقعة أحد بعد سنة ، وفيها - ص 40 - الآيات التي في آل عمران وبعدها وقعة بني النضير ، وفيها الآيات التي في سورة الحشر ، ثم وقعة الخندق ، وبني قريظة ، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب ثم وقعة الحديبية ، وفتح خيبر . وأنزل الله فيها سورة الفتح . وفتح مكة . ووقعة حنين وأنزل الله فيها سورة النصر . وذكر حنين في سورة براءة . ثم غزوة تبوك وذكرها الله في سورة براءة .
ولما دانت له العرب ، ودخلوا في دين الله أفواجا ، وابتدأ في قتال العجم : اختار الله له ما عنده . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد ما أقام بالمدينة عشر سنين . وقد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، فوقعت الردة المشهورة .
. . . . . . . . . .
وذلك : أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارتد غالب من أسلم ، وحصلت فتنة عظيمة ، ثبت الله فيها من أنعم عليهم بالثبات ، بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه . فإنه قام فيها قياما لم يدانه فيها أحد من الصحابة ، ذكرهم فيه ما نسوا . وعلمهم ما جهلوا . وشجعهم لما جبنوا . فثبت الله به دين الإسلام . جعلنا الله من أتباعه وأتباع ما حمله أصحابه .
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله الآية قال الحسن : هم والله أبو بكر وأصحابه .
- ص 41 - قتال أهل الردة
ردحذفوصورة الردة : أن العرب افترقت في ردتها . فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام . وقالوا : لو كان نبيا لما مات . وفرقة قالت : نؤمن بالله ولا نصلي . وطائفة أقروا بالإسلام وصلوا . ولكن منعوا الزكاة . وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله ! وأن محمدا رسول الله . ولكن صدقوا مسيلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة .
وذلك : أنه أقام شهودا شهدوا معه بذلك . وفيهم رجل من أصحابه معروف بالعلم والعبادة ، يقال له : الرجال ، فصدقوه لأجل ما عرفوا فيه من العلم والعبادة . ففيه يقول بعضهم ممن ثبت منهم :
يـا سـعاد الفؤاد بنت أثال طـال ليلـي بفتنـة الرجال
فتن القوم بالشهادة والل ه عزيـــز ذو قـــوة ومحــال
وقوم من أهل اليمن ، صدقوا الأسود العنسي في ادعائه النبوة .
وقوم صدقوا طليحة الأسدي .
ولم يشك أحد من الصحابة في كفر من ذكرنا ، ووجوب قتالهم ، إلا مانع الزكاة ولما عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتالهم قيل له : كيف نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها . قال أبو بكر : فإن الزكاة من حقها ، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه .
ثم زالت الشبهة عن الصحابة رضي الله عنهم ، وعرفوا وجوب قتالهم ، - ص 42 - فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم . فقتلوا من قتلوا منهم ، وسبوا نساءهم وعيالهم .
فمن أهم ما على المسلم اليوم تأمل هذه القصة التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة . فمن تأمل هذا تأملا جيدا - خصوصا إذا عرف أن الله شهرها على ألسنة العامة ، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك ، وجعلوا من أكبر فضائله وعلمه : أنه لم يتوقف في قتالهم بل قاتلهم من أول وهلة . وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم بالدليل الذي أشكل عليهم . فرد عليهم . بدليلهم بعينه ، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة .
ردحذفأما القرآن : فقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك : عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى .
فهذا كتاب الله الصريح للعامي البليد . وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا إجماع العلماء الذين ذكرت لك .
- ص 43 - والذي يعرفك هذا جيدا : هو معرفة ضده ، وهو أن العلماء في زماننا يقولون : من قال : " لا إله إلا الله " فهو المسلم ، حرام المال والدم لا يكفر ولا يقاتل ، حتى إنهم يصرحون بذلك في شأن البدو الذين يكذبون بالبعث . وينكرون الشرائع . ويزعمون أن شرعهم الباطل هو حق الله ، ولو طلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله لعدوه من أنكر المنكرات ، بل من حيث الجملة : إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره . ويكفرون بدين الرسول كله ، مع إقرارهم بذلك بألسنتهم ، وإقرارهم : أن شرعهم أحدثه آباؤهم لهم كفرا بشرع الله .
وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله . ويقولون ما فيهم من الإسلام شعرة . وهذا القول تلقته العامة عن علمائهم ، وأنكروا به ما بينه الله ورسوله . بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة ، وقالوا : من كفر مسلما فقد كفر . والمسلم عندهم : الذي ليس معه من الإسلام شعرة ، إلا أنه يقول بلسانه : " لا إله إلا الله " وهو أبعد الناس عن فهمها وتحقيق مطلوبها علما وعقيدة وعملا .
. . . . . . . . . .
فاعلم - رحمك الله - أن هذه المسألة : أهم الأشياء كلها عليك . لأنها هي الكفر والإسلام . فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا لك من القرآن الكريم والسنة والإجماع . وإن صدقت الله ورسوله عادوك وكفروك .
وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول في هذه المسألة : قد اشتهر في الأرض مشرقها ومغربها . ولم يسلم منه إلا أقل القليل .
- ص 44 - فإن رجوت الجنة ، وخفت من النار : فاطلب هذه المسألة وادرسها من الكتاب والسنة ، وحررها ، ولا تقصر في طلبها ، لأجل شدة الحاجة إليها ، ولأنها الإسلام والكفر . وقل : اللهم ألهمني رشدي ، وفهمني عنك ، وعلمني منك ، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتني .
وأكثر الدعاء بالدعاء الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو به في الصلاة . وهو اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك . إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
ردحذفونزيد المسألة إيضاحا ودلائل لشدة الحاجة إليها ، فنقول :
ليفطن العاقل لقصة واحدة منها . وهي أن بني حنيفة أشهر أهل الردة ، وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة . وهم عند الناس أقبح أهل الردة . وأعظمهم كفرا . وهم - مع هذا - يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويؤذنون ويصلون ، ومع هذا فإن أكثرهم يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك ، لأجل الشهود الذين شهدوا مع الرجال .
والذي يعرف هذا - ولا يشك فيه - يقول : من قال " لا إله إلا الله " فهو المسلم ، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة ، بل قد تركه واستهزأ به متعمدا . فسبحان الله مقلب القلوب كيف يشاء !! كيف يجتمع في قلب من له عقل - ولو كان من أجهل الناس - أنه يعرف أن بني حنيفة كفروا ، - ص 45 - مع أن حالهم ما ذكرنا . وأن البدو إسلام . ولو تركوا الإسلام كله ، وأنكروه ، واستهزءوا به على عمد . لأنهم يقولون : " لا إله إلا الله " لكن أشهد أن الله على كل شيء قدير . نسأله أن يثبت قلوبنا على دينه ، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، وأن يهب لنا منه رحمة . إنه هو الوهاب .
- ص 46 - الدليل الثاني
قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين
وهي أن بقايا من بني حنيفة ، لما رجعوا إلى الإسلام وتبرءوا من مسيلمة ، وأقروا بكذبه : كبر ذنبهم عند أنفسهم ، وتحملوا بأهليهم إلى الثغر لأجل الجهاد في سبيل الله لعل ذلك يمحو عنهم آثار تلك الردة لأن الله تعالى يقول : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ويقول : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فنزلوا الكوفة . وصار لهم بها محلة معروفة ، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة ، فمر بعض المسلمين على مسجدهم بين المغرب والعشاء . فسمعوا منهم كلاما معناه : أن مسيلمة كان على حق وهم جماعة كثيرون ، لكن الذي لم يقله لم ينكره على من قاله . فرفعوا أمرهم إلى عبد الله بن مسعود ، فجمع من عنده من الصحابة واستشارهم : هل يقتلهم وإن تابوا ، أو يستتيبهم ؟ فأشار بعضهم بقتلهم من غير استتابة . وأشار بعضهم باستتابتهم ، فاستتاب بعضهم ، وقتل بعضهم ، ولم يستتبه .
فتأمل - رحمك الله - إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصالحة الشاقة ما أظهروا ، لما تبرءوا من الكفر ، وعادوا إلى الإسلام . ولم يظهر منهم إلا كلمة أخفوها في مدح مسيلمة ، لكن سمعها بعض المسلمين . ومع هذا - ص 47 - لم يتوقف أحد في كفرهم كلهم - المتكلم والحاضر الذي لم ينكر - ولكن اختلفوا : هل تقبل توبتهم أو لا ؟ والقصة في صحيح البخاري .
فأين هذا من كلام من يزعم أنه من العلماء ويقول : البدو ما معهم من الإسلام شعرة ، إلا أنهم يقولون : " لا إله إلا الله " ومع ذلك يحكم بإسلامهم بذلك ؟ أين هذا مما أجمع عليه الصحابة : فيمن قال تلك الكلمة ، أو حضرها ولم ينكر ؟
سارت مشرقة وسرت مغربا شـتان بيـن مشـرق ومغرب
ردحذفربنا إني أعوذ بك أن أكون ممن قلت فيهم : فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون ولا ممن قلت فيهم : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون .
- ص 48 - الدليل الثالث
ما وقع في زمان الخلفاء الراشدين
قصة أصحاب علي بن أبي طالب - لما اعتقدوا فيه الإلهية التي تعتقد اليوم في أناس من أكفر بني آدم وأفسقهم - فدعاهم إلى التوبة فأبوا . فخد لهم الأخاديد وملأها حطبا . وأضرم فيها النار . وقذفهم فيها وهم أحياء .
ومعلوم أن الكافر - مثل اليهودي والنصراني - إذا أمر الله بقتله لا يجوز إحراقه بالنار فعلم أنهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى .
هذا ، وهم يقومون الليل ويصومون النهار ويقرءون القرآن ، آخذين له عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما غلوا في علي ذلك الغلو : أحرقهم في النار وهم أحياء . وأجمع الصحابة وأهل العلم كلهم على كفرهم . فأين هذا ممن يقول في البدو تلك المقالة ، مع اعترافه بهذه القصة وأمثالها ، واعترافه : أن البدو كفروا بالإسلام كله ، إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله !
واعلم أن جناية هؤلاء إنما هي على الألوهية ، وما علمنا فيهم جناية على النبوة ، والذين قبلهم جنايتهم على النبوة ، ما علمنا لهم جناية على الإلهية . وهذا مما يبين لك شيئا من معنى الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام .
- ص 49 -
الدليل الرابع
ما وقع في زمن الصحابة أيضا
وهي قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي . وهو رجل من التابعين ، مصاهر لعبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه ، مظهر للصلاح . فظهر في العراق يطلب بدم الحسين وأهل بيته ، فقتل ابن زياد ، ومال إليه من مال لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم ابن زياد . فاستولى على العراق ، وأظهر شرائع الإسلام ، ونصب القضاة والأئمة من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه وكان هو الذي يصلي بالناس الجمعة والجماعة ، لكن في آخر أمره زعم أنه يوحى إليه . فسير إليه عبد الله بن الزبير جيشا ، فهزموا جيشه وقتلوه ، وأمير الجيش مصعب بن الزبير ، وتحته امرأة أبوها أحد الصحابة ، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت . فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها ، فكتب إليه : إن لم تبرأ منه فاقتلها . فامتنعت ، فقتلها مصعب .
وأجمع العلماء كلهم على كفر المختار - مع إقامته شعائر الإسلام - لما جنى على النبوة .
وإذا كان الصحابة قتلوا المرأة التي هي من بنات الصحابة لما امتنعت من تكفيره ، فكيف بمن لم يكفر البدو مع إقراره بحالهم ؟ فكيف بمن زعم أنهم هم أهل الإسلام ، ومن دعاهم إلى الإسلام هو الكافر ؟ يا ربنا نسألك العفو والعافية .
- ص 50 - الدليل الخامس
ردحذفما وقع في زمن التابعين
وذلك قصة الجعد بن درهم ، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة . فلما جحد شيئا من صفات الله - مع كونها مقالة خفية عند الأكثر - ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى ، فقال : يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما . ثم نزل فذبحه ، ولم يعلم أن أحدا من العلماء أنكر ذلك عليه . بل ذكر ابن القيم إجماعهم على استحسانه ، فقال :
شـكر الضحية كل صاحب سنة للـــه درك مـــن أخـــي قربـــان
فإذا كان رجل من أشهر الناس بالعلم والعبادة ، أخذ العلم عن الصحابة ، أجمعوا على استحسان قتله ، فأين هذا من اعتقاد أعداء الله في البدو ؟
- ص 51 - الدليل السادس
قصة بني عبيد القداح
فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة . فادعى عبيد الله أنه من آل علي بن أبي طالب من ذرية فاطمة ، وتزيا بزي أهل الطاعة والجهاد في سبيل الله . فتبعه أقوام من البربر من أهل المغرب . وصار له دولة كبيرة في المغرب ولأولاده من بعده . ثم ملكوا مصر والشام ، وأظهروا شرائع الإسلام وإقامة الجمعة والجماعة . ونصبوا القضاة والمفتين . لكن أظهروا الشرك ومخالفة الشريعة ، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم وشدة كفرهم . فأجمع أهل العلم : أنهم كفار ، وأن دارهم دار حرب ، مع إظهارهم شعائر الإسلام .
وفي مصر من العلماء والعباد أناس كثير ، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوا من الكفر . ومع ذلك أجمع العلماء على ما ذكرناه ، حتى إن بعض أكابر أهل العلم المعروفين بالصلاح قال لو أن معي عشرة أسهم لرميت بواحد منها النصارى المحاربين . ورميت بالتسعة بني عبيد .
ولما كان زمان السلطان محمود بن زنكي أرسل إليهم جيشا عظيما بقيادة صلاح الدين . فأخذوا مصر من أيديهم . ولم يتركوا جهادهم بمصر لأجل من فيها من الصالحين .
فلما فتحها السلطان محمود فرح المسلمون بذلك أشد الفرح . وصنف ابن الجوزي في ذلك كتابا سماه " النصر على مصر " .
- ص 52 - وأكثر علماء التصنيف والكلام في كفرهم مع ما ذكرنا من إظهارهم شرائع الإسلام الظاهرة .
فانظر ما بين هذا وبين ديننا الأول أن البدو إسلام ، مع معرفتنا بما هم عليه من البراءة من الإسلام كله ، إلا قول " لا إله إلا الله " ولا تظن أن أحدا منهم لا يكفر إلا إن انتقل يهوديا أو نصرانيا .
ردحذففإن آمنت بما ذكر الله ورسوله ، وبما أجمع عليه العلماء ، وتبرأت من دين آبائك في هذه المسألة ، وقلت : آمنت بالله وبما أنزل الله ، وتبرأت مما خالفه باطنا وظاهرا ، مخلصا لله الدين في ذلك . وعلم الله ذلك من قلبك ، فأبشر . ولكن اسأل الله التثبيت . واعرف أنه مقلب القلوب .
- ص 53 - الدليل السابع
قصة التتار
وذلك أنهم بعد ما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا ، وسكنوا بلاد المسلمين ، وعرفوا دين الإسلام : استحسنوه وأسلموا . لكن لم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه . وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة ، لكنهم كانوا يتلفظون بالشهادتين ، ويصلون الصلوات الخمس والجمعة والجماعة . وليسوا كالبدو ، ومع هذا كفرهم العلماء ، وقاتلوهم وغزوهم . حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين .
وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله .
وأما من أراد الله فتنته : فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك .
ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة ، من قتل من أتى بأمور يكفر بها - ولو كان يظهر شعائر الإسلام - وقامت عليه البينة باستحقاقه للقتل ، مع أن في هؤلاء المقتولين من كان من أعلم الناس وأزهدهم وأعبدهم في الظاهر ، مثل الحلاج وأمثاله ، ومن هو من الفقهاء المصنفين ، كالفقيه عمارة .
فلو ذكرنا قصص هؤلاء لاحتمل مجلدات . ولا نعرف فيهم رجلا واحدا بلغ كفره كفر البدو الذين يقول عنهم - من يزعم إسلامهم - : إنه ليس معهم من الإسلام شعرة إلا قول : " لا إله إلا الله " ولكن من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
- ص 54 - والعجب أن الكتب التي بأيديهم ، والتي يزعمون أنهم يعرفونها ويعملون بها : فيها مسائل الردة .
وتمام العجب : أنهم يعرفون بعض ذلك ويقرون به ، ويقولون : من أنكر البعث كفر . ومن شك فيه كفر . ومن سب الشرع كفر . ومن أنكر فرعا مجمعا عليه كفر . كل هذا يقولونه بألسنتهم .
فإذا كان من أنكر الأكل باليمين ، أو أنكر النهي عن إسبال الثياب ، أو أنكر سنة الفجر أو الوتر : فهو كافر . ويصرحون أن من أنكر الإسلام كله وكذب به ، واستهزأ بمن صدقه : فهو أخوك المسلم ، حرام الدم والمال ، ما دام يقول : " لا إله إلا الله " ثم يكفروننا ، ويستحلون دماءنا وأموالنا ، مع أنا نقول : " لا إله إلا الله " فإذا سئلوا عن ذلك قالوا : من كفر مسلما فقد كفر .
تم لم يكفهم ذلك حتى أفتوا لمن عاهدنا بعهد الله ورسوله أن ينقض العهد وله في ذلك ثواب عظيم ، ويفتون من عنده أمانة لنا ، أو مال يتيم : أنه يجوز له أكل أمانتنا . ولو كانت مال يتيم ، بضاعة عنده أو وديعة ، بل يرسلون الرسائل لدهام بن دواس وأمثاله : إذا حاربوا التوحيد ونصروا عبادة الأصنام ، يقولون : أنت يا فلان قمت مقام الأنبياء . مع إقرارهم أن التوحيد - الذي ندعو إليه ، وكفروا به وصدوا الناس عنه - هو دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأن الشرك - الذي نهينا الناس عنه ، ورغبوهم فيه ، وأمروهم بالصبر على آلهتهم - أنه الشرك الذي نهى عنه الأنبياء . ولكن هذه من أكبر آيات الله ، فمن لم يفهمها فليبك على نفسه . والله سبحانه وتعالى أعلم .
ردحذف- ص 55 - نسب النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . إلى هنا معلوم الصحة . وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل . وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب . والقول بأنه إسحاق باطل .
ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل . وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته ، وإلا فأهل الفيل نصارى أهل كتاب ، دينهم خير من دين أهل مكة . لأنهم عباد أوثان . فنصرهم الله نصرا لا صنع للبشر فيه ، تقدمة للنبي الذي أخرجته قريش من مكة ، وتعظيما للبلد الحرام .
قصة الفيل
وكان سبب قصة أصحاب الفيل - على ما ذكر محمد بن إسحاق - أن أبرهة بن الصباح كان عاملا للنجاشي ملك الحبشة على اليمن ، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة - شرفها الله - فبنى كنيسة بصنعاء . وكتب إلى النجاشي " إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها ، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب " فسمع به رجل من بني كنانة ، فدخلها ليلا . فلطخ قبلتها بالعذرة . فقال أبرهة : من الذي اجترأ على هذا ؟ قيل : رجل من أهل ذلك البيت ، سمع بالذي قلت . فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة - ص 56 - حتى يهدمها . وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ، فسأله أن يبعث إليه بفيله . وكان له فيل يقال له : محمود ، لم ير مثله عظما وجسما وقوة ، فبعث به إليه . فخرج أبرهة سائرا إلى مكة . فسمعت العرب بذلك فأعظموه ، ورأوا جهاده حقا عليهم .
فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له : ذو نفر . فقاتله . فهزمه أبرهة وأخذه أسيرا ، فقال : أيها الملك استبقني خيرا لك ، فاستبقاه وأوثقه .
ردحذفوكان أبرهة رجلا حليما . فسار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي ، ومن اجتمع إليه من قبائل العرب . فقاتلوهم فهزمهم أبرهة . فأخذ نفيلا ، فقال له : أيها الملك إنني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة . فاستبقني خيرا لك . فاستبقاه . وخرج معه يدله على الطريق .
فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف . فقال له : أيها الملك ، نحن عبيدك . ونحن نبعث معك من يدلك . فبعثوا معه بأبي رغال مولى لهم . فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال ، وهو الذي يرجم قبره . وبعث أبرهة رجلا من الحبشة - يقال له : الأسود بن مفصود - على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نعم الناس . فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير .
ثم بعث رجلا من حمير إلى أهل مكة ، فقال : أبلغ شريفها أنني لم آت لقتال ، بل جئت لأهدم البيت . فانطلق ، فقال لعبد المطلب ذلك .
فقال عبد المطلب : ما لنا به يدان . سنخلي بينه وبين ما جاء له . فإن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه . وإن يخل - ص 57 - بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوة .
قال : فانطلق معي إلى الملك - وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب ، فأتاه ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا ، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل ، فإنه لي صديق ، فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك .
فأرسل إليه ، فقال لأبرهة : إن هذا سيد قريش يستأذن عليك . وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف لأمرك ، وأنا أحب أن تأذن له .
وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما . فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه . وكره أن يجلس معه على سريره . وأن يجلس تحته . فهبط إلى البساط فدعاه فأجلسه معه . فطلب منه أن يرد عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله .
فقال أبرهة لترجمانه ، قل له : إنك كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت فيك . قال : لم ؟ قال : جئت إلى بيت - هو دينك ودين آبائك ، وشرفكم وعصمتكم - لأهدمه . فلم تكلمني فيه ، وتكلمني في مائتي بعير؟ قال : أنا رب الإبل . والبيت له رب يمنعه منك .
فقال : ما كان ليمنعه مني .
قال : فأنت وذاك . فأمر بإبله فردت عليه .
ثم خرج وأخبر قريشا الخبر ، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ، ويتحرزوا في رءوس الجبال ، خوفا عليهم من معرة الجيش .
ففعلوا . وأتى عبد المطلب البيت . فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
يـا رب لا أرجـو لهم سواكا يا رب فامنع منهمو حماكا
ردحذفإن عـدو البيـت من عاداكا فـامنعهمو أن يخـربوا قراكا
وقال أيضا :
لا هم إن المرء يمنع رحله وحلالــــه فـــامنع حـــلالك
لا يغلبــــــــن صليبهـــــــم ومحـــالهم غـــدوا محــالك
جــــروا جــــموع بلادهــــم والفيـل كـي يسبوا عيالك
إن كـــنت تــاركهم وكــعب تنـــا فـــأمر مـــا بـــدا لـــك
ثم توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه . وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول . وعبأ جيشه . وهيأ فيه . فأقبل نفيل إلى الفيل . فأخذ بأذنه . فقال : ابرك محمود . فإنك في بلد الله الحرام . فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى . فوجهوه إلى اليمن ، فقام يهرول . ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى المشرق ففعل ذلك . فصرفوه إلى الحرم فبرك . وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل ، فأرسل الله طيرا من قبل البحر مع كل طائر ثلاثة أحجار . حجرين في رجليه وحجرا في منقاره . فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم . فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك . وليس كل القوم أصابت . فخرج البقية هاربين يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فماج بعضهم في بعض . يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل . وبعث الله على أبرهة داء في جسده . فجعلت تساقط أنامله حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ . وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك .
- ص 59 - رجعنا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم .
ردحذفوفاة عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد اختلف في وفاة أبيه : هل توفي بعد ولادته أو قبلها ؛ الأكثر : على أنه توفي وهو حمل . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء ، منصرفها من المدينة من زيارة أخواله . ولم يستكمل إذ ذاك ست سنين .
فكفله جده عبد المطلب . ورق عليه رقة لم يرقها على أولاده . فكان لا يفارقه . وما كان أحد من ولده يجلس على فراشه - إجلالا له - إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقدم مكة قوم من بني مدلج من القافة . فلما نظروا إليه قالوا لجده : احتفظ به . فلم نجد قدما أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه . فقال لأبي طالب : اسمع ما يقول هؤلاء ، واحتفظ به .
وتوفي جده في السنة الثامنة من مولده . وأوصى به إلى أبي طالب . وقيل إنه قال له :
أوصيـك يـا عبـد مناف بعدي بمفــــرد بعــــد أبيــــه فـــرد
وكـنت كـالأم لـه فـي الوجد تدنيـه مـن أحشـائها والكبد
فأنت من أرجى بني عندي لـــرفع ضيــم ولشــد عضــد
عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب من سادات قريش ، محافظا على العهود . متخلقا بمكارم الأخلاق . يحب المساكين ، ويقوم في خدمة - ص 60 - الحجيج ، ويطعم في الأزمات . ويقمع الظالمين . وكان يطعم حتى الوحوش والطير في رءوس الجبال . وكان له أولاد أكبرهم الحارث ، توفي في حياة أبيه . وأسلم من أولاد الحارث عبيدة - قتل ببدر - وربيعة ، وأبو سفيان ، وعبد الله .
ومنهم : الزبير بن عبد المطلب شقيق عبد الله . وكان رئيس بني هاشم وبني المطلب في حرب الفجار ، شريفا شاعرا . ولم يدرك الإسلام . وأسلم من أولاده : عبد الله ، واستشهد بأجنادين ، وضباعة ، ومجل ، وصفية ، وعاتكة .
وأسلم منهم حمزة بن عبد المطلب ، والعباس .
ومنهم : أبو لهب مات عقيب بدر . وله من الولد : عتيبة الذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله السبع . وله عتبة ، ومعتب . أسلما يوم الفتح . ومن بناته : أروى . تزوجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ، فولدت له عامرا وأروى . فتزوج أروى عفان بن أبي العاص بن أمية . فولدت له عثمان ، ثم خلف عليها عقبة بن أبي معيط ، فولدت له الوليد بن عقبة ، وعاشت إلى خلافة ابنها عثمان .
ومنهن : برة بنت عبد المطلب ، أم أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي .
ومنهن : عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية . وهي صاحبة المنام قبل يوم بدر . واختلف في إسلامها .
ومنهن : صفية أم الزبير بن العوام . أسلمت وهاجرت .
وأروى أم آل جحش : عبد الله ، وأبي أحمد ، وعبيد الله ، وزينب ، وحمنة .
- ص 61 - وأم عبد المطلب : هي سلمى بنت زيد من بني النجار ، تزوجها أبوه هاشم بن عبد مناف . فخرج إلى الشام - وهي عند أهلها ، وقد حملت بعبد المطلب - فمات بغزة . فرجع أبو رهم بن عبد العزى وأصحابه إلى المدينة بتركته . وولدت امرأته سلمى : عبد المطلب . وسمته شيبة الحمد . فأقام في أخواله مكرما . فبينما هو يناضل الصبيان ، فيقول : أنا ابن هاشم ، سمعه رجل من قريش ، فقال لعمه المطلب : إني مررت بدور بني قيلة . فرأيت غلاما يعتزي إلى أخيك . وما ينبغي ترك مثله في الغربة . فرحل إلى المدينة في طلبه . فلما رآه فاضت عيناه ، وضمه إليه . وأنشد شعرا :
عرفت شيبة والنجار قد جعلت أبناءهــا حولــه بـالنبل تنتضـل
ردحذفعــرفت إجــلاده فينـا وشـيمته ففـاض منـي عليـه وابل هطل
فأردفه على راحلته ، فقال : يا عم ، ذلك إلى الوالدة . فجاء إلى أمه . فسألها أن ترسل به معه ، فامتنعت . فقال لها : إنما يمضي إلى ملك أبيه ، وإلى حرم الله . فأذنت له . فقدم به مكة ، فقال الناس : هذا عبد المطلب . فقال : ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم .
فأقام عنده حتى ترعرع . فسلم إليه ملك هاشم : من أمر البيت ، والرفادة ، والسقاية ، وأمر الحجيج ، وغير ذلك .
وكان المطلب شريفا مطاعا جوادا ، وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه . وهو الذي عقد الحلف بين قريش وبين النجاشي . وله من الولد : الحارث ، ومخرمة ، وعباد ، وأنيس ، وأبو عمر ، وأبو رهم ، وغيرهم .
- ص 62 - ولما مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح شيبة . فغصبه إياها ، فسأل رجالا من قريش النصرة على عمه . فقالوا : لا ندخل بينك وبين عمك . فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتا ، منها :
يــا طــول ليلــي لأحـزاني وأشـغالي هـل مـن رسـول إلـى النجار أخوالي؟
بنــــــي عـــــدي ودينـــــار ومازنهـــــا ومــالك عصمــة الحــيران عـن حـالي
قد كنت فيهم وما أخشى ظلامة ذي ظلــــم عزيـــزا منيعـــا نـــاعم البـــال
حـتى ارتحـلت إلـى قومي , وأزعجني لــــذاك مطلــــب عمــــي بترحــــالي
فغـــاب مطلـــب فـــي قعـــر مظلمــة ثــم انــبرى نــوفل يعـدو علـى مـالي
لمــــا رأى رجــــلا غــــابت عمومتـــه وغـــــاب أخوالـــــه عنــــه بلا والــــي
فاسـتنفروا وامنعـوا ضيـم ابـن أختكم لا تخـــــذلوه فمــــا أنتــــم بخــــذالي
- ص 63 - فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى . وسار من المدينة في ثمانين راكبا ، حتى قدم مكة . فنزل بالأبطح فتلقاه عبد المطلب وقال : المنزل يا خال . فقال : لا والله حتى ألقى نوفلا . فقال : تركته بالحجر جالسا في مشايخ قومه . فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم . فقام نوفل قائما ، فقال : يا أبا سعد ، أنعم صباحا . فقال : لا أنعم الله لك صباحا ، وسل سيفه . وقال : ورب هذا البيت ، لئن لم ترد على ابن أختي أركاحه لأمكنن منك هذا السيف . فقال : رددتها عليه . فأشهد عليه مشايخ قريش . ثم نزل على شيبة ، فأقام عنده ثلاثا . ثم اعتمر ورجع إلى المدينة . فقال عبد المطلب :
ويــأبى مــازن وأبـو عـدي ودينار بن تيم الله ضيمي
بهــم رد الإلــه علــي ركحــي وكانوا في انتساب دون قومي
فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم ، وحالفت بنو هاشم : خزاعة على بني عبد شمس ونوفل . فكان ذلك سببا لفتح مكة . كما سيأتي .
فلما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب ، قالوا : نحن ولدناه كما ولدتموه ، فنحن أحق بنصره . وذلك أن أم عبد مناف منهم . فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وكتبوا بينهم كتابا .
عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ردحذفوأما عبد الله ، والد النبي صلى الله عليه وسلم : فهو الذبيح .
وسبب ذلك : أن عبد المطلب أمر في المنام بحفر زمزم . ووصف له - ص 64 - موضعها . وكانت جرهم قد غلبت آل إسماعيل على مكة ، وملكوها زمانا طويلا . ثم أفسدوا في حرم الله . فوقع بينهم وبين خزاعة حرب ، وخزاعة من قبائل اليمن ، من أهل سبأ . ولم يدخل بينهم بنو إسماعيل . فغلبتهم خزاعة . ونفت جرهما من مكة . وكانت جرهم قد دفنت الحجر الأسود ، والمقام وبئر زمزم . وظهر بعد ذلك قصي بن كلاب على مكة . ورجع إليه ميراث قريش . فأنزل بعضهم داخل مكة - وهم قريش الأباطح - وبعضهم خارجها - وهم قريش الظواهر - فبقيت زمزم مدفونة إلى عصر عبد المطلب . فرأى في المنام موضعها . فقام يحفر . فوجد فيها سيوفا مدفونة وحليا ، وغزالا من ذهب مشنفا بالدر . فعلقه عبد المطلب على الكعبة . وليس مع عبد المطلب إلا ولده الحارث . فنازعته قريش ، وقالوا له : أشركنا ، فقال : ما أنا بفاعل . هذا أمر خصصت به . فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه .
فنذر حينئذ عبد المطلب : لئن آتاه الله عشرة أولاد ، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة . فلما تموا عشرة . وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه . وكتب كل منهم اسمه في قدح . وأعطوها القداح قيم هبل - وكان الذي يجيل القداح - فخرج القدح على عبد الله . وأخذ عبد المطلب المدية ليذبحه . فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه . فقال : كيف أصنع بنذري ؟ فأشاروا عليه أن ينحر مكانه عشرا من الإبل . فأقرع بين عبد الله وبينها . فوقعت القرعة عليه . فاغتم عبد المطلب ، ثم لم يزل يزيد عشرا عشرا ، ولا تقع القرعة إلا عليه ، إلى أن بلغ مائة ، فوقعت القرعة على الإبل . فنحرت عنه . فجرت سنة . - ص 65 - وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنا ابن الذبيحين .
يعني إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله .
ثم ترك عبد المطلب الإبل لا يرد عنها إنسانا ولا سبعا . فجرت الدية في قريش والعرب مائة من الإبل . . وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت صفية بنت عبد المطلب :
نحـن حفرنا للحجيج زمزم سقيا الخليل وابنه المكرم
جــبريل الــذي لــم يــذمم شفاء سقم وطعام مطعم
أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ردحذفوأما أبو طالب : فهو الذي تولى تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد جده كما تقدم ، ورق عليه رقة شديدة . وكان يقدمه على أولاده .
قال الواقدي : قام أبو طالب - من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة أي ثلاثا وأربعين - يحوطه ويقوم بأمره ، ويذب عنه . ويلطف به . وقال أبو محمد بن قدامة : كان يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم . وله في ذلك أشعار ، منها :
ألا أبلغـــا عنــي علـى ذات بيننـا لؤيــا . وخصـا مـن لـؤي بنـي كعب
بأنـــا وجدنـا فـي الكتـاب محـمدا نبيـا كموسى , خط في أول الكتب
- ص 66 - وأن عليــــه فـــي العبـــاد محبــة ولا خـير ممـن خصـه اللـه بـالحب
ومنها :
تعلـــم خيــار النــاس أن محــمدا وزير لموسى والمسيح ابن مريم
فلا تجــعلوا للــه نـدا وأسـلموا فإن طريق الحق ليس بمظلم
ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار . ولما حضرته الوفاة : دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية - فقال : "يا عم قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه ، وهما يرددان عليه حتى كان آخر كلمة قالها : "هو على ملة عبد المطلب " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ونزل قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية .
قال ابن إسحاق : وقد رثاه ولده علي بأبيات ، منها :
أرقــــت لطـــير آخـــر الليـــل غــردا يذكـــرني شــجوا عظيمــا مجــددا
أبـا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى جــــوادا إذا مـــا أصــدر الأمــر أوردا - ص 67 -
فأمســـت قــريش يفرحـون بموتـه ولســــت أرى حيــا يكــون مخــلدا
أرادوا أمـــــورا زيفتهــــا حــــلومهم ســتوردهم يومـا مـن الغـي موردا
يرجــــون تكـــذيب النبـــي وقتلـــه وأن يفـــترى قدمــا عليــه ويجحـدا
كــذبتم وبيـت اللـه حـتى نـذيقكم صــدور العـوالي والحسـام المهندا
خلف أبو طالب أربعة ذكور وابنتين . فالذكور : طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وعلي ، وبين كل واحد عشر سنين . فطالب أسنهم ، ثم عقيل ، ثم جعفر ، ثم علي .
فأما طالب : فأخرجه المشركون يوم بدر كرها . فلما انهزم الكفار طلب ، فلم يوجد في القتلى ، ولا في الأسرى ، ولا رجع إلى مكة ، وليس له عقب .
وأما عقيل : فأسر ذلك اليوم . ولم يكن له مال . ففداه عمه العباس .
ثم رجع إلى مكة . فأقام بها إلى السنة الثامنة . ثم هاجر إلى المدينة . فشهد مؤتة مع أخيه جعفر . وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ .
واستمرت كفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا - فلما بلغ اثنتي عشرة سنة - وقيل : تسعا خرج به أبو طالب إلى الشام في تجارة ، فرآه بحيرى الراهب ، وأمر عمه أن لا يقدم به إلى الشام ؛ خوفا عليه من اليهود . فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة .
- ص 68 - ووقع في الترمذي . " أنه بعث معه بلالا " وهو غلط واضح . فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا .
خروجه إلى الشام وزواجه خديجة
ردحذففلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة : خرج إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها ، ومعه ميسرة غلامها . فوصل بصرى .
ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد . وهي أول امرأة تزوجها ، وأول امرأة ماتت من نسائه . ولم ينكح عليها غيرها . وأمره جبريل : " أن يقرأ عليها السلام من ربها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب " .
تحنثه في غار حراء
ثم حبب إليه الخلاء ، والتعبد لربه ، فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه وبغضت إليه الأوثان ودين قومه . فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك . وأنبته الله نباتا حسنا ، حتى كان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأعزهم جوارا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا . وأحفظهم لأمانة . حتى سماه قومه " الأمين " لما جمع الله فيه من الأحوال الصالحة ، والخصال الكريمة المرضية .
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة : قامت قريش في بناء الكعبة حين تضعضعت .
قال أهل السير : كان أمر البيت - بعد إسماعيل عليه السلام - إلى ولده ، ثم غلبت جرهم عليه . فلم يزل في أيديهم حتى استحلوا حرمته . وأكلوا ما يهدى إليه . وظلموا من دخل مكة . ثم وليت خزاعة البيت بعدهم ، إلا أنه كان إلى قبائل من مضر ثلاث خلال : -
الأولى : الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة ، تجيزهم صوفة .
والثانية : الإفاضة من جمع ، غداة النحر إلى منى . وكان ذلك إلى يزيد بن عدوان ، وكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة .
والثالثة : إنساء الأشهر الحرم ، وكان إلى رجل من بني كنانة يقال له حذيفة ثم صار إلى جنادة بن عوف .
قال ابن إسحاق : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، جمعت قريش لبنيان الكعبة . وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ، ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما فوق القامة . فأرادوا رفعها وتسقيفها . وذلك أن قوما سرقوا كنز الكعبة . وكان في بئر في جوف الكعبة . وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت . فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها .
وكان بمكة رجل قبطي نجار . فهيأ لهم بعض ما كان يصلحها . وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيه ما يهدى لها كل يوم ، - ص 70 - فتتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها . فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها . فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب . وقد كفانا الله الحية .
ردحذففلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها : قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجرا . فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة .
فكان شق الباب : لبني عبد مناف وزهرة . وما بين الركن الأسود واليماني : لبني مخزوم ، وقبائل من قريش انضافت إليهم . وكان ظهر الكعبة : لبني جمح وبني سهم . وكان شق الحجر : لبني عبد الدار ، ولبني أسد بن عبد العزى ، ولبني عدي . وهو الحطيم .
ثم إن الناس هابوا هدمها ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول . ثم قام عليها . وهو يقول : اللهم لا ترع - أو : لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين . فتربص الناس تلك الليلة . وقالوا : إن أصيب ، لم نهدم منها شيئا . ورددناها كما كانت ، وإلا فقد رضي الله ما صنعنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله . فهدم وهدم الناس معه .
حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - - ص 71 - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة ، أخذ بعضها بعضا . فأدخل بعضهم عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما . فلما تحرك الحجر : انتفضت مكة بأسرها . فانتهوا عند ذلك الأساس .
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود . فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه ، حتى تحاوروا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة ، مملوءة دما . تعاهدوا - هم وبنو عدي بن كعب - على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم . فسموا " لعقة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال ، أو خمسا .
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد . فتشاوروا وتناصفوا .
فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي - وكان يومئذ أسن قريش كلهم - قال : اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب المسجد . ففعلوا ، فكان أول من دخل : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه ، قالوا : هذا الأمين ، رضينا به ، هذا محمد " فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر . فقال صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوبا " فأتي به . فأخذ الركن فوضعه فيه بيده . ثم قال : "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوا جميعا " ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه : وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم . ثم بنى عليه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة . وكانوا يرفعون أزرهم على عواتقهم ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبط به - أي طاح على وجهه - ونودي "استر عورتك" فما رئيت له عورة بعد ذلك .
- ص 72 - فلما بلغوا خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة .
وكان البيت يكسى القباطي . تم كسي البرود ، وأول من كساه الديباج : الحجاج بن يوسف .
وأخرجت قريش الحجر لقلة نفقتهم . ورفعوا بابها عن الأرض ، لئلا يدخلها إلا من أرادوا . وكانوا إذا أرادوا ألا يدخلها أحد لا يريدون دخوله تركوه حتى يبلغ الباب ، ثم يرمونه .
فلما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة : بعثه الله بشيرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
بعض ما كان عليه أهل الجاهلية
ردحذفونذكر قبل ذلك شيئا من أمور الجاهلية ، وما كانت عليه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال قتادة : ذكر لنا : أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون . كلهم على الهدى ، وعلى شريعة من الحق . ثم اختلفوا بعد ذلك . فبعث الله نوحا عليه السلام . وكان أول رسول إلى أهل الأرض . قال ابن عباس : في قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة قال : على الإسلام كلهم . وكان أول ما كادهم به الشيطان : هو تعظيم الصالحين ، وذكر الله ذلك في كتابه في قوله : وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال ابن عباس : كان هؤلاء قوما صالحين . فلما ماتوا في شهر : جزع عليهم أقاربهم ، فصوروا صورهم .
- ص 73 - وفي غير حديثه : " قال أصحابهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة" قال : فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه ، حتى ذهب ذلك القرن . ثم جاء قرن آخر ، فعظموهم أشد من الأول . ثم جاء القرن الثالث ، فقالوا : ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله ، فعبدوهم .
فلما بعث الله إليهم نوحا - وغرق من غرق - أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض ، حتى قذفها إلى أرض جدة . فلما نضب الماء بقيت على الشط ، فسفت الريح عليها التراب ، حتى وارتها .
عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم
وكان عمرو بن لحي سيد خزاعة كاهنا وله رئي من الجن فأتاه . فقال : " عجل السير والظعن من تهامة ، بالسعد والسلامة ، ائت جدة ، تجد أصناما معدة ، فأوردها تهامة ولا تهب ، وادع العرب إلى عبادتها تجب " فأتى جدة فاستثارها ، ثم حملها حتى أوردها تهامة .
وحضر الحج ، فدعا العرب إلى عبادتها . فأجابه عوف بن عذرة ، فدفع إليه ودا فحمله . فكان بوادي القرى بدومة الجندل . وسمى ابنه : عبد ود ، فهو أول من سمى به . فلم يزل بنوه يسدنونه ، حتى جاء الإسلام . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدمه . فحالت بينه وبينه بنو عذرة وبنو عامر ، فقاتلهم فقتلهم . ثم هدمه وجعله جذاذا .
وأجابت عمرو بن لحي بن مضر بن نزار . فدفع إلى رجل من هذيل سواعا ، فكان بأرض يقال لها : وهاط من بطن نخلة ، يعبده من يليه من - ص 74 - مضر . وفي ذلك قيل :
تــراهم حــول قبلتهــم عكوفـا كما عكفت هذيل على سواع
وأجابته مذحج . فدفع إلى نعيم بن عمر المرادي يغوث . وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها .
وأجابته همدان فدفع إليهم يعوق . فكان بقرية يقال لها خيوان . تعبده همدان ومن والاها من اليمن .
وأجابته حمير ، فدفع إليهم نسرا . فكان بموضع بسبأ ، تعبده حمير ومن والاها . فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فكسرها .
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، فكان أول من سيب السوائب وفي لفظ : وغير دين إبراهيم وفي لفظ عن ابن إسحاق : فكان أول من غير دين إبراهيم ، ونصب الأوثان .
وكان أهل الجاهلية على ذلك ، فيهم بقايا من دين إبراهيم ، مثل تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، وإهداء البدن . وكانت نزار تقول في إهلالها : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " فأنزل الله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون .
- ص 75 - صنم مناة
ردحذفومن أقدم أصنامهم : مناة . وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، بين مكة والمدينة . وكانت العرب تعظمه قاطبة ، ولم يكن أحد أشد تعظيما له من الأوس والخزرج ، وبسبب ذلك أنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما الآية فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح .
صنم اللات
ثم اتخذوا اللات في الطائف ، قيل : إن أصل ذلك رجل كان يلت السويق للحاج ، فمات . فعكفوا على قبره . وكانت صخرة مربعة ، وكان سدنتها ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها بيتا . فكان جميع العرب يعظمونها ، وكانت العرب تسمي زيد اللات ، وتيم اللات . وهي في موضع منارة مسجد الطائف .
فلما أسلمت ثقيف ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها ، وحرقها بالنار .
صنم العزى
ثم اتخذوا العزى . وهي أحدث من اللات . وكانت بوادي نخلة . فوق ذات عرق . وبثوا عليها بيتا . وكانوا يسمعون منها الصوت . وكانت قريش تعظمها . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث خالد بن الوليد فأتاها - ص 76 - فعضدها ، وكانت ثلاث سمرات . فلما عضد الثالثة : فإذا بحبشية نافشة شعرها ، واضعة يدها على عاتقها ، تضرب بأنيابها . وخلفها سادنها ، فقال خالد :
يا عز كفرانك لا سبحانك إنـي رأيـت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها ، فإذا هي حممة . ثم قتل السادن .
صنم هبل
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها . وأعظمها : هبل ، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان . وكانوا إذا اختصموا ، أو أرادوا سفرا : أتوه فاستقسموا بالقداح عنده . وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد : " اعل هبل " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا : الله أعلى وأجل .
وكان لهم إساف ونائلة ، قيل : أصلهما أن إسافا رجل من جرهم ، ونائلة امرأة منهم ، فدخلا البيت ، ففجر بها فيه . فمسخهما الله فيه حجرين ، فأخرجهما فوضعوهما ليتعظ بهما الناس ، فلما طال الأمد وعبدت الأصنام : عبدا .