الجمعة، 2 نوفمبر 2012

كتاب التسامح : السؤال والمعنى


من خطاب التسامح إلى خطاب العفو
                                                    أد. عبد القادر بوعرفة*
                                        ***



*المولج
     يعيش العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على وقع فلسفة العنف والإرهاب، سواء كان عنفا تمارسه الدُّول تجاه بعضها البعض، أو عنفا تمارسه الجماعات ضد بعضها ضمن إيديولوجياتها المتناقضة.
    وباتت العلاقات الدولية منذ عشريتين شرسة للغاية، واتسمت تلك الشراسة في إعلان أنواع من الحروب كالعادلة والوقائية والاستباقية وغيرها من المفاهيم التي حملتها السّياسات الثيموسية المعاصرة، لقد أدى الاستكبار والاستحمار العالمي إلا نقض عُرى التّجاور العالمي، وأصبح الكره والحقد ينمو أكثر مما كان عليه في الحرب الباردة.
   إن مقولات إيمانويل كانط حول السلام العالمي الأبدي  تظل تدور في فلك النَّظريات الطوباوية، فالعَالًم يُنظر للحرب أكثر مما يُنَّظر للسلم، لقد سقطت إنسانية كانط في بلازما الفضاء الثقافي الغربي ذاته، كما سقط حلم  بيتراند راسل والمتمثل في مشروعه حكومة سلام عالمية، في المقابل تحولت أفكار مالتوس  وبيار  كلاستر  وأرنست رينان  إلى واقع عيني وشاهد تاريخي.
   قُسم العالم إلى قسمين: محور الخير والشر،والدول إلى الخارقة والمارقة، والإنسان إلى المتحضر والبدائي.... وأصبح من يقع في المجال الثاني يُنعت بالإرهابي وغيرها من الأسماء، ويُنظر إليه ككائن غير مرغوب فيه في عالم الكبار.
   سقطت أفغانستان بتحالف رأسمالي، وشعبها لحد السّاعة منزوع الكرامة والمواطنة، وقتلاه كل يوم في تزايد من قبل القوات الغربية، والطائرات من غير طيار تحصد أرواح الأبرياء من غير حرج إنساني أو تنديد عالمي.
  وسقطت العراق بعدها تحت ذريعة أسلحة الدّمار الشّامل، ولا زال العراق يُلملم جراحه ويَعُد كل يوم ضحاياه بالمئات والآلاف، وحتما عندما يصل ذات يوم إلى وضع نهاية للحقد الطائفي يجد نفسه قد حصد أكثر من مليوني قتيل.
     عندما ننظر إلى العلاقات داخل الدّول نجدها لا تختلف عن العلاقات الدولية، فالحروب الأهلية تتزايد في كثير من الدّول النّائمة في حضن التّخلف والجهل، فالسودان والصومال وغيرها من الدول لا زال الإنسان  يحمل في نفسه بقايا قابيل، ولا زال الحقد الأعمى يُؤطر كثيرا من العلاقات الاجتماعية داخل الدولة الواحدة. كما أن الأقليات تجد نفسها في وضع لا تُحسد عليه عالميا وإنسانيا، فهي أكبر شريحة معرضة للطغيان والعنصرية .. فعرب الأهواز في إيران لا يختلف وضعهم عن أكراد تركيا... والمهاجرون في الغرب يعانون من التميّيز واللاتسامح.
  وإرهاب الدَّولة للمواطن يستمر في أشكال متنوعة وجديدة، فسياسة التّجويع والتّرويع تُعد العلامة البّارزة للدول المحكومة بمنطق البيوتات ومبدأ التوريث.
   يجد الإنسان نفسه في هذا المجال غير الحيوي عدوانيا في سلوكه وأحلامه، في قوله وفعله، ويحاول أن يمارس العنف كحل تعويضي عن الواقع المتأزم.
  يزداد خطاب التَّسامح انتشارا وتداولا في العالم، لكنه يخفي خبثا إيديولوجيا، فالتسامح يعرضه الكبار كسلعة على عالم الصغار، فالكبار لا يمارسون التسامح ولكنهم يدعون الصغار إلى ممارسته... تلك أحجية من يصنع القيّم القوي أم الضعيف ؟؟؟ بيد أن المقام يفرض الاعتراف بأن  قيم التّسامح والسّلم العالمي يصنعها الأقوياء لاستحمار الصغار.
   لا أريد أن أنتقد المداخلات التي نَظَّرت للتسامح وقيم المواطنة، بل أريد أن أعبر عن وجهة نظري كإنسان يرى الكبار يتلاعبون بالقيم ويعرضونها كسلع متى كانت الحاجة إليها كسلعة وليست كقيمة.
  أرفض من تلقاء نفسي مفهوم التسامح، لأنه يعكس السلب والضعف، وهو يحمل ثقافة مسيحية مشبعة بالاستسلام وتقديم الخدين معا للصفع كعربون لمقام الصفح.
   نادت المسيحية بالتسامح زمن الاضطهاد لتجد مبررا للتعايش، وتعطى للقوة المتغطرسة مجالا واسعا للطغيان والاستبداد، وكان من نتاج التسامحية الغربية الدينية حلول عصور الظلام الغربي.  نعتقد أن سلبية التسامح الغربي ترجع بالضرورة لعدم إيمان الكنيسة أصلا بالتسامح كخير وإحسان بل ترجعه للظروف والفوائد، ولقد استطاع عبد الرحمان بدوي أن يُعري زيف مفهوم التسامح الديني حين قال :" والتسامح الديني يختلف معناه بحسب المذاهب: 1-فالكنيسة الكاثولوكية تعرفه عامة بأنه " السماح السلبي بالشر"، فما يتسامح فيه ليس خيرا ولا فضيلة، ولهذا لا ينطوي هذا السماح على استنكار مطلق. ولما كان السماح سلبيا، فإنه ينطوي مع ذلك على إقرار بالإستهجان، وإن كان في الباطن لا في الظاهر. ولذا كان التسامح في الكنيسة الكاثوليكية أمرا تُمليه الظروف، وليس عقيدة: فإن اقتضت الظروف – السياسية غالبا-أن يتسامح مع المذاهب والأديان الأخرى، لأن عدم التسامح سيؤدي إلى شرور أكبر، فإن المندوب –ولا يُقال من الواجب- التسامح. ....."[1]
     وعلى هذا الأساس أحبذ استعمال مفهوم العفو ( (Amnestyبدل التسامح لعدة معطيات ودلالات، سأذكرها أسفله.
1-العفو مفهوم قرآني              
           مفهوم التسامح لا يحمل ميزات الإنسان الحر والمريد، القوي المستطيع، بل هو يحمل ميزات الإنسان المسالم المتنازل، وذاك ما يريد الكبار في كل الأزمنة والأمصار.
  لا نجد للتسامح في الثقافة الإسلامية من حضور، فالنصر المؤطر للمسلمين في علاقاتهم مع بعضهم وغيرهم اتجه نحو مصطلح العفو.
          إن مصطلح العفو يدل دلالة قاطعة على القوة، فلا يمكن أن يعفو إلا من كان قديرا وقويا، وتلك هي حال الله مع عباده... إن العفو كمفهوم قرآني يجعل التنازل من الأقوى للضعيف، وليس العكس كما هو الحال في مصطلح التسامح... إذ لا يمكن للضعيف أن يعفو لكونه فاقد للقدرة والقوة معا ...
     أريد من خلال المقالة أن ألفت القارئ بالخصوص إلى ضرورة التشبع بقيم العفو بدل قيم التسامح، فالمسلم تتطلب منه كحامل للرسالة الشّاهدية الحضارية أن يكون في مقام القوة، وتدعوه دعوة  الاستخلاف إلى ضرورة القدرة والاستعلاء الإنساني المشروع. ولكي يتضح الفرق بين مفهوم العفو والتسامح، نحاول أن نميز بينهما من خلال البحث في ماهيتهما.
    جاء مصطلح العفو في القرآن في سياقات مختلفة ومتنوعة، ولكنها مرتبطة كلها بمعنى التسهيل والتيسير، ويُفهم من وروده إحلال الغفران عند مقام القدرة والاستطاعة، وعند امتلاك السلطة والسيادة ... فلقد أمر الله الرسول أن يُمارس العفو على الصحابة لكونه ولي الأمر، ثم النبّي المُؤيد بالشّرع والله، يقول تعالى: ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فأعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. آل عمران: الآية 159.
      يأمر الله المسلمين بممارسة العفو وإحلال الغفران كلما كانت يدهم هي العليا، وسلطتهم هي السائدة ... واعتبر العفو عند القدرة من أعظم الخصال التي يجب أن يتحلى بها الإنسان ... لأن العفو عند المقدرة هو انتصار على الذات والشر والأنانية، يقول تعالى : ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. آل عمران الآية رقم: 133/134.
     قال القطان في تفسيره المشهور: "أي: الذين يمسكون أنفسهم عن الانتقام مع القدرة عليه، ثم أردف -تعالى -بمزية عظيمة أخرى وهي قوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ أي: الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس، ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك, وتلك منزلة من ضبط النفس، وملك زمامها، قلَّ من يصل إليها, وهي أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة فالله -سبحانه وتعالى - يريدنا أن نكظم غيظنا، ونعفو عن الناس، وننسى إساءتهم."[2]
         فالعفو أكبر من كظم الغيظ، لأن العفو يتجلى كممارسة للآخرين، ويغدو مثالا يُقتدى به، وقيمة سلوكية يُنَظَّر لها. بيد أن كظم الغيظ هو تجربة ذاتية لا تعكس قوة الإنسان مقارنة مع العفو. ولقد استطاع الطبري في تفسيره أن يُعمق مفهوم كظم الغيظ إذ هو كبح جماح الغضب وإلجام النفس عن الانتقام أو الرد العنيف يقول في ذلك: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: "كظم فلان غيظه" إذا تجرعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها، وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: "كظمت القربة" إذا ملأتها ماء، و"فلان كظيم ومكظوم" إذا كان ممتلئاً غماً وحزناً؛ ومنه قول الله -عز وجل -﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌسورة يوسف: الآية(84).  يعني: ممتلئ من الحزن، ومنه قيل لمجاري المياه: "الكظائم" لامتلائها بالماء؛ ومنه قيل: "أخذت بكظمه" يعني: بمجاري نفسه."[3] 
    وربط العفو بالقدرة هو ربط منطقي وحتمي، فغير القادر لا يمكن أن يكون في مقام المسامحة لكونه بعيد كل البعد عن مقام العفو والغفران. إن الذات الإلهية وصفت ذاتها بالعفو وربطته بالقدرة، فعفو الله وغفرانه ينم عن مقام عزة واقتدار: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا. سورة النساء: الآية (149).
   ولفظة العفو وردت في القرآن في موقعين إحداهما في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، قُلِ الْعَفْوَ سورة البقرة: الآية 119. والأخرى في قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِيْنَ. سورة البقرة: الآية 119.
     اختلف المفسرون والُمُؤولة في تأويل العفو، بيد أن أغلبهم رجحوا مفهوم التيسير والتسهيل وعدم الشدة واستبدالها بالرفق واللين على غيرها من الدلالات والمعاني.
       ومن أشهر من حلل مصطلح العفو الفخر الرازي حيث :" ... قال الواحدي رحمه الله: أصل العفو في اللغة الزيادة، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ (الأعراف:199) أي الزيادة، وقال أيضًا: ﴿حَتَّى عَفَواْ (الأعراف:95) أي زادوا على ما كانوا عليه في العدد، قال القفال: "العفو" ما سهل، وتيسر، مما يكون فاضلاً عن الكفاية... وإذا كان "العفو" هو التيسير، فالغالب إنما يكون فيما يفضل عن حاجات الإنسان في نفسه وعياله، ومن تلزمه مؤنتهم، فقول من قال: "العفو" هو الزيادة.[4]
    كما فسر المفسرون العفو على معنيين: الأول يفيد المساهلة والمسامحة، وهو المراد في قوله: "خذ العفو"، إذ يدعو إلى ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية والحقوق المدنية. كترك الغلظة والفظاظة.. أما المعنى الثاني، لا يجوز دخول  المساهلة والمسامحة فيه، فالحكم فيه حكم العرف والعادة ...
      لم يخرج القرطبي كثيرا عن ما طرحه المفسرون، إذ قال :" العفو ما سهل، وتيسر، وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم؛ فتكونوا عالةً. هذا أول ما قيل في تفسير الآية، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء، والسدي، والقرظي محمد بن كعب، وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا: العفو: ما فضل عن العيال، ونحوه، عن ابن عباس[5]. لقد انساق القرطبي وغيره من المفسرين إلى تفسير العفو قياسا وسبب نزوله الآية، غير أن كثير من العلماء يعتقدون أن المعنى العام هو الغاية وليس الخاص، فالعفو هو رفع الشدة وغض الجانب عن الآخر عندما يكون العافي في مقام القوة والقدرة.
      لم يدخل مصطلح التسامح إلى الثقافة العربية إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عن طريق كتابات بعض المسيحيين العرب. ولعل هذا السبب هو الذي جعل ترجمة لفظة Tolérance  إلى لفظة التسامح  تثير كثيرا من التحفظ لدى الأنتلجنسيا العربية، لأن الاشتقاق العربي لا يُؤدي إلى المعنى ذاته الذي يحمله المعنى الغربي.
     إن مصطلح التّسامح مشتق من الفعل الثلاثي سمح: يسمح سماحا وسماحة، أي صار متساهلا أو كريما. وتؤخذ أيضا بمعنى العفو: عفا عنه، لم يعاقبه. وقد عرفها الجرجاني على النحو التالي: " التسامح : استعمال اللفظ في غير الحقيقة بلا قصد علاقة معنوية، ولا نصب قرينة دالة عليه، اعتمادا على ظهور المعنى في المقام، فوجود العلاقة بمعنى التسامح."[6] ويُفهم من سياق قول الجرجاني أن التسامح يفيد معنى التساهل والتيسير.
والتسامح في اللغة يعني الموافقة والقبول والتساهل[7]، ويعني كذلك الجود الكرم والسخاء، كما يعني العفو أيضا تخلي صاحب السلطة عن ممارسة سلطته إما تهذبا أو بناء على  استراتيجة ما.
   وإذا كان العفو سلوك القوي الإنساني الأخلاقي، فإن الله طلب منه ما هو أفضل من العفو( Amnesty) أي الصّفح، فالصّفح (pardon) أبلغ من العفو لكون الصّفح يعنى طي الصّفحة والانطلاق من جديد في عالم العلاقات الإنسانية والاجتماعية. قال الراغب الأصفهاني: "الصفح أبلغ من العفو، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ... ولذلك قيل: " كل صفح عفو وليس كل عفو صفح."
 وهو نفسه ما نراه من خلال القرآن الكريم : ﴿إن السّاعة لآتية، فاصفح الصفح الجميل. سورة الحجر:الآية (85). وقال في موقع آخر: ﴿فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون.سورة الزخرف: الآية (89).
ويلاحظ أن الآية الأخيرة قد ربط الله فيها بين الصفح والسلام، فالصفح هو الطريق نحو تحقيق السلام في المجتمع المدني.


2-التّسامح مفهوم غربي مسيحي      
      كان العالم الغربي مع موعد مع الدعوة إلى التسامح خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي تركت أثرا كبيرا في نفوس الأوروبيين بالخصوص، وهذا ما يعكسه ميثاق الأمم المتحدة أولا، ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المشهور. والذي كان من نتائجه صدور:" إعلان مبادئ التسامح" خلال انعقاد المؤتمر العام لليونسكو في عام 1995، وتلاه إعلان 1996 الذي رُسِّم كعام دولي للتّسامح.
  يرى الفيلسوف الفرنسي فولتير أن  التّسامح هو ما يتصف به الإنسان من  أنس وأدب يمكنه من معايشة الناس رغم اختلاف آرائهم عن آرائه، فالتسامح  هو نوع من التواضع الذي يجعل الفرد يعترف للأخر كند له، وله في المقابل كامل الحقوق والحريات رغم اختلافه عنهم في الآراء والمعتقدات.
       واستطاع عبد الرحمان بدوي من خلال مقدمته المستفيضة لكتاب جون لوك الموسوم " رسالة في التسامح" الذي ترجمه من اللاتينية إلى العربية، أن يُبين أن التسامح كمطلب إنساني  لا يعرف إلا من خلال دراسة الاضطهاد والتعصب الديني الذي عرفته أوروبا خلال زمن التمييز والاضطهاد الديني من خلال  صراع الطوائف الدينية : " وهكذا كان الاضطهاد في المذاهب والأديان الأخرى هو القاعدة طوال العصور الوسطى، كما أن تعدد الفرق المسيحية داخل المسيحية يوحي لنا بالكثير من خلال تنكرهم للتعصب السلطوي الذي كان ممارس في تلك الحقبة وهذا يتضح في منتصف القرن الخامس عشر، حيث بدأت تظهر بوادر التسامح."[8]
       يعود الجذر اللغوي للتسامح (tolerance) إلى لفظة (tolerate) اللاتينية والذي لا يخرج عن معنيين سلبيين للغاية، هما التحمّل والسماحة بمعنى لم يمنع عنه إكراه غيره. ولعل هذا المعنى هو الذي دفع بفلاسفة القوة إلى نبذ التّسامح كقيمة سلبية.
التسامح يُفهم على أنه ضد التّعصب للدين أو المذهب ....، وهو ضد التّحيز ومقت المخالفين في الدين.
   فالتعصب مأخوذ من المعنى اللاتيني القديم  Intolerantia - Tolerare، وهو مركب من النفي أو السلب In ثم معنى التحمل، وعند التركيب نحصل على معنى يفيد نفي التّحمل  أي اللاتّحمل، والتسامح عكسه تماما، أي يعنى التحمل.[9]
        وقد أدت بعض المظاهر الميكروفزيائية  في الغرب إلى عودة ظهور مفهوم التسامح بقوة، خاصة أشكال التعصب الذي يحدث في الأسر والمدارس، وكرة القدم، والمراقص، وعلى أصعدة الطرق، والصحف ووسائل الإعلام، دون أن ننسى عنفوان الإيديولوجية وخطابات العنصرية والتميز...  والتي كلها تتسبب المعاناة وأنتجت المآسي.
     ويفيد التحليل النفسي في معرفة ظاهرة اللاتسامح، فالتعصب له دواعي نفسية كثيرة تتمثل في النقاط التالية:
1-     إحباط العلاقات غير المنتجة أو المرضية في وقت مبكر.
2-     خلق الفراغ الداخلي للمتعصب، والذي لا يمكن إلا أن يكون قد عانى من تصاعد في النرجسية أو سادية.[10]
3-       تحقيق رغبة التعذيب (سادية) من خلال ارتكاب أكبر قدر من الهجمات.
4-     إسقاط الرغبات الهمجية على الغير على أن لا يقاوم آخر، والذين يجسد العدو.
5-     خلق هوية تنفي التعدد والتنوع  داخل الشخصية.[11]
       إن تعريف التسامح  لا يخضع لمنطق ثابت، فالمفهوم متطور وحركي، يجد في كل زمان ومكان من يعطيه معنى جديدا، لكن بالرغم من ذلك يتفق جميع الفلاسفة على وجود جانب سلبي وآخر إيجابي في تعريف التسامح.
    فالجانب السلبي يكمن في تعريف المتسامح أصلا، إذ هو الشخص الذي يتحمل ما لا يسره أو يُحبه، وبالتالي قد يتحمل الشر أو ما ليس بأخلاقي، ويعاني عندئذ الأمرين معا، معاناة الضمير الذي يرفض تحمل  الشيء المُكره على تحمله كشر، وثانيها تحمل الضرر الناجم عن أعباء المسامحة. لقد تنبه الكثير من فلاسفة الغرب إلى الغموض الذي يكتنف التسامح، وعبر عنه نيكسون من خلال رأيه القائل بأن مفهوم التسامح في المعاجم الغربية يأتي بصفتين متخالفتين تماما، فهناك تعارض بين التسامح كمثال أخلاقي وبينه كحياد أخلاقي.[12]   
      إن اعتبار التسامح كحياد أخلاقي يعبر عن سلبية الذات تجاه موضوع يُعكر صفو الذات أصلا، فتحمل ما يُعكر صفو الذات هو في الحقيقة ضعف وتنازل غير أخلاقي، عندئذ يُصبح  التسامح بدون قيمة أخلاقية. لكن إذا اعتبرناه مثالا أخلاقيا فلا بد أن ننظر إليه من خلال النقاط التالية[13] :
1-    الانحراف: فما يتم التسامح معه منحرف عما يعتقده المتسامح أو يفعله أو يظن أنه يجب فعله.
2-    الأهمية: فصاحب الانحراف ليس تافها.
3-    عدم الموافقة: فالمتسامح لا يوافق أخلاقيا الانحراف.
4-    السلطة: فالمتسامح يملك السلطة لكي يحاول كبح أو منع ما يتسامح معه.
5-    عدم الرفض: فالمتسامح في أية حال، لا يمارس سلطته، فهو يتيح للانحراف أن يستمر.
6-    الصلاح : فالمتسامح صائب وجيد.    
        لقد فهم كثير من فلاسفة الغرب جوهر التناقض الموجود في مفهوم توليرونس، فهو يجمع بين السلبية والإيجابية تجاه  موضوع الإكراه، بيد أن السلبية هي التي تتمظهر جليا في الممارسة، فالفيلسوف الألماني نيتشه رفض التسامح كقيمة من منطلق أنه سلوك العبيد لا السادة، وأنه شعار الضعفاء لا الأقوياء، واعتبره من أكثر المفاهيم الفارغة والجوفاء.
      لقد أدى رفض التوليرونس كقيمة بعض المنظرين له  إلى القول أن التعارض الموجود ضمن وعيينا لمفهوم التسامح يمكن حله من خلال الفصل الإبستيمي بين التسامح كموقف حيادي والتسامح كمثال أخلاقي، ويكون ذلك من خلال :" إن أي خفض للتسامح بحيث يقتصر على جانبه السلبي وحده، يزيل المثال الأخلاقي للتسامح كليا، أما من الناحية الأخرى، إذا ما أبدينا الاستعداد للأخذ بالفكرة القائلة إن التسامح مفهوم أخلاقي أوُجد بوجهين إيجابي وسلبي، فعندها نستطيع، كما أعتقد أن نبدأ بفهم التسامح ككل، وربما بدونا قادريين على تثمين الحقيقة الكامنة في هذه العبارة ذات المفارقة الظاهرية."[14] 
         يقدم بيتر نيكولسون شخصية الفيلسوف جون لوك كأحد أبرز من قدموا التّسامح كمثل أخلاقي خالي من أي تنازل فرضه الموقف السّلبي، فلوك من خلال رسالته في التّسامح يحاول أن يقدم أرضية للتسامح الديني كحل عقلاني  لمشكلة الصراعات والخلافات القائمة بين الطوائف الدينية، ولقد عبر سمير الخليل عن تلك الوليفة اللوكية في قوله :" صحيح أن فكرة التّسامح الحديثة قد ارتبطت بالمسألة عند بدايتها، لدى الفيلسوف جون لوك الذي كان ينظر إليها بوصفها "الحل العقلاني" الوحيد حسب لغته، لمشكلات الخلافات التي نشأت داخل المسيحية."[15]
    لقد حاول جون ستيوارت ميل التعامل مع ظاهرة التعصب بعد أحداث 1869، وذلك عن طريق تصديره لفلسفة "مبدأ الضرر"، وقال : " .. هو الحدث الذي لم يتسبب في ضرر آخر، حيث يفرض إمكانية احتماله."[16]  عندئذ يصبح التسامح هو احتمال الضرر كمبدأ عام للحياة البشرية، شريطة أن لا يُنتج الضرر ضررا آخر في السياق ذاته. ولكن تحمل الضرر بضرر أقل منه لم يحل المشكل داخل البنية المسيحية، إذ ظل التعصب واللاتسامح الديني من أبرز المظاهر المشكلة للمشهد، لأن كل إنسان يعتقد في ذاته الخلاص يجنح للقوة والسيطرة على الآخر بدافع نزعة الخلاص، ولكنه في الحقيقة يمارس اللاتسامح في أعنف صوره يقول لوك:" أنا أعتقد أن أيّ إنسان يتصور أنّه مهيأ لإنزال العذاب بإنسان آخر بدعوى أنّه ينشد خلاص نفسه، فإن هذا الإنسان يبدو غريبا عنى وعن أي شخص آخر. ومن المؤكد أنّه لا يوجد إنسان يعتقد مثل هذا الفعل يصدر عن المحبة أو إرادة الخير."[17]
     إن التسامح الغربي عموما يصدم ب: "خُطب الكراهية" التي تُمجد العنصرية، وتدعو أيضا إلى التّمييز الجنسي.
     وخطب الكراهية تُنتجها الجماعات العدوانية التي تراهن على قوة العرق أو أفضلية المعتقد والقرب من الإله، ويرتبط نشاط الجماعات المنتجة للكراهية بظاهرة التسلح وحضور النزعة الشوفينية.
   إن ظاهرة التميز الجنسي يخلق داخل الشعب الواحد عدة فوارق سياسية واجتماعية كإلغاء فكرة توسيع نطاق الخدمات العامة، والضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، وما إلى ذلك كما قال ماركوز.[18]
   إن حركة أنصار القومية في العالم يؤججون ظاهرة التعصب ويقللون من مساحة التسامح، لأن فكرة القومية تجعل نفسها متفوقة على غيرها، ومن خلال الاصطفاء الطبيعي لهم يصبحون أسياد العالم، وعلى ذالك يصبح كل قومي مستعدا لتجسيد فكرة تفوقه عمليا، وخاصة عن طريق الحرب والعمل المسلح، ويكفينا مثالا ما قام به النازيون في أوروبا.
    عندما تكون الدولة الدستورية قوية، فإن أنصار القومية لا يجدون إلا ممارسة الكره والحقد، والذي يكون غالبا ضحاياه من الأجانب وذوي البشرة الملونة.
      إن فلاسفة النّزعة الإنسانية في الغرب قد نظّروا لمفهوم التسامح كقيمة إيجابية، تعكس مستوى إنسانية الإنسان، ويُعتبرون كل من الدين والسّياسة المعوق الرئيس لقيمة التسامح، لأنها يُكرسان التعصب الإيماني والتطرف السياسي، ولذلك حاول لوك من خلال رسالته في التسامح أن يُنور الإنسان  من خلال بسط المفاهيم الحقيقية للدين والحق الطبيعي، يقول لوك في رسالته الشهيرة :"إن التسامح بين أولئك الذين يعتقدون عقائد مختلفين في أمور الدين يتسق تماما مع العهد الجديد الذي آتى به السيّد المسيح، كما يتماشى مع مقتضيات العقل الإنساني."[19]
   وخلاصة القول، أن دعاة التّسامح في أغلب الأحيان هم أعداء التسامح، فأغلبهم يُنظرون له لأجل أهداف ومكاسب إيديولوجية أو غيرها، فبالرغم من أن فولتير تحدث عن التسامح إلا انه كتب أمورا خطيرة عن الإسلام ورسوله لازالت لحد الساعة شاهد دال على اللاتسامح الديني عند الغرب. كما أن الملتقيات العلمية التي أُنجزت منذ التسعينات من القرن المنصرم لم تكن إلا تحت الطلب وبناء على توجيهات عليا، إن التّسامح اليوم يُعتبر ورقة تستعملها الأنظمة والدول الكبرى من أجل تغطية عورتها وزلتها، بعد أن عجزت عن معالجة الأمور الجدية لحياة المواطن اليومية.    
   ولكن بالرغم من ذلك كله، فإننا نرجو أن يكون العالم بأسره تحت رحمة القيم الأخلاقية والإنسانية بدل أن يكون تحت دوي المدافع والقنابل. وأن يشعر الإنسان بأخيه الإنسان بالرغم من اختلاف اللّون واللّسان والمكان، فكلنا من خلية واحدة، ومن صلب آدم وترائب حواء.
   وتغدو المواطنة كقيمة سياسية وأخلاقية هي المَنفذ لممارسة العفو والتسامح، فالمواطنة تقوم على العلاقة  التناغمية والإنسجامية بين كل المواطنين، فالمواطنة تكاد تكون كالأخوة غير أنها سياسية بين أفراد الجماعة الموحدة تحت سلطة وراية وسيادة.
    إن المواطنة المحلية والعالمية ستكون بلا شك في مستقبل الأيام حلم البشرية، وسيحاول الفلاسفة أن ينظروا لها لإنقاذ ما تبقى من الإنسان من الإنسان.



* أستاذ بقسم الفلسفة، ومدير مخبر الأبعاد القيمية للتحولات بالجزائر.
[1] - أنظر : مقدمة عبد الرحمن بدوي، لكتاب رسالة في التسامح   لجون لوك ، ترجمة ع بدوي، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت، لبنان، 1988، ص 7.

[2] - القطان، تفسير القطان، مج 1، ص 222.
[3] - الطبري، تفسير الطبري، مج 7، ص214.
[4] - الرازي، الفخر، التفسير الكبير "مفاتيح الغيب"، دار الفكر، بيروت، ط2، 1978. مجلد2، ص ص : 221-222.
[5] - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،،  تحقيق أحمد عبد العليم البردوني،  لم يُذكر الناشر، ط2، 1952م، مجلد 3، ص61.
[6] - الجرجاني ، كتاب التعريفات، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1997،ص 24.
[7] - صلبيا، جميل، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982، ص:271.
[8] -  أنظر : مقدمة عبد الرحمن بدوي، لكتاب رسالة في التسامح   لجون لوك ، ترجمة ع بدوي، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت، لبنان، 1988،  المقدمة ص 13.
[9] - Guido Bolaffi, Raffaele Bracalenti, Dictionary of Race, Ethnicity & Culture, SAGE Publications, London · Thousand Oaks · New Delhi,2003, P158.
[10] -Ibid,P158.
[11] - Cohen, M. N. Culture of Intolerance; Chauvinism, Yale University Press, New Haven and London, 1999, P 20.
[12] - نيكولسون بيتر وآخرون، التّسامح بين شرق وغرب، تعر: إبراهيم العرسي، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص 27.
[13] - المرجع ذاته ،ص 30.
[14] - نيكولسون بيتر وآخرون، التّسامح بين شرق وغرب ( التسامح كمثال أخلاقي)، تعر: إبراهيم العرسي، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص 43.
[15] - سمير الخليل وآخرون، التسامح بين شرق وغرب (التسامح في اللغة العربية)،ص5.
[16] - Guido Bolaffi, Raffaele Bracalenti, Dictionary of Race, Ethnicity& Culture, P159.
[17] - لوك، جون، رسالة في التسامح، تعر:منى أبو سنه، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 1،1998  ، ص ص: 21،22.
[18]- H, Marcuse, Repressive Tolerance, Beacon Press, Boston,1965, P85.
[19] - لوك، جون، رسالة في التّّسامح، ص23.

هناك تعليق واحد: