الجمعة، 7 يونيو 2013

تعليمية الفلسفة (التدريس بالخطاطة)

  تعليمية الفلسفة (التدريس بالخطاطة)

                                                                أ.د. عبد القادر بوعرفة
   نحاول من خلال هذه الومضة الديداكتكبة أن نلقي الضوء على تجربة التدريس بتقنية الخطاطة، وهي تمثل تجربة شخصية أولا، ثم تجربة إنسانية في الحقول العلمية. قمت بتطبيقها ضمن الحقل البيداغوجي الفلسفي كآلية للتواصل مع الطلبة منذ 2003، وشملت تحليل الحقول التالية :
1-         النصوص.
2-        المحاضرة.
3-        التطبيق.
 وقبل أن ننخرط في توضيح وتحليل تجربة التدريس بالخطاطة، لا بد أن أبين أن البحث سينقسم  إلى شقين : شق نظري، نحاول من خلاله تحديد ماهية الخطاطة ، مع ضرورة ربطها بإشكالية الفعل التواصلي. أما الشق التطبيقي ، فسنحاول من خلاله تقديم  نماذج عملية.
1- ماهية الخطاطة  ( Schématisation)    
    نقر منذ البداية عدم وجود تعريف متعارف عليه، يصلح وضعه كقاعدة عامة، لذا فنحن نتتبع الخطاطة كمفهوم ضمن حقول فلسفة التواصل، وذلك أن الحقل التواصلي مشبع اليوم بكثير من المفاهيم التي تتجاذب مفهوم التواصل ضمن كل المنتوجات الإنسانية.
    نعتقد بأن كل ما أنتجه وينتجه الإنسان يعتبر شكلا من أشكال التواصل أو على الأقل هو شكل من أشكال الإبلاغ، لأن مفهوم التواصل أوسع من مفهوم الإبلاغ. وظاهرة الإبلاغ تعبر من خلال جاهيزيتها عن هويات متنوعة لأفراد ما، وتفصح عن انتماءاتهم إلى ثقافة بعينها - لغة ولباسا، طقوسا، عادات وتقاليد  - يجب النظر إليها باعتبارها " وقائع إبلاغية" تندرج ضمن حالات الاجتماع الإنساني الذي يتخلى داخله الفرد طوعا عن ملكوته الخاص لكي يتوحد مع الآخرين ضمن فضاء الفعل التواصلي، الذي يتخذ عدة أشكال مختلفة ومتباينة. ( اللسان، العلامة، الإشارة، الكتابة، الشفرة، الرمز ...) 
       وتجدر الملاحظة أن الظواهر الإنسانية لا يمكن أن توجد خارج رغبة الكائن البشري في التواصل مع ذاته وغيره  بشكل مباشر أو غير مباشر، لذا نجده منذ بدء التكوين الاجتماعي يحاول أن ينخرط في عملية الإبلاغ، كتصوير حياته اليومية على الحجارة أو رسمها على جدران الكهوف ثم المعابد.
       عندما ندرس فلسفة اللغة سنكتشف أن كل ما أنتجه وينتجه الإنسان التواصلي عبر الفعل الإبلاغي هو تمرين على تطويع  لغته وأشيائه وجسده وإيماءاته وطقوسه ومعماره لأجل تحقيق مبدأ التواصل الذي يعكس بطبيعة الحال مشكلة الأنا والنحن ضمن فضاء الوجود.  هذا ما حاول أمبرتو إيكو تقديمه من خلال فكرة أن اللغة هي عبارة عن ظاهرة تواصلية تحاول أن تجعل من الثقافة في كليتها سيرورة تواصلية دائمة، عن طريق السميائيات، فالسميائيات كما يعرفها إيكو هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حالات التواصل الإنساني، فلا يمكن تصور النشاط الثقافي - العنصر المحدد للوجود الإنساني - إلا من خلال زاوية تواصلية.[1]
  من خلال ما سبق، يمكن القول أن الخطاطة كتقنية للتواصل تعبر عن أداة من أدوات التواصل الفعال ، فالخطاطة كأداة رمزية للتمثيل نحاول من خلالها التخلص من عبء التواصل الاعتيادي لكونها تمثل أداة رمزية سهلة التداول والاستعمال، تتجه نحو  التشارك المعرفي والتحاور السقراطي من أجل الوصول إلى درجة من الوضوح المعرفي لمسائل كانت تبدو معقدة.
     ونحن لا نخرج من خلال تقنية الخطاطة على إدراج التواصل كمعطى بديهي  يؤدي قيما نفعية وتبادلية وأخرى استعمالية. كما يمكن أن يكون مصطنعا ونفرضه على الآخر (المتلقي) كإلزام تفرضه الوسائط الإيديولوجية والفكرية والعقدية التي توجه السلوك وتتحكم في ردود الأفعال من خلال خلق حالات التنميط السلوكي المستجيب لحاجات  يفرضها الفعل التواصلي المعاصر: "الدعاية السياسية" ، "التوجيه الديني"، "التأطير الإيديولوجي"، " الدعاية الإشهارية"...[2]
      لم يبق التواصل مجرد فن أو صناعة، بل تحول اليوم إلى علم قائم بذاته، يحاول أن يبحث في أشكال العلاقات التي تربطها الكائنات البشرية فيما بينها، وبالتالي لم يظهر إلا في فترة متأخرة، وبالضبط في الثلاثينيات من القرن الماضي. وكما يقول سعيد بن كراد : " ويعود الفضل في ذلك إلى عالمين عُرفا بانتمائهما إلى ميادين معرفية بعيدة عن عوالم السلوك البشري، ومع ذلك قدما خطاطات تختصر عملية التواصل وتحدد عناصرها الداخلية ومسارها ومجمل التأثيرات التي تعوق تحقق الإرسالية أو تسهم في إنجاحها، وهي الخطاطات التي ستلهم الباحثين في ميدان التواصل الإنساني."[3]
 يعتبر نوربيرت فيينر (1894-1964) أول من نبه العالم إلا قيمة تقنين التواصل ضمن خانات العلوم العملية، ويُنسب إليه علم السبرنطيقا الذي من خلاله تم تحديد السيرورة التي تُمكن التحكم في أشكال التواصل وتوجيهه. لقد اعتمد  على  فكرة " الإرجاع"  feedback  أو Retroaction  التي تعني قدرة الفعل المنجز آنيا أن يؤثر في سبب وجوده في ارتباطه بنسق يبرره. « فكل نتيجة تؤثر بشكل إرجاعي على سببها، وكل شيء يجب أن يُنظر إليه باعتبار بعده الدائري لا الخطي ".
    والعالم الثاني الذي يرجع له الفضل في تقنية الخطاطة  هو شانون، وما يميز خطاطة شانون هو تركيزها الكلي على خانة الخبر كحدث هام للتواصل، فنجاح الإرسالية أو فشلها مرتبط بسلامة ووضوح الكم الخبري المبثوث، ولا علاقة لهذا الخبر بمحفلي البث والتلقي. ذلك أن " الخبر" في تصور شانون لا يقاس بالكم المعلوماتي بل يقاس بالنجاح الإبلاغي، وهو نفسه ما نظر له جكبسون في نظريته الثلاثية.[4]
   وفي الأخير يمكن القول أن الخطاطة هي مهارة تواصلية تعتمد على التمثيل من أجل الوصول إلى الوضوح والإيجاز المفيد، والترتيب والتنسيق. وقد عرفها عبد الكريم غريب : " إنه إذا عملية تنظيم للمعطيات في بنيات متنوعة تمكن من الوصول إلى القاعدة أو القانون أو المبدأ المنظم الذي يتحكم ويتكرر في الحالات والمعطيات الجزئية."[5]
   ومن خلال ما سبق، يمكن القول أن الهدف من الخطاطة هو ما ذكره أ. محمد قاري في قوله: " ترتبط الخطاطة بالفعل التجريدي في بعده العقلي العام وإنما أيضا بعده والإجرائي الخاص . يمثل التجريد عموما انتقالا من الكثرة المشخصة إلى إدماج تصوري." [6] 
تعتمد تقنية الخطاطة على عاملين أساسين :
1- عامل التمثل ( Représentation (:
يُقصد بعامل التمثل على العموم تمثل الذهن للموضوعات كارستام صوري للمفاهيم المشكلة للحمولة التواصلية، كما هو من ناحية أخرى تحويل المتون إلى علامات عن طريق تقنية التمثيل السهمي وهو الأكثر استعمالا، بحيث نلجأ إلى وضع فكرة عامة أو رئيسة كقضية محورية ونقوم بتفريعها إلى موضوعات على أن ينحل كل موضوع إلى قضايا جزئية وتستمر عملية التفريع إلى غاية أن يصل المطبق على الغاية والأهداف التي يرجوها، مع مراعاة البعد والقرب، البسيط والمركب، الموجب والسالب، الغامض والواضح ....
   كما يمكن استعمال تقنية الأشكال الهندسية كالمثلث، الدائرة، المربعات، ... ويمكن أيضا استثمار الأشكال المتقابلة مثلما هو نظام المرايا العاكسة.
   والتمثيل عامل أساسي لإنجاح عملية التواصل، غير أن تقنية الخطاطة مرتبطا أيضا بالتمثيل العرضي ( ( Exposé Graphique حيث يجب أن إبداع كومة من الأيقونات( خطوط ، رسومات ، أصوات، إيماءات ، إشارات، شبكات، جداول ). ومن ناحية اخرى العرض التمثيلي يعتمد على بيداغوجيا السماع والاستماع، والتي يصر علماء النفس والتربية على وضعها ضمن أولويات الديداكتيك المعاصر.   
2- عامل الاستماع :
        بات من الضروري الحكم على القراءة الفورية للعرض( البحث) بالفشل،لأن المُرسل ( المُحاضر – المُطبق – الطالب)  ينخرط في عملية تربوية معقدة، تقتضي ضرورة توفير جملة الشروط المساعدة على إنجاحها. كما أن القراءة للنص دون تقنيات وفنيات يفقد العرض أسباب النجاح. وأول مهارة يفقدها المُتلقي مهارة السماع والاستماع، فلقد ثبت بالتجربة والمعاينة أن القراءة السردية تُذهب السماع لعدم وجود علاقة تواصلية بين المُرسل والمرسل له، وخاصة فقدان  التركيز نتيجة فقدان آليات شد الانتباه. كما أن المرُسل ( حالة الطالب) في أغلب الحالات يقرأ ما لا يفهم، لكونه يعتقد أن البحث مجرد إبلاغ صوتي لمعلومات مرصوصة على الورق. عندئذ يفقد المتلقي سمة التفاعل والتوصل معا، ولذا فإن تقنية الخطاطة تعتمد أسلوب تنمية السماع عن طريق التركيز على : الإيماءة ، العلامة، الصوت ، الإشارة ، الصورة ، النظر المباشر نحو المتلقي، ....
    إن السماع وظيفة فيزيولوجية بيد أن الاستماع مهارة إنسانية، ونعمة تكتسب بالتمرين والتحفيز. والاستماع مهارة معقدة يعطي فيها المتلقي  كل اهتماماته للمتحدث، ويركز انتباهه إلى حديثه، ويحاول تفسير أصواته، وإيماءاته، وكل حركاته، وسكناته كما يقدمها علماء التربية اليوم.
       إن السماع في الديداكتيك المعاصر تُعرف على أنها عملية فسيولوجية تولد مع الإنسان وتعتمد على سلامة الأذن والعين( العضو). في حين يكون الإنصات والاستماع مهارتين مكتسبتين. غير أن الخطاطة لا تنجح إذا كان المتلقي يمارس عملية الإنصات، لأن هناك فرق بين الإنصات والاستماع : فالأول يتأسس على الأصوات المنطوقة ( غياب الفهم – عدم التفاعل – تقلص التركيز – الشرود ..)، بينما الاستماع يفرض التشارك والتفاعل من أجل ربط الأصوات بالإيماءات الحسية والحركية للمتحدث والتمثيل الخطي للموضوعات.
   وبما أن تقنية الخطاطة تتطلب الاستماع كمهارة أولية ، فإن لكل مهارة شروط : 
       1- مهارة :الاستماع عملية تمتاز بالصعوبة، ولا يمكن للمرسل أن يجتذب المتلقي نحو إلا إذا كان المتلقي يحسن استغلال عنصر الزمكان، وأن تكون أدوات الإيصال في مستوى العملية التواصلية. 
   وبالتالي فالمحاضر والمطبق لابد أن يوفر أثناء العملية البيداغوجية شروط الاستماع الجيد والتي يحددها علماء التربية[7] في :
1 ـ الجلوس في مكان مريح و بعيد عن الضوضاء والمنبهات الثانوية.
2 ـ النظر باهتمام إلى المتحدث ، وإبداء الرغبة في مشاركته.
3 ـ التكيف ذهنيا مع سرعة المتحدث.
4 ـ الدقة السمعية والبصرية التي بدونها تتعطل جميع مهارات الاستماع.
5 ـ القدرة على التفسير، والتمثيل.
6 ـ القدرة على التمييز بين الأصوات المتعددة، والإيماءات المختلفة.
7 ـ القدرة على التمييز بين الأفكار الرئيسة، والأفكار الهامشية.
8 ـ القدرة على الاحتفاظ بالأفكار الرئيسة حية في الذهن.
9- القدرة على النقد.
10- القدرة على التجاوز.
   والغاية من تنمية قدرة الاستماع لدى الطالب هي الوصول إلى النتائج الإجرائية التالية :
1 ـ تنمية القدرة على متابعة العرض.
2 ـ التمييز بين الأفكار الرئيسة ، والهامشية .
4 ـ الربط بين الحديث ، وطريقة عرضه .
5 ـ تنمية القدرة على تخيل المواقف والأفكار. وكذا تكوين مهارة الاستماع النقدي بالتدريب على اكتشاف المتناقضات ، وأساليب الدعاية الإيديولوجية ، وأهداف المتحدث المنطوقة واللامنطوقة.
6 ـ استخلاص النتائج.
7 ـ تنمية بعض الاتجاهات السلوكية السليمة ، كاحترام المتحدث ، وإبداء الاهتمام بحديثه ، والتفاعل معه.
    ** مهارات الاستماع
       قسم التربويون مهارات الاستماع إلى أربعة أقسام رئيسة هي:
أولا : مهارات الفهم ودقته، وتتكون من العناصر الآتية :
1 ـ الاستعداد للاستماع بفهم.
2 ـ القدرة على حصر الذهن، وتركيزه فيما يستمع إليه .
3 ـ إدراك الفكرة العامة التي يدور حولها الحديث .
4 ـ إدراك الأفكار الأساسية للحديث .
5 ـ استخدام إشارات السياق الصوتية للفهم .
6 ـ إدراك الأفكار الجزئية المكونة لكل فكرة رئيسة .
7 ـ القدرة على متابعة تعليمات شفوية ، وفهم المقصود منها .
ثانيا : مهارات الاستيعاب ، وتتكون من العناصر التالية : 
1 ـ القدرة على تلخيص المسموع.
2 ـ التمييز بين الحقيقة، والخيال مما يقال.
3 ـ القدرة على إدراك العلاقات بين الأفكار المعروضة.
4 ـ القدرة على تصنيف الأفكار التي تعرض لها المتحدث.
ثالثا : مهارات التذكر، وعناصرها كالتالي : 
1 ـ القدرة على  معرفة الجديد في المسموع.
2 ـ ربط الجديد المكتسب بالخبرات السابقة.
3 ـ إدراك العلاقة بين المسموع من الأفكار، والخبرات السابقة.
4 ـ القدرة على اختيار الأفكار الصحيحة ؛ للاحتفاظ بها في الذاكرة.
رابعا : مهارة التذوق والنقد ، وتتصل بها العناصر الآتية :
1 ـ حسن الاستماع والتفاعل مع المتحدث .مع ضرورة التخلص من المشتتات الشعورية واللاشعورية، كالبعد عن مصادر الضوضاء، والاستماع للمتحدث بدلا من الرسالة، والمستمع الكفء هو من يقدر أهمية الاستماع الفعال، ويعلم أنها تنقص كلما كان المستمع يعانى من متاعب جسدية أو نفسية.
2 ـ القدرة على مشاركة المتحدث فلسفيا .
3 ـ القدرة على تمييز مواطن القوة ، والضعف في الحديث .
4 ـ الحكم على الحديث في ضوء الخبرات السابقة ، وقبوله أو رفضه. 
5 ـ إدراك مدى أهمية الأفكار التي تضمنها الحديث ، ومدى صلاحيتها للتواصل، ثم التدريب الجيد على فهم معاني الكلمات من السياق.
6 ـ القدرة على التنبؤ بما سينتهي إليه العرض




[1]. Umberto Eco: La structure absente, éd Mercure de France, Paris 1972, p 13
[2] -   راجع مقال : سعيد بن كراد (استراتيجية التواصل من اللفظ إلى الإيماءة ) مجلة  الحقول الحرة الألكترونية.
[3] - المقال نفسه.
[4] -  المرسل – الرسالة – المرسل له. انظر Roman Jakobson: Essais de linguistique générale, les fondements du langage, éd Minuit, 1963..
[5] - نقلا : عن قاري محمد وآخرون ، الفلسفة والديداكتيك ، منشورات مخبر العمليات التربوية والسياق الاجتماعي، ( طبع بدار الغرب وهران) ، ص 223.
[6] -  المرجع نفسه والصفحة ذاتها ( راجع ما كتبه محمد قاري في هذا الكتاب والموسوم ب : توظيف تقنية الخطاطة في ضبط المفاهيم الفلسفية)
[7] - راجع ما كتبه علماء النفس والتربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق