الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

النكتة السّياسية.. المرآة الضاحكة



أد. عبد القادر بوعرفة
تعد النكتة السياسية من أقدم وأطرف أشكال التعبير السّاخر، وأسرع الفنون في عملية التواصل والتخاطر الجماهيري، إذ تحمل معاني التذمر والمعارضة، ورفض أشكال الحكم القائمة، ولمز وغمز رؤوس الفساد الظاهرة... كما تعبر من وجهة أخرى عن رغبة في التنفيس عن كل مواطن تعيس، أتعسه قهر السّاسة، وإذلال كلاب الحراسة، وإفلاس الرياسة.
إن تفجير المكبوت السّياسي غالبا ما يكون بعدة وسائل وطرق، أعنفها الرفض القاسي الذي يضر بالبلاد والعباد معا، ونقصد العنف المادي الذي يترتب عن العصيان أو الثورة، إن المعاناة اليومية للمواطن، وخاصة البطالة والفقر والحرمان، والتهميش حتى الغليان، يُمهد دوما لظهور النكتة السّياسية كأولى علامة من علامات الرفض، وغالبا ما تسبق النكتة العصيان والتمرد، ذلك أن التمهيد للثورة يبدأ من خلال التمهيد لها من خلال النقد اللاذع الذي تُعبر عنه النكتة السّياسية بامتياز.
 إن النكتة السياسية منذ القدم تعتبر فلسفة العوام وسلاحهم اللاذع، والتي لا يستطيع إلجامها لا حاكم ولا إمام، ولا يقدر على مراقبتها لا جهاز أمن ولا جيش جرار ولا أي جهاز كان، فمنتجها غير معروف، ومروجها الشعب بكل أطيافه، فهي سلاح ظريف وطريف، تحمل نقدا لاذعا للساسة، الذي مارسوا السياسة بالجهل والصدفة، فهم أشبه بالجاهل الذي يُبحر بسفينة في عباب البحر. إن النكتة السياسية بالجزائر تاريخها قديم، ومفعولها بالرجال عظيم، رفعت البعض حتى أصبحوا كواكبا، ووضعت بالبعض حتى غدوا أوغادا وكلابا. نجد كثير من بقاياها في العهد العثماني، حيث عمل الجزائري على مجابهة التّكبر العثماني على سكان الجزائر بإنتاج النكت والطرائف التي في أغلبها تُقدم الأتراك غلاظ شداد، تنقصهم الحكمة، وتعوزهم الفطنة.
 إن أطرف النكت السياسية على الإطلاق ما حوته الأخبار، وتناقلته ألسنة العوام والأخيار، من عهد الأتراك إلى سعادة الرئيس عبد العزيز المبارك. وعليه، يبدأ العصر الذهبي للنكتة السّياسية بالجزائر ما بعد الاستقلال، وخاصة في عهد رئيس الهواري بومدين والشاذلي بن جديد بالخصوص، وهنا نميز بين نموذجين من النكت، ففي عهد بومدين أغلب نكت كانت في صالحه إلا بعضها، نظرا لشخصيته القوية، ومكانة الجزائر وسيادتها، وعهدنا القريب بالاستقلال والحرية، كانت النكتة السياسية بالسبعينات تحمل مدلولات ثورية، وجفريات اشتراكية، تترجم العزة والثبات، الدهاء والحيل المُغيّبات، وتعكس الصراع بين الجزائر ودول الجوار ... فأنتج الشعب الجزائري نُكتا ظريفة عن الهواري بومدين، تُبين حربه مع الجيران، وصراعه مع الفئران من ذوي البطون السمان، الذي أكلوا البلاد والعباد.
 ومن أشهر النكت السياسية، أن الملك الحسن الثاني صاحب العشر المثاني، دعا رؤساء المغرب الأعلى والأوسط والداني، إلى مأدبة عشاء، وقد وضع على السماط آواني من الذهب واللجين، ومن الطعام ما تشتهيه الأعين، ومن الخدم ما لم تسمع به الأذن، كانت الملاعق من الذهب الخالص، والأقداح من الفضة، والصحون من العاج الغالي، ... جلس الهواري بومدين وسط المائدة، عن يمينه الرئيس بورقيبة المُممط، وعن يساره المختار ولد دادة المننط... وبينما هم يأكلون ويتلذذون، أبصر الهواري كل من بورقيبة والمختار يضعان في جيبهما ملعقة الذهب، فأراد بومدين أن يحرجهما حرجا، فقال للملك الحسن الثاني، أيها الملك سأدخل ملعقتي في جيبي وسأخرجها من جيبي بورقيبة أولا، ثم أدخل أخرى في جيبي الآخر وأخرجها من جيب أخي المختار، فقال الملك: أو قادر على ذلك ... قال: بلى... فوضع الملعقة بجيب سترته ثم أخرج الملعقة الأولى من جيب بورقيبة، ثم أعاد الكرة فأخرجها من جيب المختار ولد دادة... فرجع بملعقتين من ذهب ورجع الأخران بخفي حنيين.
 هذه النكتة من عشرات النكت التي كانت تمجد الدهاء والحنكة لساسة الجزائر. وفي المقابل رويت نكت أخرى تقدح في عقيدته وأيديولوجيته الاشتراكية، ومن ذلك أن في عهد الهواري بومدين كثر تغيير الوقت، ونقصد التوقيت الصيفي والشتوي، فأنتج الجزائريون نكتة معبرة، مفادها أن شرطة الحدود المغربية ألقت القبض على ديك وحمار جزائريين، فأخذت في استنطاقهما بالعصا والمسمار، سائلة عن سبب الفرار، خاصة من أرض النار والماء والدينار، والعزة والشعار... وبعد تعذيب مروع، واستنطاق مؤلم، قال الديك: لقد اختلط علي الوقت بأرض الأحرار، والتبس على وقت الآذان، نظرا لتغيير الزمان، فما صرت قادرا على الصياح، فهربت عندكم لأحافظ على صياحي الذي هو سر نجاحي. أما الحمار، فبعد أن حمد رب القفار، والصحاري الكبار، قال: أما أنا يا سادتي الكرام، فقد هربت لكثرة الأسفار، وهول الأخطار في الليل أو النهار، فحملت من السلع ما لا يطيقه حمار، فعند المهربين حيوان مرغوب، وعند الجمارك حيوان مطلوب، وعند الحلابة حيوان محبوب، وعند "الزوالية" حيوان مريب.
 شهدت فترة بومدين إنتاج النكتة التي تعبر عن التفوق والنجاح، وخاصة تلك الثنائية التي ظهرت في الستينات بين جحا الجزائري وجحا الفرنسي، والتي تُسفر في كل الأوقات والأحيان عن تفوق جحا الجزائري على نظيره الفرنسي، لقد كانت تلك النكت مدروسة بعناية، فهي محاولة رفع معنويات شعب خرج من الاحتلال والاستحمار، خاصة وأن أذناب فرنسا كانت تشكك في قدرة الجزائري على تسيير البلاد بعد أن خرجت فرنسا. انتشرت نكتة ظريفة وطريفة عن الراحل هواري بومدين خلال زيارة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان إلى العاصمة، إذ عند مرور موكبه القادم من المطار على منطقة واد السمار، أين كانت تتواجد المفرغة العمومية، والتي كانت تنبعث منها روائح جد كريهة، فأمسك الرئيس بومدين بأنف ضيفه وقال له مازحا "أيها الشقي عندك زمن لم تزر الجزائر”، أراد الرئيس من خلالها سدّ أنف ضيفه كي لا يشتم رائحة "واد السمار" النتنة ليحافظ على صورة الجزائر.
 أما في مجال العقيدة، فقد أنتج خصومه عدة نكت تُبين عن تصوراته الدينية، والتي غالبا ما ارتبطت بالكفر، نظرا لنهجه الاشتراكي، وبالرغم أن الرئيس الهواري كان متدينا إلا أن خصومه حاولوا قدر الإمكان إظهاره بمظهر الزنديق، ومن ذلك انتشار نكتة بومدين وعزرائيل، حيث يقول منتجها بأن الرئيس بومدين وهو في جلسة حول الموت وملك الموت، قال لأصحابه لقد وجدت الحل والحيلة التي تُحررني من عزرائيل. قالوا: كيف ذلك يا زعيم؟؟. قال: حين أموت أحفروا قبري على شكل متاهات، فأني سأتوه عزرائيل في تلابيبها، حتى يبلغ التعب منه مبلغه.
 إن النكتة السّياسية في عهد الرئيس بومدين كانت جد هادفة، وتحمل كثير من قيم الشهامة والمروءة، وكان الجزائري يجد من خلالها شخصه الذي يريده أن يتجسد تاريخيا، وسنرى في عهد الشاذلي بن جديد تحولا رهيبا في النكتة السياسية، حيث بدأت تتجه صوب تصوير البلاهة والبلادة، الغباء والحمق، وهذا ناتج عن التحول الذي شهدته الجزائر سياسيا واقتصاديا، وأيضا التباين الشديد بين شخصية الهواري بومدين الحازمة والقوية وشخصية الشاذلي بن جديد الَحلِيمة والمتسامحة.
وسنرى في الحلقات القادمة كيف تحولت النكتة السياسية إلى أداة هدم ونقد لاذع، خاصة زمن ندرة السلع وظهور طبقة برجوازية في الجزائر متطفلة، لم يكن لها وجود في زمن الرئيس السابق، مما جعل الشعب يتجه صوب النكتة ليفرغ مكبوتاته، ويُترجم بها عن غضبه من سلطة أفقرته وأذلته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق