السبت، 21 يوليو 2018

فلسفة التغيير في القرآن

                                         أد. عبد القادر بوعرفة (نشر في مدونات الجزيرة)
نعلم أن كل تغيير له منطلق ينطلق منه كمرجعية تؤطره، وغالبا ما يرتبط التغيير إما بجانب مادي أو روحي، بيد أن التغيير وفق الرؤية القرآنية ينطلق من البعدين معا، فالمنطلق الأول هو الروح التي تفرض سلطتها على الذات من خلال المبادئ السامية والفضيلة المتجذرة في ماهية الإنسان، ويكون منتهاه البعد المادي بجميع تجلياته.
إن الثّورة ظاهرة متميزة عن غيرها من أشكال التعبير الرافض للواقع المعايش، فهي ليست حالة غضب أو انتفاضة أو إصلاح، بل هي أكبر من ذلك بكثير، فهي تحمل فلسفة ورؤية هادفة للوجود بالرغم من التناقض الموجود بين مفجرها وممارسها، يقول البخاري إن ميزة هذا التعريف تتمثل في أنه يرى في الثّورة فضلا عن طابعها الشمولي ظاهرة تتميز عن غيرها من الحركات التغيرية الأخرى، المسلحة وغير المسلحة.. مثل الانقلاب le coup d’état والعصيان l’insurrection والتمرد la révolte الذين يكتفون بقول لا للواقع السياسي والاجتماعي القائم دون مخطط واضح لتغييره. وعن الإصلاح laréforme الذي يظل بالرغم من إيجابية النسبية يدرج التغيير في إطار المحافظة.
إن التغيير في القرآن يرتبط بمفهوم الثورة إلى حد كبير، لأن التغيير إذا لم يكن ثورة كان مجرد أحلام يقظة، لا تنفك أن ترتبط بقبول الواقع المرير، مما يجعل الإنسان مجرد كائن سلبي لم يفهم نظرية التدافع في القرآن الكريم، ولم يستوعب كفاح الأنبياء على مر التاريخ، إن التغيير بدون ثورة هو مجرد حلم بائس في ليلة عاصفة.
إن القرآن لا يريد من خلال حركة التغيير الحصول على المكاسب الاقتصادية فقط، بل يريد منه الحصول على المكاسب الباقية الأبدية، فالمال والتجارة وزينة الحياة مجرد عرض زائل لكنه مهم لاستمرار الحياة، ويجب العمل من أجل تحصيله، لكن الأهم من ذلك أن يصل الإنسان من خلال فلسفة التغيير إلى التمكين لذاته الفاضلة في عالم الألوهية المفتوح على مقامات الوجود والكمالات الأدمية.
يرتبط التغيير بمنطلق البحث عن الأفضل من معكوس ما هو كائن، فالهجرة المذكورة في القرآن هي ثورة معكوسة، فعوض تغيير المجتمع العصي عن التغيير في لحظة ما، يجب أن نغير وضعنا من خلال هجره، ولذلك أمر الله نبيه بأن يُهاجر إلى الحبشة ثم المدينة، بل ذهب الله إلى حد العتاب، حين خاطب المستكينين للظلم والظالمين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}.
نستشف من خلال الآية الكريمة أن التغيير بمعناه الثوري ليس موسمية أو لحظة تاريخية شاردة، بل أن التغيير حركة مستمرة غير محكومة بمنطق الزمان، يحض القرآن الإنسان على أن يُغير في كل يوم شيئا من حياته، ولو تعلق الأمر برفع الأذى من الطريق، أو التّصدق بشق تمرة يابسة. ومنه، يصبح التغيير يحمل البعدين معا، إرواء الذّات من فيض الروح والفضيلة، وإمداده بمقومات البقاء. يقول الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.}
استفاق الغرب على وهج الربيع العربي، وهو الذي كان يعتقد أن الإنسان العربي بعيد كل البعد عن الثّورة والحرية، فهو إنسان يؤمن بالحتميات، ويحول زعمائه وقادته إلى أصنام رابضة في عقله ومخياله. لم يستطع الغرب هضم الثّورة التونسية، وبالتّالي لم يساندها أو يدعمها، ظنا منه أنها مجرد انتفاضة سيكون مصيرها كمصير العشرات من الانتفاضات العربية، غير أن إصرار الشعب التونسي على تغيير النظام كان أكبر من تنبؤات الغرب ذاته، لقد أسقطت الثّورة النظام في تونس، ولم تكتف بذلك فحسب، بل صَّدرت ثورتها وتجربتها نحو العالم العربي، إذا اشتعلت مصر وثارت ثائرتها، وغيرت كل التّوقعات والمسلمات، وأولها تلك المسلمة القائلة يثور أبو الهول ولا يتحرك المصري. لكن الحقيقة كانت على العكس تماما، بقي أبو الهول ساكنا وتحرك المصري في ثورة كانت مليئة بالمفاجآت والطرائف، وحبلى بالتناقضات، أفرزت آخر الأمر حكومة مدنية وُلدت من رحم الديمقراطية، انتهت آخر الأمر بانقلاب عسكري قتل الأمل الذي نبت في الوعي المصري.
لم يكن حظ بعض الشعوب كالحظ المصري والتونسي، فالثّورة في ليبيا كانت دموية وقاسية، نظرا لطبيعة نظامها الديكتاتوري، ونظرا لامتلاكها الذهب الأسود. ومن جهة أخرى، أن الغرب أعاد تنظيم حساباته وترميم فلسفته، لقد انحاز إلى الشعوب ظاهريا.. لأنه لا يؤمن بالثّورة، لكنه يعلم أنها ستقتلع قلاع الحكام والقادة، وعليه يجب المحافظة على المصالح ولو فرض عليه التحالف مع الشيطان ذاته. لكن بالرغم من قساوة الثّورة الليبية وارتفاع تكلفتها البشرية إلى خمسين ألف قتيل، إلا أن الشعب الليبي استطاع آخر الأمر أن يحطم عرش العقيد التليد. لم يكن الربيع العربي كما يسمى ربيعا على كل الشعوب، فالشّعب اليّمني والسّوري لم يجد المساندة الكافية من المجتمع الدولي، ولازالت الثّورتان لحد السّاعة لم تأت أكلهما، وخاصة الثّورة السورية التي طال أمدها وارتفعت قرابين الحرية فيها إلى أكثر مما كان يتوقع مفجروها أنفسهم.
 وقد كنت ذكرت منذ عشر سنوات في مقال لي بمجلة المستقبل العربي عن الشارع العربي والثورة إذن نحن نريد من خلال وحي الشارع العربي أن نجعل من سؤال الحرية شعورا عميقا في لحظات تسمية الأشياء بأسمائها، لا نريد أن يكون الشعور الحرية وليد الأنا السطحي المترع بالشعارات والدعوات، إن الحرية كما يتمثلها الشارع العربي لا زالت وليدة الشعور السطحي سواء من خلال اللحظة الثورية المُمجدة للدم المراق على معابد أصنام التاريخ والمستمدة من عزم قابيل على قتل هابيل، أو هي وليدة اللحظة الإغرائية التي تمارسها أمريكا والمؤسسات الغربية، إنها تشبه لحظ الغواية كما حدث ليوسف مع امرأة فرعون. فهل يكون الشعب العربي ممتلكا لإرادة الرفض رافضا الغواية التاريخية أم يذهب مع منطق هيت لك ويمارس الغواية في أعتي صورها. 
إن أخطر ما يتربص بالثّورة القرآنية هو الشباب المندفع والمتهور، والذي يعتقد أن الثّورة هي مجرد دمم يراق على عتبات الفريضة الغائبة، وأن الدم المراق كفيل بتحقيق رسالة الإسلام السامية لذلك لا يجب أن نستغرب إذا ما رأينا ذاك الشباب الذي عايش معظمه ثورة التحرير الجزائرية.. ثم الثّورة الإسلامية الإيرانية يندفع لأخذ زمام مبادرة التصدي لذلك الغزو بنفسه سلاحه في ذلك إيمانه الصادق ومعارفه البسيطة في الغالب، التي استقاها من الكتب مباشرة نتيجة لانعدام ثقته في الكثير من أولئك العلماء والفقهاء. 

وتبقى الثّورة رهينة الأهواء، والتغيير أسير التجاذبات، فلا تقدر على تقويض ما هو كائن وأن تبني ما ينبغي أن يكون إذا لم تستطع منذ البداية أن تُحدد الوقائع والحقائق، وتعمل على فهمها وتحريرها، ثم تحويرها وفق فلسفة الثّورة وأهدافها، غير أن الثّورة في سعيها هذا لتقويض ما هو كائن، باسم ما يجب ويمكن أن يكون، لا تلبث أن تصطدم بالعديد من حقائق ذاك الواقع المرفوض، تلك الحقائق التي عليها تمثلها أولا، وبعمق، كشرط لتجاوزها ولتجاوز الواقع المستند إليه.

نعتقد في آخر المقال بأن الإسلام دين متكامل، ويحتاج بدوره إلى إنسان متكامل لا كامل لأجل تحقيق رسالة القرآن الخالدة، وهي تحقيق خلافة الله في الأرض، والتكامل المقصود يحصل في الاتزان بين مطالب الدنيا والدين معا، ولن يحدث ذلك التوازن إلا من خلال التغيير الإيجابي، وتوجيه الصحوة أو النهضة الإسلامية المعاصرة نحو قيم الإسلام والإنسانية، فالثّورة لا تعني القتل والتدمير، بل الثّورة في القرآن هي تعمير الأرض وتدبير الجماعة لما فيه خيرها وحقها وجمالها.
 ونحن نتفق مع البخاري حين يقول: بذلك يتحقق التكامل في هذه الصحوة بين الدين وبين الدنيا، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين الخصوصية والعالمية، بين الشكل والمضمون لأن الصحوة التي نريدها، نريدها متكاملة لتكون قادرة بالتالي على نقلنا بقوة وأصالة فوق فوهات قرون من التخلف والجمود وتصلنا بقوة بواقعنا في الوقت الذي ترسخ فيه جذورنا بعمق في ماضينا بمثل هذه الصحوة وبمثلها وحدها يمكن للأمة الإسلامية تجاوز خلافاتها واستعادة مجدها وتحقيق حياتها من خلال مجتمع إسلامي نظيف وقوي، متكامل ومتضامن، يتفاعل ايجابيا مع كل المعطيات السياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية والثقافية لعصره، دون تحجز باسم الوفاء لماضي أو ذوبان في الآخر بحجة الانشغال بالمستقبل.
http://blogs.aljazeera.net/blogs/2018/7/21/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق