الاثنين، 19 أكتوبر 2015

كتاب التجربة الجمالية

كتاب التجربة الجمالية تأليف أ.د عبد القادر بوعرفة

أصدر الأستاذ عبد القادر بوعرفة كتابا جديدا عن منشورات مختبر "أبعاد" ، تناول إشكالية الوعي الجمالي في الفن الإسلامي من خلال استحضار كثير من مجالات الفن الإسلامي. وجاء في مقدتمه ما يأتي:

       يتجه الفكر في زمن سلطة العلم والتّخصص نحو جعل كل حقل من حقول الفكر علما قائما بذاته، على غرار ما حدث لعلم النّفس وعلم الاجتماع والسّياسة والاقتصاد..، حيث حاول بعض المُتخصصين في الجمال أن يجعلوه علما قائما بذاته، يشترك مع الفن في المقدمات العامة غير أنّه يتميز عنه بقواعد ومعايير ومجالات خاصة، نظرا لأن الجمال حقلٌ أكثر تخصصا من الفن، من حيث موضوعه الرئيس وقيمه المتعالية نظرا لارتباطه بالذّات كموضوع غير مفصول عن موضوعات الإدراك والذّوق.
     قد لا أكون ممن يناصرون فكرة القول (بعلم الجمال)* لأني أعتقد أن الجمال موضوع متحرر من القيود والمعايير الضّيقة، فهو كالخيول البرية التي تَجِدُ طَبِيعَتَها في التّوحش، أو في صور الطبيعية التي تحتكم لمبدأ اللاّقانون، ومن جهة أخرى، لا تحتمل طبيعةُ الجّمال التّقنينَ ضمن أطر إبستيمية أو قواعد عقلية صارمة، أو أن يحكمها منطق سكوني كمي.
      وأعتقد في هذا المجال بالذّات، بأن الجمال يفقد جماليته عندما يُصبح أسير المنهج والقاعدة العلمية، وأن معايير الحكم على موضوعاته تنفر من القيّم الجاهزة لأن القيّمة الجمالية قيمة ذوقية قبل أن تكون قيمة عقلية أو علمية. ومن ناحية أخرى، نجزم بأن العمل الفني يندرج ضمن مجال الممكن، والممكن يعطي فضاءً من الحرية للفنان، مما يجعله يطلق العنان لمخيلته وشعوره وحدسه، عندئذ لا يعترف بحدود ولا قواعد، بل يصبح الهدف هو التّعبير عن المعنى المُنْشَأ لحظة إدراكه إدراكا فنيا أو جماليا، وفق قاعدة الممكن والمُتخيل:" الاعتراف بمجال الممكن في العمل الفني يفترض كنتيجة حتمية الاعتراف بفضل المخيلة والإبداع الإنساني، وذلك ما لم يكن ممكنا في حدود بنية الثّقافة الإغريقية وفي حدود الأسلوب الذّي دشنه أفلاطون بالذّات."[1]
      يستأنس أنصار "علم الجمال"  بقول لفريديرك هيجل حين أصر على أن الجمال علم في تعريفه المشهور:" إن علم الجمال هو فلسفة الفن النبيل."،  بيد أن هيجل أكد آخر الأمر بأنه سيبقى مُجرد فن نبيل.
   قد تصبح كل الفنون والصّناعات ذات يوم علوما قائمة بذاتها إلا الجمال، لأن الإنسان في المستقبل لن يبق له إلا الجمال وبعض جيوب الفن ليمارس فيهما بعض الحرية، ويختبر بهما وجود كينونته بعد أن طغت التقنية والعقل الآداتي على كل مضامين الحياة، وأصبحت فضاءات الحرية تتقلص بشكل مطرد.
    ومما سبق، يمكن أن أنحاز إلى رأي ليندرن عندما يقول بأن الفّنَ والجمال يَشُذَا عن قاعدة القانون والعلم، فروعة الجمال أنه بدون قيد أو شرط:" القانون الأوحد للجمال أنه ليس له قانون."
     ولا نقصد من الفكرة السّابقة، عدم اتساق العمل الفني وانسجامه، بل نقصد بأن القواعد الصّارمة لا جدوى منها في المجال الجمالي، فروعة العمل تكمن في تلك العلاقة التي تنتج بين الفنان وموضوع فنه، فهو لا يُصدر أي عمل فني بناءً على قواعد ولوائح بل عن إنفعال ورغبة وإحساس. وقد أشار زكرياء إبراهيم إلى تلك المسألة في قوله:" حقا أن الفنان لا يصدر في إبداعه الفني عن بعض القواعد الصارمة المحددة، كما أنه لا ينتظر من أحد غيره أن يُملي عليه اتجاهه الفني أو أن يُعين له اللّوحة التي لا بد من رسمها، ..."[2]            
      يمكن تسمية استقلالية الفن والجمال بالفوضوية المهذّبة، فهي تنفر من القانون والضبط ولكنها تتجه نحو الالتزام بوصفه رسالة وغاية. وتحمل هذه الفوضوية المُهذبة ــ المرتبطة بالجمال كقيمة فكرية وإنسانية ــ كل الأبعاد الجمالية للجمال، وتزداد جلالا عندما يتحول التّصور الجمالي إلى ممارسة فنية، إذ أن الممارسة الفنية هي التي أكسبت الجمالَ عبر مراحل تاريخه جماليته الخَلاّبة.
   يمكن أن ننطلق من هذه النّقطة بالذّات في تحليل العمل الفني في التراث الإسلامي، فإذا كان الجمال والعمل الفني في جوهره لا يعترف بالقانون المُسّيج له، فإن الخطاب الإسلامي في شقه الفقهي سيجد في حالة تحويل الجّمال والفن إلى سياج العلوم الشّرعية صعوبة في وضع القيود والقوانين له من باب ضرورة ربط الجمال بمقاصد الشّريعة الإسلامية، لأن فعل المُخيلة تجربة فردية لا ترتبط بفقه المُعاملات إلاّ حين تصبح خارج بؤرة الذّات المُنتجة لها.
    يُعتبر الجمال عصي عن التّعريف كالخير والحق، وهو نفسه ما ذهب إليه جان برتليمي (في بحثه حول علم الجمال) حين قال: "إن نحن رجعنا إلى قدامى الفلاسفة لعلمنا أن الجميل، شأنه شأن الحّق والخّير، يعيش فوق العقل والمنطق والعمل، ولهذا فالجميل لا يقبل التّعريف والجمال يُفهم من خلال الأشياء الجميلة."[3]
    يُصبح الجمال عندئذ عصي عن التّعريف لكونه مرتبط بالنّفس الشّاعرة، ولا يمكن أن يكون مُدْرَكًا وجليًا إلا من خلال غيره من الصّنائع، ومن ثمة لم يُدرجه المُصنفون في الإسلام ضمن العلوم، ولم يُحْصَ كعلم مستقل بذاته بل اعْتُبِرَ صناعة حاذقة بارعة للغاية.
      أَوَّدُ بادئ ذي بدء أن أنبه إلى مسألة بالغة الأهمية، تكمن في التّطابق الحاصل بين مفهوم الجمال والفن، فالفن ليس هو الجمال بل هو متضمن فيه، لكونه أشمل منه في المفهوم، لكن الجمال هو فن بالضرورة، ولهذا نتفق مع ما قاله الشّامي:" يُعدُّ الفن واحدا من المجالات التي يسيطر الجمال عليها، ويظهر من خلالها، ولكن الفن ليس هو الجمال، إذ قد يوجد الفن ولا يوجد الجمال فيه."[4]
   يعتقد جورج سانتيانا بأن أفضل اتفاق نصل إليه حول ماهية الجمال هو القول بأن  الجمال في صورته التي نتعارف عليها اليّوم هو الإحساس بالجمال كموضوع وقيمة وأثر، وعليه يجب أن نُخفف من حدة هاجس تعريف الجمال كموضوع محدد.[5]
     ويبدو جليا من خلال هذا المدخل أن مفهومَ الفن متشعب ومتنوع، ويفرض علينا المقال مساءلة المفهوم من حيث حمولته اللّغوية والإصطلاحية والفلسفية، إنطلاقا من القاعدة الإبستيمية التي تقول بأن الحوّار المُثمر يتأسس أول الأمر على أرضية تحديد المُصطلحات وتقريب المفاهيم.


* - أول من أصطلح على مفهوم "علم الجمال" هو المفكر الألماني الإسكندري بومجارتن ( 1714 – 1762)، وقد حدد رؤيته في الثلاثية المشهورة :
- الجمال = المعرفة الحسية.
- الحق = المعرفة العقلية.
- الخير = القدرة الإرادية.

[1] - حمادي حميد وآخرون، سؤال المعنى، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران (الجزائر)، ط 1، 2005، ص 10.
[2] - زكرياء، إبراهيم، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، مكتبة مصر، القاهرة، 1966، ص 282.
[3] - نقلا: صالح، أحمد الشامي، الظاهرة الجمالية في الإسلام، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ط1، 1986، ص23.
[4] - المرجع السابق، ص24.
[5] - سانتا، جورج، الإحساس بالجمال، تر: محمد مصطى بدوي، هيئة الكتاب، القاهرة، ط 1، 1200 ، ص 51.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق