هرمس بين الأسطورة والمخيال التأويلي
4/2/2017
ساد اعتقاد لدى الشعوب القديمة أن الإله يجتبي من بين خلقه من يكون وسيطا بينه وبين مخلوقاته على السواء، فكان الاجتباء مبنيا على جملة من الصفات والشروط استأثر بها سدنة المعابد والكهنة، وقبلهم السحرة والمشعوذون في المجتمعات الطوطمية.
وبُنيت فكرة الوسيط البشري على فلسفة أسطورية محضة، ترتَكن على أن الإله كلامه ليس ككلام البشر وإن كان بلسانهم وألفاظهم، بل عين كلامه تكمن وراء اللفظ، والذي بالضرورة لا يعرفه إلا الكاهن أو السادن، فالإله لا يلقي بحكمته إلا لمن ارتضاه صاحبا وترجمانا. عندئذ يصبح السادن هو الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، والآخرون بحكم عدم الاجتباء والاصطفاء عليهم التصديق والتسليم بما يقوله من أقوال أو أحكام على لسان الإله. ويصبح صاحب مقام التفسير الحاكم والمتسلط والسيد، والآخرون العبيد والخدم، هو صاحب الأمر والنهي، وهم أهل الطاعة والامتثال.
إن الدراسات التحليلية تؤكد بأن المقام السلطوي الذي حصّله الوسطاء -نستثني الرسل والأنبياء- بالمكر والخديعة كان يُدر عليهم بالأموال ما يفوق تصورهم، ومنه أصبحت السلطة منذ القديم تقوم على احتكار المعرفة لجني المال والمراكز الحساسة، ثم تحولت في العصور المتأخرة بفعل المؤسسات والمدارس إلى علم أو فن لفهم النصوص وتجاوزها.
لقد ارتبطت وظيفة الوسيط بممارسة السلطة والسيادة، وما زلنا ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين نلاحظ استمرار الوسيط الأسطوري في أبجديات الجماعة البشرية، ففي الأمة الإسلامية ما زال أهل القبور من الأولياء يمثلون الوسيط السحري بين العبد وبين الله، ويؤمن الناس بقدرتهم على الوساطة لدى الله رغم كونهم أمواتا ورفاتا، ورغم أن تلك الظاهرة ليست من الإسلام (التوحيد) إلا أن المخيال الاجتماعي عبر الطفرة الطوطمية لم يتخلص من أولى معتقدات البشر، ومن أولى تصورات مغامرات عقلهم البدائي.
لقد استطاع العقل الأسطوري أن يؤسس عن طريق الأسطورة فلسفة تُبين ميلاد الوسيط الأسطوري ضمن أحداث خرافية، فأسطورة هرمس تعكس ذلك بكل وضوح، فالإله شاءت حكمته وعنايته أن لا يترك البشر دون تعاليم ومعرفة تنير دروبهم في الحياة، وبما أنه متعالٍ عنهم تعاليا مطلق فلا يجوز في حقه أن يكلمهم تكليما، أو أن يوحي إليهم وحيا، بل تقتضي العظمة أن يختار من بين عباده من يكون همزة وصل بينه وبين مخلوقاته، وبالتالي اختار الإله هرمس كوسيط، لأنه الوحيد القادر على تأويل كلامه، وهو ليس بالمُؤول بالمعنى المعاصر بل هو المترجم والشارح لكلام الإله.
إن اليونان كمجتمع وثني جعلوا من هرمس القاعدة الإبستمية للخروج من أطر النّص المُسيج، إنه فتح لباب التأمل والتعقل أمام اللوغس اليوناني "Logos Λούος"، بحيث يجب أن يتفاعل اللوغس مع النص تفاعلا خلاقا، فهرمس ليس بالشخص الأسطوري فقط بل هرمس هو اللوغس في تجليات حركة الإنسان العاقل.
استطاع هرمس رمزيا أن يُحقق ضمن مجال الثقافة اليونانية منحيين مختلفين: المنحى الأول يكمن في أن المُؤهلَ لفهم النّص الإلهي هو المتحكم والسيد، لأن المعرفة تغدو سلطة والسلطة معرفة في بعض الأحيان، ولذلك كان أغلب الملوك والأباطرة تحت سيطرة الكهنة والسدنة من باب هذا المنطق. أما المنحنى الثاني فيكمن في قدرة المفكر اليوناني على إخراج هرمس من المعبد إلى مجال الفلسفة، وأصبح الفيلسوف من خلال اللوغس هو هرمس الحقيقي، وبذلك انقلب الفكر اليوناني رأسا على عقب. وكان النجاح الباهر للهرمينوطيقا القديمة في مجال تأويل وشرح النصوص الدينية والشعرية الكبرى التي حبلت بها الملاحم والتراجيديا اليونانية، والتي حاول "جون بيبان Pépin" أن يربطها بالتفسير والتعبير ثم الترجمة.
أصبحت الهرمسية مرتبطة في الفكر اليوناني بتأويل النص الديني، وارتبطت بفلسفة اللغة وعلوم اللسان، وعُرفت بالهرمينوطيقا، والتي نلاحظها اليوم تكتسي طابعا غير الذي نشأت فيه أول مرة، وتكتسح من جهة أخرى أغلب الدراسات اللغوية واللسانية. كما أنها ترعرعت ضمن الفضاء الكنسي: "ومصطلح الهرمينوطيقا في الأصل مصطلح مدرسي لاهوتي، كان يدل عند نشأته الأولى على ذلك العلم أو النظام المعرفي الذي يحكم عملية تفسير الكتاب المقدس Scripture أو النصوص الدينية Exegesis التي قد تتطلب فهما وتفسيرا بسب غموض معناها الذي نشعر إزاءه بالاغتراب، على أن يصبح هذا المعنى مقبولا ومنسجما مع العقائد الإيمانية".
لم يبق الوسيط مجرد خرافة أو حدث أنتجه المخيال الأسطوري، بل تحول الوسيط في الفكر الديني -أو ما يسميه إدموند بيرنال "عصر الإيمان"- إلى معتقد يتطلب وجوب الإيمان به، فالنبي أو الرسول في الديانات الشرعية هو الوسيط بين الله والعباد، ويكتسب الرسول والنبي قدرة خلاقة على تبليغ الوحي (كلام الله) أولا، ثم قدرة فائقة على شرحه وتبسيطه للخلق.
فالله قسم الحكمة إلى ثلاثة أنواع:
1 ـ حكمة اليقين: أهل العقل .
2 ـ حكمة حق اليقين: أهل العرفان .
3 ـ حكمة عين اليقين: أهل الرسالات.
فمقام النبوّة والرسالة يُمثل عين اليقين، لأن الوسيط مُصطفى من قبل الله، والله لا يصطفي من خلقه إلا من هو أحق بذلك التكليف والتشريف معا، كما أن شرح كلام الله من قبل النبي إنما هو شرح باللسان فقط، أما المعنى فهو من الله، وبالتالي لا مجال للاجتهاد.
أما أهل حق اليقين، فهم أهل العرفان، من اجتهدوا في عبادة الخالق فوصلوا عن طريق المجاهدة والعبادة إلى معرفة حقائق النَص المخفي وراء اللفظ، ووصلوا إلى هتك حُجب الظاهر، فذاك هو التأويل. ولا نقصد الصوفية ولا أهل الطرق، فكثير من الصوفية وصفوا أنفسهم بأهل العرفان وهم أبعد خلق الله عن الحق والمعرفة، وإنما نقصد الراسخين في العلم كسيدنا الخضر وغيره من المؤمنين.
أما أهل اليقين فهم أهل العقل والبرهان، فهموا النص من خلال حركة العقل والتجربة، وقاسوا الأشياء بنظائرها، والوقائع بتواريخها، وحاولوا أن يقيدوا النّص بالكلام وبنية الخطاب، وذلك هو التفسير. ومن هذا التقسيم يتضح أن النص يخضع من حيث فهمه إلى ثلاث مستويات رئيسة، مستوى يفرض التسليم بالشرح المقدم له باعتبار أن الشارح مُلهم من قبل الله "النبي أو الرسول"، ومستوى نقبله قبول الإبداع باعتباره حالة وجد وخبرة فردية، ومستوى نحمله محمل الاجتهاد.
ومن خلال هذا المستويات الثلاثة، يصبح كل إنسان يحمل صفة هرمس ما دام ينخرط في حركة فهم النص "الوحي". نؤمن نحن المسلمين أن القرآن هو المصدر الأول للمعرفة والتشريع، وهو السهل الممتنع، المجمل والمفصل، الأخير والأول، الظني والقطعي، المتشابه والمتفرد، فهو يمتلك مكانة كبرى في ضمير كل مسلم، تجعل طلبة اليقين يتجهون إلى فهمه ومعرفة أسراره، والاطلاع على مقاصده، ولم يتأت ذلك في الفكر الإسلامي إلا من خلال جهود المفسر والمؤول معا. إلا أن ممارسة فهم النص تقتضي التمييز بين التفسير والتأويل، لأن الأحكام والحدود تُستنبط من خلال حركة التفسير لا حركة التأويل، وكيلا يقع الزيغ والانحراف أرشدنا علماء الدين في القرن الرابع الهجري بالخصوص إلى ضرورة التّفرقة بين التفسير كعلم وبين التأويل كتجربة.
ذلك أن التأويل هو مجرد ترجيح لميل من الميولات بينما التفسير هو الاحتكام للقرائن.
وبُنيت فكرة الوسيط البشري على فلسفة أسطورية محضة، ترتَكن على أن الإله كلامه ليس ككلام البشر وإن كان بلسانهم وألفاظهم، بل عين كلامه تكمن وراء اللفظ، والذي بالضرورة لا يعرفه إلا الكاهن أو السادن، فالإله لا يلقي بحكمته إلا لمن ارتضاه صاحبا وترجمانا. عندئذ يصبح السادن هو الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، والآخرون بحكم عدم الاجتباء والاصطفاء عليهم التصديق والتسليم بما يقوله من أقوال أو أحكام على لسان الإله. ويصبح صاحب مقام التفسير الحاكم والمتسلط والسيد، والآخرون العبيد والخدم، هو صاحب الأمر والنهي، وهم أهل الطاعة والامتثال.
إن الدراسات التحليلية تؤكد بأن المقام السلطوي الذي حصّله الوسطاء -نستثني الرسل والأنبياء- بالمكر والخديعة كان يُدر عليهم بالأموال ما يفوق تصورهم، ومنه أصبحت السلطة منذ القديم تقوم على احتكار المعرفة لجني المال والمراكز الحساسة، ثم تحولت في العصور المتأخرة بفعل المؤسسات والمدارس إلى علم أو فن لفهم النصوص وتجاوزها.
أهل اليقين هم أهل العقل والبرهان، فهموا النص من خلال حركة العقل والتجربة، وقاسوا الأشياء بنظائرها، والوقائع بتواريخها، وحاولوا أن يقيدوا النّص بالكلام وبنية الخطاب، وذلك هو التفسير. |
لقد استطاع العقل الأسطوري أن يؤسس عن طريق الأسطورة فلسفة تُبين ميلاد الوسيط الأسطوري ضمن أحداث خرافية، فأسطورة هرمس تعكس ذلك بكل وضوح، فالإله شاءت حكمته وعنايته أن لا يترك البشر دون تعاليم ومعرفة تنير دروبهم في الحياة، وبما أنه متعالٍ عنهم تعاليا مطلق فلا يجوز في حقه أن يكلمهم تكليما، أو أن يوحي إليهم وحيا، بل تقتضي العظمة أن يختار من بين عباده من يكون همزة وصل بينه وبين مخلوقاته، وبالتالي اختار الإله هرمس كوسيط، لأنه الوحيد القادر على تأويل كلامه، وهو ليس بالمُؤول بالمعنى المعاصر بل هو المترجم والشارح لكلام الإله.
إن اليونان كمجتمع وثني جعلوا من هرمس القاعدة الإبستمية للخروج من أطر النّص المُسيج، إنه فتح لباب التأمل والتعقل أمام اللوغس اليوناني "Logos Λούος"، بحيث يجب أن يتفاعل اللوغس مع النص تفاعلا خلاقا، فهرمس ليس بالشخص الأسطوري فقط بل هرمس هو اللوغس في تجليات حركة الإنسان العاقل.
استطاع هرمس رمزيا أن يُحقق ضمن مجال الثقافة اليونانية منحيين مختلفين: المنحى الأول يكمن في أن المُؤهلَ لفهم النّص الإلهي هو المتحكم والسيد، لأن المعرفة تغدو سلطة والسلطة معرفة في بعض الأحيان، ولذلك كان أغلب الملوك والأباطرة تحت سيطرة الكهنة والسدنة من باب هذا المنطق. أما المنحنى الثاني فيكمن في قدرة المفكر اليوناني على إخراج هرمس من المعبد إلى مجال الفلسفة، وأصبح الفيلسوف من خلال اللوغس هو هرمس الحقيقي، وبذلك انقلب الفكر اليوناني رأسا على عقب. وكان النجاح الباهر للهرمينوطيقا القديمة في مجال تأويل وشرح النصوص الدينية والشعرية الكبرى التي حبلت بها الملاحم والتراجيديا اليونانية، والتي حاول "جون بيبان Pépin" أن يربطها بالتفسير والتعبير ثم الترجمة.
أصبحت الهرمسية مرتبطة في الفكر اليوناني بتأويل النص الديني، وارتبطت بفلسفة اللغة وعلوم اللسان، وعُرفت بالهرمينوطيقا، والتي نلاحظها اليوم تكتسي طابعا غير الذي نشأت فيه أول مرة، وتكتسح من جهة أخرى أغلب الدراسات اللغوية واللسانية. كما أنها ترعرعت ضمن الفضاء الكنسي: "ومصطلح الهرمينوطيقا في الأصل مصطلح مدرسي لاهوتي، كان يدل عند نشأته الأولى على ذلك العلم أو النظام المعرفي الذي يحكم عملية تفسير الكتاب المقدس Scripture أو النصوص الدينية Exegesis التي قد تتطلب فهما وتفسيرا بسب غموض معناها الذي نشعر إزاءه بالاغتراب، على أن يصبح هذا المعنى مقبولا ومنسجما مع العقائد الإيمانية".
لم يبق الوسيط مجرد خرافة أو حدث أنتجه المخيال الأسطوري، بل تحول الوسيط في الفكر الديني -أو ما يسميه إدموند بيرنال "عصر الإيمان"- إلى معتقد يتطلب وجوب الإيمان به، فالنبي أو الرسول في الديانات الشرعية هو الوسيط بين الله والعباد، ويكتسب الرسول والنبي قدرة خلاقة على تبليغ الوحي (كلام الله) أولا، ثم قدرة فائقة على شرحه وتبسيطه للخلق.
فالله قسم الحكمة إلى ثلاثة أنواع:
1 ـ حكمة اليقين: أهل العقل .
2 ـ حكمة حق اليقين: أهل العرفان .
3 ـ حكمة عين اليقين: أهل الرسالات.
فمقام النبوّة والرسالة يُمثل عين اليقين، لأن الوسيط مُصطفى من قبل الله، والله لا يصطفي من خلقه إلا من هو أحق بذلك التكليف والتشريف معا، كما أن شرح كلام الله من قبل النبي إنما هو شرح باللسان فقط، أما المعنى فهو من الله، وبالتالي لا مجال للاجتهاد.
ممارسة فهم النص القرآني تقتضي التمييز بين التفسير والتأويل، لأن الأحكام والحدود تُستنبط من خلال حركة التفسير لا حركة التأويل. |
أما أهل اليقين فهم أهل العقل والبرهان، فهموا النص من خلال حركة العقل والتجربة، وقاسوا الأشياء بنظائرها، والوقائع بتواريخها، وحاولوا أن يقيدوا النّص بالكلام وبنية الخطاب، وذلك هو التفسير. ومن هذا التقسيم يتضح أن النص يخضع من حيث فهمه إلى ثلاث مستويات رئيسة، مستوى يفرض التسليم بالشرح المقدم له باعتبار أن الشارح مُلهم من قبل الله "النبي أو الرسول"، ومستوى نقبله قبول الإبداع باعتباره حالة وجد وخبرة فردية، ومستوى نحمله محمل الاجتهاد.
ومن خلال هذا المستويات الثلاثة، يصبح كل إنسان يحمل صفة هرمس ما دام ينخرط في حركة فهم النص "الوحي". نؤمن نحن المسلمين أن القرآن هو المصدر الأول للمعرفة والتشريع، وهو السهل الممتنع، المجمل والمفصل، الأخير والأول، الظني والقطعي، المتشابه والمتفرد، فهو يمتلك مكانة كبرى في ضمير كل مسلم، تجعل طلبة اليقين يتجهون إلى فهمه ومعرفة أسراره، والاطلاع على مقاصده، ولم يتأت ذلك في الفكر الإسلامي إلا من خلال جهود المفسر والمؤول معا. إلا أن ممارسة فهم النص تقتضي التمييز بين التفسير والتأويل، لأن الأحكام والحدود تُستنبط من خلال حركة التفسير لا حركة التأويل، وكيلا يقع الزيغ والانحراف أرشدنا علماء الدين في القرن الرابع الهجري بالخصوص إلى ضرورة التّفرقة بين التفسير كعلم وبين التأويل كتجربة.
ذلك أن التأويل هو مجرد ترجيح لميل من الميولات بينما التفسير هو الاحتكام للقرائن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق