أ.د عبد القادر بوعرفة
كل محاولة لتأثيل الفعل ضمن الحقول الدّلالية يفرض القول بأن الفعل ليس مجرد حركة جسمية، بل هو تصور يحمل دلالات وإشارات، ويحمل أيضا رؤى وتصورات، قد تبدو لكثير من النّاس بسيطة وسطحية وعادية، غير أن تحليل الفعل يقودنا إلى تمثل عدة أفكار فلسفية، ويجب أن نمارس الحذر الإبستيمي عند دراسة الأفعال البشرية، يقول هاري فرانكفورت: "إن المعنى الذي نطلقه على أفعالنا بناءً على الحالات والأحداث التي تعتمد على ممارسة قدرات أعلى لدينا، يجب أن لا تقودنا إلا المبالغة في خصوصية ما يفعل البشر. نحن بعيدون كل البعد عن فهم كونها فريدة من نوعها سواء في تحديد سلوكياتنا أو في قصديتها."
فلسفة الفعل لا تنحصر فيما هو سببي أو مادي، بل تتعداه إلى ما هو مجازي افتراضي، فالقول فعل ناقص من حيث الصوت، ولكنه فعل كامل من حيث هو تعبير عما فوق حركة الجسد. |
تحول الأكتوس من معناه ونعته السّلبي، إلى معنى حركي يدل على معنى الفعل الذي يمضي قُدما، أو على الذي يمارس نشاطه بإحكام، مثلما يعمل الممثل على تأدية دوره على خشبة المسرح. وقد نستنتج ذلك من مقولة أرسطو عندما وصف الإله بالمحرك الذي لا يتحرك، فهو فعّال لما يريد، وفي فعله المطلق تحدُث الأشياء كما يريدها على الصيغة التي يريدها، غير أنه في اعتقاد أرسطو لا يتحرك، لأنه لو جاز عليه فعل التّحرك لجاز عليه فعل التغيّر، ولأصبح هو ذاته موضوع الفعل، فيفقد بذلك صفة الربوبية.
ويحمل مصطلح الأكتوس أيضا معنى "Agere يساوي Agō" الذي يدل على معنى النشاط الدؤوب، سواء من حيث دفع الفاعل إلى فعل الشيء، أو قيام الذّات بفعل الشيء من تلقاء نفسها. ننظر للفعل الإنساني غالبا على أنه هو الفعل الإرادي بالذّات والصفات، والذي يُحققه الكائن الحر العاقل، ويصبح بذلك الفعل فعلا عَيْنِيا وخُلقيا، فهو عَيني لأنه يظهر معنى وجودي لكينونة الإنسان من حيث هو فاعل، ويدل الفعل على أنه موجود وجود تعيّن في الوجود المُعيّن الذي يرمز له بهناك، ويصبح الفاعل (الإنسان) هو الذي يرمز له بهنا (أنا)، ومن خلال المقابلة بين الهنا والهناك تتبلور علاقة تشاركية بين الفاعل وموضوع الفعل الذي هو الوجود من حيث هو موجود على ما هو وبما هو عليه.
يصبح الفعل من حيث الحمولة الوجودية موضوعا للفلسفة من حيث الفاعل المُتمثل لإشارة الهنا والفاعل المُوصوف بالهناك، وبين الواجد والواجب، وبين الرجاء واليأس، وبين الفناء والبقاء، وبين الموت والحياة، وبين الشقاء والسعادة، وبين الإرادة والرغبة، وبين المصير والقدر.. عندئذ يصبح الفعل الوجودي فعلا يحمل بعدا فلسفيا، يحتاج من فاعله اعترافا أنطولوجيا بصميميته، ومن المفعول به اعترافا بحدوثه.. ولا نقصد بالمفعول به كائنا ما، بل هو كل من يقع عليه الفعل الوجودي، فصخرة زيزيف اعترفت من حيث المجاز السردي بتمرد زيزيف، وأطلال امرؤ القيس اعترفت مجازا بوقوفه باكيا أو شاكيا. وعلى هذا الأساس تصبح فلسفة الفعل لا تنحصر فيما هو سببي أو مادي، بل تتعداه إلى ما هو مجازي افتراضي، فالقول فعل ناقص من حيث هو حركة اللسان فقط أي الصوت، ولكنه فعل كامل من حيث هو تعبير عما فوق حركة الجسد.
ميز قديما أرسطو بين الفعل الإرادي، والفعل الإكراهي، منطلقا أن أساس الفعل هو الحركة، فالفاعل محرك من حيث هو يتحرك، لأن علة وجوده في تحريك الأنا وتحريك الأشياء، ولقد وضع لحركة الفعل مجالا، فلكل فعل من حيث هو حركة نقطة إفراط وأخرى نقطة تفريط، وعليه يصبح الفعل السّوي هو الذي يتوسط النقطتين، فالمتجول أو الماشي يكون فعله فعلا واعيا إذا كان فعل حركة المشي معتدلا، فالمشي يصبح عندئذ متعةً ولذةً لكون الفاعل هو من يتحكم فيه أصلا، ولكن إذا تحول فعل الحركة إلى مشي بدون قصد سينتهي إلى الألم، أما إذا قل أدى إلى الخمول، وهذا يعني خلل في الإرادة، ويصبح المشي عندئذ شقاءً.
يرفض أرسطو تسمية الفعل بالإرادي عندما يحصل تحت الضغط، أو في حالة الجهل. ويعطي أرسطو مثالا، فرمي حمولة السفينة في البحر بسبب العاصفة لا يعتبر فعلا إراديا، حيث يرى أن في المطلق لا أحد يتخلص من ملكه بإرادته. ولكن عندما يكون المقصود نجاته شخصيا ونجاة رفاقه، فإن هذه الأفعال تصبح مركبا من الأفعال الإرادية واللاإرادية، فهي تشبه الأفعال الإرادية لأن من يفعلها اختارها بحرية في اللّحظة التي أتمها بها. ذلك أن غاية الفعل تتغير مع تغير ظروف الزّمن، ولذا يقترح أرسطو في حالة وصف فعل ما باللّإرادي أو بالإرادي أن نعود إلى دراسة اللّحظة التي تم فيها هذا الفعل أصلا. كل فعل إرادي يجب أن يكون فعلا واعيا من حيث هو قائم، فالإنسان الذي يفعل، يعترف ضمنيا بأنه هو الفاعل، ولا يمكن أن يعترف بذلك إلا إذا كان مستطيعا، ولا يكتمل الفعل الإرادي إلا إذا كان الإنسان مقتدرا على الفعل.
لا تكفي الإرادة في تصميم الفعل الإنساني الكامل، بل يجب أن يكون الفعل مقترنا بالذات لحظة اختيار قرار الفعل، فالذات التي لا تستطيع الاختيار بين متقابلين على حد السواء إما بالترك أو بالتنفيذ، لا تعد ذات فاعلة، وذلك من مقتضيات فعل العزم في القرآن الكريم، فآدم لم يكن له عزم في اتخاذ قرار الأكل من عدمه، لأن لحظتها كان فعله تحت إكراه الغواية.
تكمن مشكلة الفعل في التّباين الحاصل في تفسير ما تقوم به الأنا وبين ما يُحدثها وما يحدث لها، وبين الحركات الجسدية التي تحدث دون إرادتها، فوفقا للنظريات السببية، فإن طبيعة الفعل دائما تمثل أوسع المقاربات من أجل فهم هذا التباين، فإن الفرق الجوهري بين الحدث من هذين النوعين هي التي يمكن إيجادها في تاريخ ما قبل العلية: حركة جسدي هي فعل، وهذا الفعل ينتج من عدة سوابق من نوع معين، وإصدارات مختلفة من المقاربات السببية قد تنتج أنواعا من الأحداث أو الحالات والتي يجب أن تكون سببا في إنتاج الفعل.
بيد أن الفعل هو الذي يتمثله الإنسان في لحظة وعي وقصد، ويعبر عنه بمفردات توضيحية: أنا أفعل الشيء لأني أريده، أرغب فيه... وتعكس هذه الصيغة القولية العلاقة الموجودة بين الحالات العقلية والأحداث والأفعال. وهذا الربط ينفر من النظرة التقليدية التي تربط الأفعال بالعلية أو السّببية أو بالقواعد العامة، بل هي تربطها بالقصد والوعي من حيث نية القيام بالفعل، وتربطها أيضا بقرار من العقل لفعل الشيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق