جدلية الشرق والغرب
3/11/2016
نعتقد بأن التّحاور والتّجاور بين الشّرق والغرب لن يكون سهلا ولا ممكنا في الأفق القريب، فعوائق التحاور والتجاور كثيرة، ومن ناحية أخرى لم نؤسس لها وفق القاعدة القرآنية "وتعارفوا" إن التعارف هو الذي ينبغي أن نستبدله بمقولات الصراع والتصادم، فالتعارف يؤدي إلى التآلف، والتآلف يؤدي حتما للتقارب ومن ثمة يصبح التجاور ممكنا بين الأمم والحضارات.
الشرق والغرب مقولتان لا يمكن أن تنصهر معا ضمن فضاء تناغمي تناسقي كامل، لأن انصهارهما معا يعنى نهاية التاريخ بالمفهوم الهيجلي، والغرب لا يريد إلا أن يكون وحيد عصره مجسدا لمقولة فوكو ياما خاتم البشر، وعليه لا يسمح باللعبة المزدوجة.
ومما سبق، يمكن فهماها كآليتين ضروريتين لتحريك عجلة التاريخ. وكل محاولة لوصل المفهومين ينجر عنه جملة من الثنائيات التي يمكن أن نضعها من خلال المفارقات السابقة ضمن المستحيلات، ففي لحظات الوعي المتقدم يكون الشرقي بالنسبة للغرب الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية، والغربي في نظر الشرقي يمثل الأخر المادي المستقل عن أناه الروحاني.
لأجل ذلك تم وضع العلاقة بين الشرق والغرب ضمن حلقة معقدة من الثنائيات الفكرية، يضع كل منها الأخر في مقابل الأنا على طرفي النقيض. فالشرقي متخلف ووحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، والغربي مادي شيطاني أمام الشرقي الروحاني الملائكي، والشرقي الجاهل الفقير كنظير للغربي المتعلم الثري، ثم الغربي القاسي الأناني الفرداني في مقابل الشرقي الإنساني الاجتماعي، كما نرى الشرقي المُلون الضعيف مقابل الغربي الأبيض القوي. وتزداد المماثلة حيث يُصوّرُ الشرقي الطيب أمام الغربي الخبيث الماكر المستنزف للخيرات تحت شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وتلك المرجعيات جعلت الغرب المؤسسة يقف موقفاً حذرا ومتشدداً وانتقامياً ثيموسيا تجاه بعض دول الشرق التي رفضت الدخول تحت النير الغربي، ولذلك حاولت تلك الدول الشرقية المارقة بالتعبير الغربي أن تمتلك أسباب القوة والندية من خلال الاستفادة من التجربة الغربية خاصة في مجالات، اللغة، الاقتصاد، المعلومة، مجتمع المعرفة، والتكنولوجيا النووية مثل ما هو الحال بالنسبة لإيران.
إن الثنائيات السابقة لعبت دوراً مزدوجاً وخطيراً في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب، وتشويه صورة الغرب والغربيين في أعين أبناء الشرق.
والدليل الذي يؤكد أسباب تصدع العلاقة بين الغرب والشرق هو الذي نستخرجه من دراسة إميليو غاليندر؛ الذي يرى بأن أول ما يتعين على الغربيين فعله كي يفهموا الإسلام هو تأهيل أنفسهم لكي يكونوا قادرين على تحقيق مثل هذا الفهم.
وقد اكتشف غاليندر أن الغالبية الكبرى من قساوسة ورهبان الكنيسة الكاثوليكية يجهلون الإسلام تماماً. وقد أفادت نتائج استقصاء للرأي أجراه المركز الذي يديره أن 53 بالمئة من رجال الدين لم يقرأوا في حياتهم أي دراسة عن الإسلام ولم يتصفحوا أي ترجمة عن القرآن. كما أن نسبة الذين قرأوا القرآن المترجم لم تتجاوز 5 بالمئة.
وللخروج من دائرة معوقات الحوار والتواصل دعا القس غاليندر رجال الكنيسة والعاملين على وسائل الإعلام الإكثار من قراءة القرآن الكريم والتراث الإسلامي الكبير، ودراسته قبل إصدار آراء عن الإسلام والمسلمين مشوهة وغير موضوعية.
وفي المقابل نقول أن 60 بالمئة من فقهائنا وعلمائنا لا يعلمون شيئا عن حقيقة الغرب ولا المسيحية بعيدا عن خطابهم التقليدي المتجدد الكفار كما أنهم لا يقرؤون الأناجيل اعتقادا منهم أن محرفة وضالة، وأن النبي حرم ذلك من خلال حادثة عمر بن الخطاب.
ومثلما بيّن الأب غاليندر أن الجهل وعدم القراءة هو الذي جعل الغرب يشوه صورة الإسلام والمسلمين، كذلك الأمر بالنسبة للمسلمين ، فهم يشوهون صورة الغرب لأسباب ذاتها.
لقد استطاع محمد أركون في مقدمة الكتاب الموسوعي "L’histoire de l’islam et des Musulmans" التنبيه إلى ذلك الهاجس الذي يتملكنا "هذه هي أول مرة نقدم فيها للجمهور الفرنسي صورة شاملة عن وجود الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. والهدف هو تبديد الجهل المتبادل بين العالم الإسلامي وفرنسا وكذلك الكره المتبادل الناتج عن صراعات التاريخ الممتدة منذ الفتح العربي الذي اكتسح أسبانيا، بل ووصل إلى جنوب فرنسا، حيث جرت معركة بواتييه عام 732م مروراً بالحروب الصليبية وانتهاء بالفتوحات الاستعمارية لبلدان المغرب والمشرق على حد سواء وصولاً إلى اليوم والصدام الجاري حالياً بين المتشددين من كلا الطرفين. كل ذلك أدى إلى تشويه صورة الآخر وتشكيل صورة شيطانية عن الغرب في العالم الإسلامي، وعن الإسلام والمسلمين في العالم الغربي."
ولذا قد نشكل من خلال الدعوتين قواعد للتحاور تؤدي في النهاية إلى تجاور إيجابي وإنساني ، مثلما فهمها أسلافنا القدامى. ويكفي مثالا على ذلك أن ياقوت الحموي نحت مصطلح أمم الجوار، وتحدث عن واجبات التجاور الحضاري وكيفية تسديد عملية التواصل. فلما لا ندعو اليوم لتلك القيم السامية التي دعا إليها السلف؟ ولما لا نكون في المهجر سفراء الشرق والإسلام مثلما كان أحمد بن فضلان؟ ولما لا نؤسس للحوار والتجاور مثلما يفعل اليوم طارق رمضان؟ ولما لا نتحاور مع رجال من الغرب كالأمير تشارلز الذي أكد في كثير من المرات ضرورة التحرر من الماضي لبناء جوار حضاري: لم يعد في وسع العالمين الإسلامي والغربي أن يسمحا للانقسام أن يمنعهما من بذل جهد مشترك لحل مشاكلهما المشتركة.
ولا يسعنا أن نبعث من جديد مجابهات الماضي من إقليمية وسياسية، علينا أن نطلع بعضنا البعض على تجاربنا ونشرح مواقفنا لبعضنا البعض ونتفاهم ونتسامح ونبنى على أساس المبادئ الإيجابية التي تشترك فيها ثقافتنا. ولابد أن تكون هذه المشاركة في اتجاهين ويحتاج كل منا أن يفهم أهمية المصالحة والتدبير، وأن نفتح عقولنا وقلوبنا لبعضنا البعض إنني على قناعة تامة بأن العالمين الإسلامي والغربي يمكن أن يتعلما الكثير من بعضهما البعض فكما أن مهندس النفط في الخليج يمكن أن يكون أوروبيا، فإن جراح زراعة القلب في بريطانيا يمكن أن يكون مصريا. وإذا كانت هذه الحاجة إلى التسامح والتبادل تصح على المستوى الدولي، فإنها تنطبق وبقوة خاصة، داخل بريطانيا نفسها. فبريطانيا مجتمع متعدد الأجناس والثقافات.
وعليه يصبح الحديث عن فرص التحاور من أجل ترسيم أسس التجاور مجرد نزوع إيطوبي، تمليه التصورات السحرية والدعوات الحالمة من الطرفين. لكن بالرغم من ذلك نلاحظ أن الغرب هو الأكثر قبولا للآخر الشرقي في بلاده، ولا يجد حرجا في معاملته كمواطن له كل الحقوق التي يمتلكها نظيره الغربي. والعكس أن المسلم والعربي يتحفظ في قبول الآخر.
إن مستقبل العلاقة بين الغرب والإسلام لا يمكن أن تستقيم إلا من خلال رفع المعوقات عن طريق معرفة الغرب للشرق من دون استشراق، ومعرفة الشرق للغرب من دون استغراب. ولعل ظاهرة التنافر لا تنحل إلا من خلال التسلح بالنزعة الإنسانية المفتوحة التي أطلقها محي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق.
الشرق والغرب مقولتان لا يمكن أن تنصهر معا ضمن فضاء تناغمي تناسقي كامل، لأن انصهارهما معا يعنى نهاية التاريخ بالمفهوم الهيجلي، والغرب لا يريد إلا أن يكون وحيد عصره مجسدا لمقولة فوكو ياما خاتم البشر، وعليه لا يسمح باللعبة المزدوجة.
ومما سبق، يمكن فهماها كآليتين ضروريتين لتحريك عجلة التاريخ. وكل محاولة لوصل المفهومين ينجر عنه جملة من الثنائيات التي يمكن أن نضعها من خلال المفارقات السابقة ضمن المستحيلات، ففي لحظات الوعي المتقدم يكون الشرقي بالنسبة للغرب الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية، والغربي في نظر الشرقي يمثل الأخر المادي المستقل عن أناه الروحاني.
مثلما بيّن الأب غاليندر أن الجهل وعدم القراءة هو الذي جعل الغرب يشوه صورة الإسلام والمسلمين، كذلك الأمر بالنسبة للمسلمين ، فهم يشوهون صورة الغرب لأسباب ذاتها. |
وتلك المرجعيات جعلت الغرب المؤسسة يقف موقفاً حذرا ومتشدداً وانتقامياً ثيموسيا تجاه بعض دول الشرق التي رفضت الدخول تحت النير الغربي، ولذلك حاولت تلك الدول الشرقية المارقة بالتعبير الغربي أن تمتلك أسباب القوة والندية من خلال الاستفادة من التجربة الغربية خاصة في مجالات، اللغة، الاقتصاد، المعلومة، مجتمع المعرفة، والتكنولوجيا النووية مثل ما هو الحال بالنسبة لإيران.
إن الثنائيات السابقة لعبت دوراً مزدوجاً وخطيراً في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب، وتشويه صورة الغرب والغربيين في أعين أبناء الشرق.
والدليل الذي يؤكد أسباب تصدع العلاقة بين الغرب والشرق هو الذي نستخرجه من دراسة إميليو غاليندر؛ الذي يرى بأن أول ما يتعين على الغربيين فعله كي يفهموا الإسلام هو تأهيل أنفسهم لكي يكونوا قادرين على تحقيق مثل هذا الفهم.
وقد اكتشف غاليندر أن الغالبية الكبرى من قساوسة ورهبان الكنيسة الكاثوليكية يجهلون الإسلام تماماً. وقد أفادت نتائج استقصاء للرأي أجراه المركز الذي يديره أن 53 بالمئة من رجال الدين لم يقرأوا في حياتهم أي دراسة عن الإسلام ولم يتصفحوا أي ترجمة عن القرآن. كما أن نسبة الذين قرأوا القرآن المترجم لم تتجاوز 5 بالمئة.
وللخروج من دائرة معوقات الحوار والتواصل دعا القس غاليندر رجال الكنيسة والعاملين على وسائل الإعلام الإكثار من قراءة القرآن الكريم والتراث الإسلامي الكبير، ودراسته قبل إصدار آراء عن الإسلام والمسلمين مشوهة وغير موضوعية.
وفي المقابل نقول أن 60 بالمئة من فقهائنا وعلمائنا لا يعلمون شيئا عن حقيقة الغرب ولا المسيحية بعيدا عن خطابهم التقليدي المتجدد الكفار كما أنهم لا يقرؤون الأناجيل اعتقادا منهم أن محرفة وضالة، وأن النبي حرم ذلك من خلال حادثة عمر بن الخطاب.
ومثلما بيّن الأب غاليندر أن الجهل وعدم القراءة هو الذي جعل الغرب يشوه صورة الإسلام والمسلمين، كذلك الأمر بالنسبة للمسلمين ، فهم يشوهون صورة الغرب لأسباب ذاتها.
لقد استطاع محمد أركون في مقدمة الكتاب الموسوعي "L’histoire de l’islam et des Musulmans" التنبيه إلى ذلك الهاجس الذي يتملكنا "هذه هي أول مرة نقدم فيها للجمهور الفرنسي صورة شاملة عن وجود الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. والهدف هو تبديد الجهل المتبادل بين العالم الإسلامي وفرنسا وكذلك الكره المتبادل الناتج عن صراعات التاريخ الممتدة منذ الفتح العربي الذي اكتسح أسبانيا، بل ووصل إلى جنوب فرنسا، حيث جرت معركة بواتييه عام 732م مروراً بالحروب الصليبية وانتهاء بالفتوحات الاستعمارية لبلدان المغرب والمشرق على حد سواء وصولاً إلى اليوم والصدام الجاري حالياً بين المتشددين من كلا الطرفين. كل ذلك أدى إلى تشويه صورة الآخر وتشكيل صورة شيطانية عن الغرب في العالم الإسلامي، وعن الإسلام والمسلمين في العالم الغربي."
إن مستقبل العلاقة بين الغرب والإسلام لا يمكن أن تستقيم إلا من خلال رفع المعوقات عن طريق معرفة الغرب للشرق من دون استشراق، ومعرفة الشرق للغرب من دون استغراب. |
ولا يسعنا أن نبعث من جديد مجابهات الماضي من إقليمية وسياسية، علينا أن نطلع بعضنا البعض على تجاربنا ونشرح مواقفنا لبعضنا البعض ونتفاهم ونتسامح ونبنى على أساس المبادئ الإيجابية التي تشترك فيها ثقافتنا. ولابد أن تكون هذه المشاركة في اتجاهين ويحتاج كل منا أن يفهم أهمية المصالحة والتدبير، وأن نفتح عقولنا وقلوبنا لبعضنا البعض إنني على قناعة تامة بأن العالمين الإسلامي والغربي يمكن أن يتعلما الكثير من بعضهما البعض فكما أن مهندس النفط في الخليج يمكن أن يكون أوروبيا، فإن جراح زراعة القلب في بريطانيا يمكن أن يكون مصريا. وإذا كانت هذه الحاجة إلى التسامح والتبادل تصح على المستوى الدولي، فإنها تنطبق وبقوة خاصة، داخل بريطانيا نفسها. فبريطانيا مجتمع متعدد الأجناس والثقافات.
وعليه يصبح الحديث عن فرص التحاور من أجل ترسيم أسس التجاور مجرد نزوع إيطوبي، تمليه التصورات السحرية والدعوات الحالمة من الطرفين. لكن بالرغم من ذلك نلاحظ أن الغرب هو الأكثر قبولا للآخر الشرقي في بلاده، ولا يجد حرجا في معاملته كمواطن له كل الحقوق التي يمتلكها نظيره الغربي. والعكس أن المسلم والعربي يتحفظ في قبول الآخر.
إن مستقبل العلاقة بين الغرب والإسلام لا يمكن أن تستقيم إلا من خلال رفع المعوقات عن طريق معرفة الغرب للشرق من دون استشراق، ومعرفة الشرق للغرب من دون استغراب. ولعل ظاهرة التنافر لا تنحل إلا من خلال التسلح بالنزعة الإنسانية المفتوحة التي أطلقها محي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق