أ.د عبد القادر بوعرفة
نقر بأن أصعب الإشكاليات التي تصادفنا عند تناول المسألة الفنية هي جدلية الشكل والمحتوى، فالعمل الفني من حيث هو أثر عيني -بغض النّظر عن الصورة التي يتمظهر فيها- يحمل بعدين، الأول نسميه الشّكل والثاني المحتوى.
تذهب النّزعة العامة في الفن إلى اعتبار الشّكل هو العمل الفني، ولا يهم المحتوى والمضمون، فلكل إنسان الحق في تمثل الأثر الفني وفق ما يريد ويشعر ويهدف، ولذا يصبح الشّكل هو معيار جمالية الشّيء.
نعتبر الشّكل هو الغالب والظاهر في العملية الفنية عن المحتوى عند أول ممارسة ذوقية للإنسان، لأن الشّكل يرتبط بالإحساس والواقع، فالشكل له قوة كبيرة في تحديد طبيعة العمل الفني، فقصيدة شعرية تُغنى وفق الطريقة البدوية التّقليدية لا يكون لها الأثر نفسه لو غُنيت وفق الطريقة العصرية، فالشكل له دور كبير في تحديد هُوية العمل الفني.
عندما نتأمل مثال الرسم بالخطوط الهندسية، نلاحظ مدى أهميه الشكل في توضيح العملية التعبيرية، فالشكل له علاقة مباشرة مع قوى النفس البشرية، وعملية إدراك المعنى والفكرة غالبا ما تعتمد على الشكل أولا " وليس من السهل رد جمال الشكل إلى جمال العناصر التي يتألف منها لأن من أشهر التجارب وأسهلها تلك التجربة التي تبين لنا كيف أن أبسط الخطوط يختلف تأثيرها في النفس باختلاف النسب بينها. ولو كان جمال الشّكل مرده جمال العناصر التي تكون منها لكان العامة محقين في اعتقادهم أن جميع المنازل المبنية من الرخام متكافئة في جمالها."
غير أننا نعتقد أن العمل الفني لا يجب أن يقف عند الشكل، فالإنسان ليس مجرد حيوان فحسب، بل هو فوق ذلك عاقل وشاعر ومسؤول، مما يجعلنا نقر أن المحتوى هو جوهر العمل الفني من حيث كون الفن رسالة مفتوحة وليس مجرد عرض عيني أُنْتج في لحظة تاريخية ما.
ينطلق أنصار الشكل من ظاهرة الجسد، فالجسد يُعبر عن الأنا تعبيرا دقيقا وفق لغة الشكل، كشكل الفم أو العين لحظة موقف ما، فالشكل يحدد ملامح النفس لأن التعبير الفزيولوجي لا يتحكم الإنسان فيه، يل يعود إلا الجسد الذي يعبر عنه من خلال التعابير الظاهرة على الوجه أو اليدين أو الصوت والنظرات. قال الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى في هذا المضمار: والود لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان.
مارس موريس ميرلو بونتي لعبة الجسد والكوجيتو، فهو يعتبر أن الجسد لغة أكثر صدقا من اللغة العادية، فهو لغز جميل، يحاول الفنان أن يستثمره كعمل فني ليظهر الأنا والجانب الآخر منها من خلال إيحاءات الشكل والمظهر: " واللغز ينحصر في أن جسمي هو في الوقت ذاته راء ومرئي.
إن هذا الجسم الذي ينظر إلى الأشياء كلها، يمكنه أيضا أن ينظر إلى نفسه، وأن يتعرف فيما يرى عندئذ على "الجانب الآخر" من قدرته الرّائية. إنه يرى نفسه رائيا، ويلمس نفسه لامسا، فهو مرئي ومحسوس بالنسبة إلى نفسه."
ومن خلال ما سبق، أعتقد شخصيا أن أروع الأعمال الفنية تلك التي استخدمت الشكل والأشياء اللاّملفوظة للتعبير عن القضايا أكثر عمقا والتصاقا بالإنسان "إن الفن ليس تشيدا أو اصطناعا أو علاقة بارعة مع مكان ومع مكان من الخارج. إنه حقيقة "الصرخة اللاّملفوظة".
لقد سبق المسلمون كثيرا من الفلاسفة حين ربطوا العمل الفني بثلاثية متكاملة، أولها الفكرة الخالصة التي تنبثق من الإدراك الخالص لماهية الموجودات، وثانيها المادة التي تشع من فيض الفكرة (الخشب، المعدن، الرخام، الصوت، الجسد...)، وثالثها الحدس الذي ينقل الذّات من الشّكل الفيزيقي إلى الباطن أو الدّاخل، فيجعل الذّات تتأمل الذّات والموضوع معا تأملا باطنيا.
لقد أصبح الإنسان المعاصر لا يُولي الشكل اهتماما بليغا، بل يحاول التقاط المحتوي مباشرة يقول لوفافر:" إن عصرنا، وهو عصر إلتقاطه مباشرة للمحتوى، وتعبير مباشر عنه، يستبعد ما هو ملتبس ذو مَعنيين، واليّوم ليس الأمر متعلقا بإبهام يُفسَّر على وجهين، أو بتضاد مُخصِب وإنما بتضاد لا حل له، تضاد مهدِّم يعمل في ضمير الفنان."
إن هذا التوجه نحو المضمون والمحتوى هو وليد الفلسفة المثالية التي تحاول قدر الإمكان جعل الإنسان كائن متعالي عن غيره، فالعمل الفني لو ربط بالشكل فقط يصبح لا معنى له، يوضح هيجل تلك الفكرة في قوله: "الشّجرة كلها محتواه في البلوطة حسب مثاليتها، عندما تنمو البلوطة لتصبح شجرة نرى أمامنا واقع البلوطة، والبلوطة، بكونها جرثومة هي المفهوم والشجرة هي الواقع. كل مفهوم للشجرة ممثل بما يكون جرثومها، فالشجرة ليست سوى تفسير للمفهوم، سوى هوية المفهوم والواقع."
تجعلنا جدلية الجرثومة والبذرة والشّجرة ندرك تماما أن العمل الفني عمل مركب، وبما أنه كذلك نحتاج لفهمه حركة جدلية أصلا نصل من خلالها إلى إدراك المحتوى بعيدا عن أعراض وتجليات الموضوع: " لكي نفهم الفن، علينا إلقاء نظرة على المحتوى الكلي لوعينا، فنحن نجد في الدّرجة الأولى النظام الشّاسع الذي يتألف من الحاجات المادية تلك التي تعمل صناعات عدة على كفايتها، تضاف إليها التجارة والملاحة، والفنون التقنيّة، وفوق هذا يقوم عالم القوانين الحقوقية، وحياة الأسرة، والطبقات الاجتماعية، وعالم الدّولة الإضافي كله..
وفي النهاية نجد نشاط العلم وفعاليته ذات الفروع المتعددة والمتقاطعة وفي داخل هذه المدارات تُمارس أيضا الفعالية الجمالية "Entrecroisés Aesthetik"."
يعـتبر الفن هو الحياة في ذاتها، فالعيش لا يستقيم لنا إلا بتلك المسوح الجمالية التي يُضفيها البشر على ما يبدعونه من أثار فنية تدل على وجودهم، لأن الفن هو توقيع شهادة الحّياة والوجود، أو بصمة تاريخية يحاول من خلالها السّلف إثبات وجودهم للخلف. ويمكن في هذا المقام أن نستأنس بما قاله زكريا إبراهيم" وليس أدل على القيّمة الحضارية للفن ما نلاحظه في كافة المجتمعات من أن الفن هو بماثبة بلورة لكل نشاط المجتمع، وتركيز لطبيعة الحياة البشرية، وسجل صادق لوجدان النّاس ووعيهم بصفة عامة. وأن مجتمعا قويا باستعداداته الحربية أو إمكاناته الاقتصادية، ولكنه مفتقر إلى النّشاط الفني، لهو مجتمع ضعيف بالقياس إلى أدنى قبيلة بدائية تضم بين جنبيها مصورين، وراقصين، ونحاتي أصنام."
اعتبر الشيخ عبد الحميد ابن باديس الفن أحد مقومات الدين الإسلامي ومقاصده، فالإسلام حسب نظرته يقوم على:" الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة وإيمان وجمال، والعلم يُمثل القوة والفن يمثل الجمال."
ويبدو من خلال مقولة عبد الحميد بن باديس بأن الرجل يؤمن كون الفن هو كل ما يُمثل الحيّ الجميل (الله) والجميل الحي (الإنسان)، فربط الفن بالحيّاة هو في ذاته ربط جميل وجليل، فلا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بما يُفرزه الفن من جماليات وجلاليات تنساب في الحياة كنسمات الربيع وهي تداعب أديم الأرض بعد أن أثقله صقيع وزمهرير الشّتاء.
تذهب النّزعة العامة في الفن إلى اعتبار الشّكل هو العمل الفني، ولا يهم المحتوى والمضمون، فلكل إنسان الحق في تمثل الأثر الفني وفق ما يريد ويشعر ويهدف، ولذا يصبح الشّكل هو معيار جمالية الشّيء.
نعتبر الشّكل هو الغالب والظاهر في العملية الفنية عن المحتوى عند أول ممارسة ذوقية للإنسان، لأن الشّكل يرتبط بالإحساس والواقع، فالشكل له قوة كبيرة في تحديد طبيعة العمل الفني، فقصيدة شعرية تُغنى وفق الطريقة البدوية التّقليدية لا يكون لها الأثر نفسه لو غُنيت وفق الطريقة العصرية، فالشكل له دور كبير في تحديد هُوية العمل الفني.
عندما نتأمل مثال الرسم بالخطوط الهندسية، نلاحظ مدى أهميه الشكل في توضيح العملية التعبيرية، فالشكل له علاقة مباشرة مع قوى النفس البشرية، وعملية إدراك المعنى والفكرة غالبا ما تعتمد على الشكل أولا " وليس من السهل رد جمال الشكل إلى جمال العناصر التي يتألف منها لأن من أشهر التجارب وأسهلها تلك التجربة التي تبين لنا كيف أن أبسط الخطوط يختلف تأثيرها في النفس باختلاف النسب بينها. ولو كان جمال الشّكل مرده جمال العناصر التي تكون منها لكان العامة محقين في اعتقادهم أن جميع المنازل المبنية من الرخام متكافئة في جمالها."
غير أننا نعتقد أن العمل الفني لا يجب أن يقف عند الشكل، فالإنسان ليس مجرد حيوان فحسب، بل هو فوق ذلك عاقل وشاعر ومسؤول، مما يجعلنا نقر أن المحتوى هو جوهر العمل الفني من حيث كون الفن رسالة مفتوحة وليس مجرد عرض عيني أُنْتج في لحظة تاريخية ما.
ينطلق أنصار الشكل من ظاهرة الجسد، فالجسد يُعبر عن الأنا تعبيرا دقيقا وفق لغة الشكل، كشكل الفم أو العين لحظة موقف ما، فالشكل يحدد ملامح النفس لأن التعبير الفزيولوجي لا يتحكم الإنسان فيه، يل يعود إلا الجسد الذي يعبر عنه من خلال التعابير الظاهرة على الوجه أو اليدين أو الصوت والنظرات. قال الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى في هذا المضمار: والود لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان.
مارس موريس ميرلو بونتي لعبة الجسد والكوجيتو، فهو يعتبر أن الجسد لغة أكثر صدقا من اللغة العادية، فهو لغز جميل، يحاول الفنان أن يستثمره كعمل فني ليظهر الأنا والجانب الآخر منها من خلال إيحاءات الشكل والمظهر: " واللغز ينحصر في أن جسمي هو في الوقت ذاته راء ومرئي.
إن هذا الجسم الذي ينظر إلى الأشياء كلها، يمكنه أيضا أن ينظر إلى نفسه، وأن يتعرف فيما يرى عندئذ على "الجانب الآخر" من قدرته الرّائية. إنه يرى نفسه رائيا، ويلمس نفسه لامسا، فهو مرئي ومحسوس بالنسبة إلى نفسه."
ومن خلال ما سبق، أعتقد شخصيا أن أروع الأعمال الفنية تلك التي استخدمت الشكل والأشياء اللاّملفوظة للتعبير عن القضايا أكثر عمقا والتصاقا بالإنسان "إن الفن ليس تشيدا أو اصطناعا أو علاقة بارعة مع مكان ومع مكان من الخارج. إنه حقيقة "الصرخة اللاّملفوظة".
لقد سبق المسلمون كثيرا من الفلاسفة حين ربطوا العمل الفني بثلاثية متكاملة، أولها الفكرة الخالصة التي تنبثق من الإدراك الخالص لماهية الموجودات، وثانيها المادة التي تشع من فيض الفكرة (الخشب، المعدن، الرخام، الصوت، الجسد...)، وثالثها الحدس الذي ينقل الذّات من الشّكل الفيزيقي إلى الباطن أو الدّاخل، فيجعل الذّات تتأمل الذّات والموضوع معا تأملا باطنيا.
لقد أصبح الإنسان المعاصر لا يُولي الشكل اهتماما بليغا، بل يحاول التقاط المحتوي مباشرة يقول لوفافر:" إن عصرنا، وهو عصر إلتقاطه مباشرة للمحتوى، وتعبير مباشر عنه، يستبعد ما هو ملتبس ذو مَعنيين، واليّوم ليس الأمر متعلقا بإبهام يُفسَّر على وجهين، أو بتضاد مُخصِب وإنما بتضاد لا حل له، تضاد مهدِّم يعمل في ضمير الفنان."
إن هذا التوجه نحو المضمون والمحتوى هو وليد الفلسفة المثالية التي تحاول قدر الإمكان جعل الإنسان كائن متعالي عن غيره، فالعمل الفني لو ربط بالشكل فقط يصبح لا معنى له، يوضح هيجل تلك الفكرة في قوله: "الشّجرة كلها محتواه في البلوطة حسب مثاليتها، عندما تنمو البلوطة لتصبح شجرة نرى أمامنا واقع البلوطة، والبلوطة، بكونها جرثومة هي المفهوم والشجرة هي الواقع. كل مفهوم للشجرة ممثل بما يكون جرثومها، فالشجرة ليست سوى تفسير للمفهوم، سوى هوية المفهوم والواقع."
ربط الفن بالحيّاة هو في ذاته ربط جميل وجليل، فلا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بما يُفرزه الفن من جماليات وجلاليات تنساب في الحياة كنسمات الربيع. |
وفي النهاية نجد نشاط العلم وفعاليته ذات الفروع المتعددة والمتقاطعة وفي داخل هذه المدارات تُمارس أيضا الفعالية الجمالية "Entrecroisés Aesthetik"."
يعـتبر الفن هو الحياة في ذاتها، فالعيش لا يستقيم لنا إلا بتلك المسوح الجمالية التي يُضفيها البشر على ما يبدعونه من أثار فنية تدل على وجودهم، لأن الفن هو توقيع شهادة الحّياة والوجود، أو بصمة تاريخية يحاول من خلالها السّلف إثبات وجودهم للخلف. ويمكن في هذا المقام أن نستأنس بما قاله زكريا إبراهيم" وليس أدل على القيّمة الحضارية للفن ما نلاحظه في كافة المجتمعات من أن الفن هو بماثبة بلورة لكل نشاط المجتمع، وتركيز لطبيعة الحياة البشرية، وسجل صادق لوجدان النّاس ووعيهم بصفة عامة. وأن مجتمعا قويا باستعداداته الحربية أو إمكاناته الاقتصادية، ولكنه مفتقر إلى النّشاط الفني، لهو مجتمع ضعيف بالقياس إلى أدنى قبيلة بدائية تضم بين جنبيها مصورين، وراقصين، ونحاتي أصنام."
اعتبر الشيخ عبد الحميد ابن باديس الفن أحد مقومات الدين الإسلامي ومقاصده، فالإسلام حسب نظرته يقوم على:" الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة وإيمان وجمال، والعلم يُمثل القوة والفن يمثل الجمال."
ويبدو من خلال مقولة عبد الحميد بن باديس بأن الرجل يؤمن كون الفن هو كل ما يُمثل الحيّ الجميل (الله) والجميل الحي (الإنسان)، فربط الفن بالحيّاة هو في ذاته ربط جميل وجليل، فلا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بما يُفرزه الفن من جماليات وجلاليات تنساب في الحياة كنسمات الربيع وهي تداعب أديم الأرض بعد أن أثقله صقيع وزمهرير الشّتاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق