شهد كوكب الأرض تغيرات إيكولوجية خطيرة جدا، قد تقضي على الكوكب الأزرق في غضون قرون قريبة، وفي المقابل، يتجه العالم في الوقت نفسه إلى بؤر التجاذب الحضاري، وهي تجاذبات خطيرة للغاية، قد تشكل في الأفق القريب ثقبا حضاريا خطيرا ومرعبا، يشبه ثقب الأوزون. إن الحياة مرتبطة أشدد الارتباط بالبيئة، وهذه الأخيرة أصبحت اليوم تقرع ناقوس الخطر بعد أن فقدت الغابات كثيرا من مساحتها الخضراء بفعل النهم الصناعي وأحلام تجار الموت، وأصبحت المحيطات ملوثة بكل أنواع النفايات، البشرية والنووية والصناعية، وأكبر من ذلك كله ما طرأ مؤخرا على الغلاف الجوي من تحولات رهيبة على مستوى طبقات الجو.
إن ظاهرة الانحباس الحراري برهان على طغيان العقل التقني، حيث أصبحت الأرض مهددة بالزوال كما يقول المختصون في أي لحظة. إذ يكفي أن تتبخر جبال الجليد القطبية ليغمر الماء كثير من أجزاء القارات، ويكفي أن تختل الأحوال الجوية فيفقد الشمال الأمطار والثلوج ويعود التصحر كما كان في العصور الأولى الجليدية، كما تفقد الدول الاستوائية مناخها، فتشقق الأرض عطشا وتتصحر مساحتها الخضراء. وعلى الأرجح أن الانحباس الحراري سيجعل الأمطار الطوفانية تجتاح كثير من مناطق العالم، ونعود إلى نقطة الصفر تماما كما حدث لنوح مع قومه.
وإذا كان الاحتباس الحراري يؤرق العلماء بالخصوص، فإن الاحتباس الحضاري سيكون خطره أكثر من الانحباس، لأن الاحتباس الحضاري يخضع لأهواء البشر ومصالحهم أكثر ما يخضع للطبيعة. ويبدو أن الاحتباس الحضاري بدأت تباشيره تتجلى من خلال الصراعات العالمية، والتي ستهدد الجميع دون استثناء، فالعولمة والأمركة وكل المصطلحات التي تظهر باستمرار تعكس أنانية السّاسة وصناع القرار، ولن تكون النهاية إلا الخراب والدمار، ونهاية حلم تعمير الأرض، وهو إعلان أن الأمانة التي حملها الإنسان منذ الخلق قد ضيعها لحظة انغماسه في شهوة الثيموس، ويكون بذلك الإنسان قد أعطى لنفسه صفة الظالم الجهول.
العولمة من منظور فلسفة التاريخ هي فكرة تغيّيب العقل والوعي، وتجعل غاية التاريخ مرتبطة بتحقيق شهوة عقيمة يمليها الثيموس "القوة الغضبية في الإنسان" |
يعيش العالم الإسلامي في هذا الوضع الخطير وضعا تعيسا للغاية، فالصدام المفروض عليه من قبل القوى العظمى يجعل الصراع غير متكافئ ضمن دائرة التركيب سواء بالمفهوم الهيجلي أو الماركسي. فالعنف الغربي لا يظهر فقط من خلال احتلاله للأوطان فحسب، بل من خلال تركعيه للآخر اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، فأمام ابتسامة المكر التي ترسمها السياسة الغربية العالمية تظهر ابتسامة الوهن والتبعية والغثائية لساسة العالم الإسلامي، وخاصة وهم يشترون الحماية والأمن بأموال طائلة، لو خصصت للتنمية لكانت بلدانهم في مراتب الدول الرائدة.
وبالرغم مما سبق، أجد نفسي أميل إلى تشبيه الوضع العالمي اليوم بالوضع الإيكولوجي، فمصطلح الاحتباس الحضاري أنسب لما نعيشه الآن، لأنه ناتج عن فقدان التوازن الحضاري، فالحضارة الكونية اليوم لا تعيش لا حالة صدام ولا حالة حوار، بل هي تماما تشهد احتباسا حضاريا نتيجة وجود منطقة أوزون في بلازما الثقافة العالمية، هذا الانحباس ستكون نتائجه كارثية على مستقبل الأرض وليس الإنسان فقط. فمقولة صدام الحضارة أقل خطورة من مقولة الاحتباس الحضاري، لأن الصدام ينتهي عند نقطة تغلب طرف ما على الند أو النقيض، بينما الاحتباس يقود إلى الدمار الشامل مثلما سيحدث للبيئة في حالة ما لم يتصالح الإنسان مع الطبيعة قبل فوات الأوان.
ويظهر الاحتباس الحضاري من خلال نتائج كل المؤتمرات العالمية في الألفية الثالثة، فالعرب لم يستفيدوا من التاريخ القريب ولا البعيد، فأوسلو لا تختلف عن أنابوليس مثلما لا تختلف عن كامب دافيد وغيرها من النماذج التاريخية. يعكس الاحتباس الحضاري مرجعية العنف الغربي الموجودة في كنه الثقافة الغربية ذاتها، من خلال الأدب أو الفلسفة، والأفلام السينمائية التي تمجد الثيموس الغربي وتستهين بالإيزو الشرقي. إن العولمة عنف توجهه عقيدةٌ متخلفة وعدائية، ورثتها الحضارة الغربية من إرث الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية، والذي تُمثل الإمبراطورية الرومانية قمته الكبرى.
تحاول بعض الإمبراطوريات الغربية المعاصرة فرض نفسها بفعل القوة العسكرية والتقنية، وتتوهم من خلال بعض الانتصارات في العالم النامي أنها استكملت عملية استحمار العالم، وأن الطبيعة اصطفت وانتقت الإنسان الغربي لينهي التاريخ لصالحه، وتلك الدعوة لم تفارق الفكر الغربي منذ أن صدح بها أرنست رينان في كتابه سيكولوجية الاستعمار، والذي اعتقد بأن الطبيعة اختارت الإنسان الأبيض ليكون سيدا، فوهبته كل الأجناس غير البيضاء لتكون خادمة له. تنحت العولمة الأمريكية مفهومُها الصِّدامي من عصور الحروب الصليبية وعقليَّتها الأسطورية، ومن أسطورة الإنسان الأعلى، حيث يؤمن قادة وساسة الغرب بإمكانية إنهاء الصراع لصالحهم مثلما تخيل هيجل نابليون يُنهي التاريخ الغربي وهو يمتطي صهوة جواده الأبيض.
نهاية التاريخ مؤسسة على اعتقاد غربي، حوصله فرنسوا شاتليه في العبارة الأتية: "إن نهاية التاريخ هي نهاية الآخر الذي يقاتل الأوروبي." وبالتالي نحن أمام اغتصاب جديد لمفاهيم التاريخ |
تقوم العولمة باعتبارها فلسفة على الصدام السلبي، وبذلك ستنتج العنف المضاد الناتج عن غريزتين تليدتين في الإنسان، الميغالو والإيسو، فالميغالو هو تلك القوة الغضبية المتطرفة التي ترى وجودها الأسمى في نزع الاعتراف من الآخر بالتفوق والغلبة، وتصر أن يعلن الأخر الاستسلام ويقسم على السيادة والطاعة. بينما الطرف الآخر يرفض منطق الغلبة وتقوده غريزة البقاء وشهوة الانتقام إلى نزع الاعتراف من الآخر بالندية والمساواة. أو أن ينزع نزوعا أكثر تطرفا من الأول، وهو نزع الاعتراف من الأول ليس بالندية بل بالتفوق والتعالي كما هو الحال في الخطابات داعش والقاعدة.
إن مقولة "نهاية التاريخ" و" الصدام" ليست من إبداع الثقافة الأمريكية كما يحاول الإعلام الغربي أن يقدمه للعالم بأسره، فكل الثقافات العريقة نلمس فيها فكرة العنصر المخلص وخاتم البشر. بيد أن الإعلام الغربي صدق فكرة أن العولمة في نسختها الأمريكية هي محاولة عولمة الديمقراطية والرأسمالية والإنسان ذو البعد الواحد. إن "مفهوم الأمن الإمبراطوري" بالنسبة للدولة اليهودية أو الأمريكية، بكلِّ وجوهه العنيفة المتلونة، والمتداخلة في المجالات السياسية والعسكرية والمالية، المشبعة بالصِّدامية الحضارية، خلق عالما مقسما إلى قسمين، عالم يبتسم ابتسامة شمشون في أبجديات الثقافة اليهودية، وعالم غارق في التمني وانتظار المهدي والمُخلص من دهاليز الموت وأنفاق الماضي السحيق.
وهكذا ستنتقم الأفكار من أصحابها، فمقولات النهاية أصبحت بدايات لكثير من المستضعفين في الأرض، وتحولت العولمة إلى عولمة الموت والرعب وليس لعولمة الديمقراطية وقيم الرأسمالية الغربية. نهاية التاريخ التي طرحها فوكو ياما وأُسست على أفكارها مشروع العولمة، هي مجرد فكرة إيديولوجية مبنية على أسطورة الهيمنة والسيطرة الشمولية، فالعولمة ما هي إلا مشروع تهجين الإنسان الذي يتدافع مع الرجل الغربي. إن العولمة من منظور فلسفة التاريخ هي فكرة تغيّيب العقل والوعي، وتجعل غاية التاريخ مرتبطة بتحقيق شهوة عقيمة يمليها الثيموس "القوة الغضبية في الإنسان". إن نهاية التاريخ مؤسسة على اعتقاد غربي، حوصله فرنسوا شاتليه في العبارة الأتية: "إن نهاية التاريخ هي نهاية الآخر الذي يقاتل الأوروبي". وبالتالي نحن أمام اغتصاب جديد لمفاهيم التاريخ.
وسيتشكل صراع خطير في أفق التحولات العالمية المتسارعة، يُنذر بحروب قاتمة، قد لا تبقي ولا تذر، فالحضارات تعاني من حالة احتباس خطير، سيقوده النزق الغربي إلى إحداث ثقوب كبيرة في جدار الحضارات الأكثر تشكيلا للمشهد العالمي المعاصر. فيا ساسة العالم وفلاسفته ورجال الدين، اتحدوا لتنهوا الانحباس الحراري والاحتباس الحضاري قبل أن تكون الأرض مجرد ذكرى في تاريخ الكون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق