ومضات من سيرة فيلسوف الثورة.. أد.البخاري حمانة
توفي يوم الأربعاء 05 ديسمبر 2018 بوهران المفكر والفيلسوف الجزائري حمانة البخاري، المولود في 22 فيفري سنة 1937 بقمار واد سوف، عاش طفولته بقمار التي كان يعشقها عشقا طفوليا، وحن إليها في آخر حياته حنينا مؤلما، فلقد قال لي كم من مرة أرجو من الله أن يُمكنني من أمرين: زيارة قبر الرسول والكعبة المشرفة، وزيارة مسقط رأسي قمار. ومات وحلمه لم يتحقق. سافرت معه إلى الخارج أكثر من عشر مرات، كان أمتعها رحلتنا إلى تونس والقاهرة وتركيا. أثناء زيارتنا لتونس أخذني إلى البلدة القديمة، حيث تقبع ذكريات الطالب الآتي من عمق قمار، ليدرس بجامع الزيتونة (الشعبة العصرية)، أخذني إلى أزقة القصبة بجوار جامع الزيتونة، وبدأ يسرد تفاصيل حياته في كل ركن من القصبة منذ سنة 1954، ويطلب مني أخذ صور له، لقد كانت الزيتونة المدرسة التي جعلته يتمسك بأصالته الإسلامية العريقة في التاريخ، ومكنته من اكتساب اللسان العربي الفصيح والصحيح.
عاش بالقاهرة أكثر من عشر سنوات، مجاهدا مناضلا في صفوف جبهة التحرير الوطنية، وطالبا بقسم الفلسفة جامعة القاهرة. حيث انتخب رئيسا لاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين بالقاهرة، واستطاع أن يُنجز عدة ندوات وفعاليات خدمة للقضية الجزائرية. ونحن نسير في أزقة ميدان التحرير بالقاهرة حكى لنا عن زمن الطيش ومغامرات المراهق والعاشق، وكذا يوميات المناضل بالقلم من أجل الجزائر. استطاع أن يحصل على شهادة الليسانس في علم النفس، بعد أن أنجز رسالة وسمها "الإدراك الحسي عند الغزالى"، والتي طبعت مرتين، أخرها كان سنة 2013 من قبل مختبر الأبعاد القيمية للتحولات السياسية والفكرية بالجزائر.
عيّن من قبل الحكومة الجزائرية موظفا بالسفارة الجزائرية بالقاهرة، قسم الجامعة العربية (1964-1966)، وبعدها عيّن مديرا لوكالة الأنباء الجزائرية بالقاهرة والمشرق العربي (1966-1972)، حيث حرر كثيرا من المقالات الرائعة، خاصة أنه عايش كثيرا من الأحداث بمصر، وتعرف على شخصيات لها وزن كبير كجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وياسر عرفات، وتيتو، والسّيد قطب. عاد إلى الجزائر سنة 1972، حيث ترك الصحافة واشتغل أستاذا بقسم علم النفس بجامعة وهران، ثم ترأس دائرة علم النفس وعلوم التربية (1972- 1980). ميله القوي للفلسفة دفعه أن يناضل نضالا شرسا من أجل فتح دائرة للفلسفة بوهران، واحتدم الصراع بينه وبين الشيوعيين من أجل ذلك، لكنه استطاع سنة 1983 أن يؤسس أول دائرة للفلسفة بجامعة وهران، ثم يحولها إلى معهد سنة 1991، كان ذلك من أكبر إنجازاته التاريخية.
أشهد بأن البخاري كان فيلسوفا وهو يتحدث ببساطة وعفوية، وفيلسوفا وهو يكتب بعمق، وفيلسوفا وهو ينشر النكت والطرائف دون حسيب أو رقيب، وخاصة تلك النكت السّياسية التي كانت تعبر عن رؤى نقدية للسلطة والسّاسة. كنا لا نمل الجلوس معه، فإذا جد الجد كان يغوص في أعماق اليم، فينثر منه أجود ما فيه من درر ولآلئ، وإن كان المقام مقام هزل كان الأروع والأكثر طرافة وجذبا، فكل حركة من حركاته كانت مميزة. يتفق جميع من درس عنده وصَاحبه أنه كان شخصية متميزة، ولا يمكن أن تتكرر أبدا، وخاصة أنه كان صريحا يقول ما يشعر به تجاه نفسه وغيره دون نفاق.
كان زاهدا في المناصب والمكاسب، وأشهد أنّه عرضت عليه عدة مرات عضوية بعض المجالس السيادية، لكنه رفضها بناءً على قناعة متجذرة في خُلده وقلبه، بأن كرامة الرجال تذلها المناصب والكراسي. كنت ألومه على بعض التصرفات التي كان يمارسها دوما، فيضحك ويقول لي: لم أفعل ما يستجوب الخوف، تلك الخطايا بيني وبين ربي وهو غفور رحيم، أما الخطايا التي أخشاها فعلا هي التي بيني وبين الناس. كل من وجد البخاري أمامه أو خلفه إلا وتنحل أسارير وجهه ضحكا أو ابتساما، كان رجلا يُحب نشر البسمة والضحك، ولذا اتخذ النكتة فلسفة ليعبر من خلالها عن العبث والوجود، فالضحك هو تمرد على البؤس والقلق، وهو إعلان عن حالة عصيان ذاتي كما كان يقول.
ألف العشرات من الكتب، أشهرها كتابه "فلسفة الثورة الجزائرية" تم طبعه أول مرة سنة 2005 بمختبر الأبعاد، الذي كان عضوا به، ثم تم طبعه مرة ثانية من قبل دار الغرب، ثم بدار روافد اللبنانية، وكنا نتأهب لإصدار الطبعة الرابعة بعد نفاذ كل الطبعات. يُعتبر هذا الكتاب من أعظم مؤلفاته وأجودها، لأنه استطاع من خلاله أن يعطي لثورة نوفمبر بعدا فلسفيا، وألا يجعلها مجرد ثورة عابرة دون مرجعية أو دعائم فكرية. لقد استطاع أن يُبين البعد الإسلامي والعربي، والبعد الوطني والثقافي، ثم البعد العالمي لحركات التحرر العالمية، فتوصل إلى أن الثورة الجزائرية هي ثورة مركبة من عدة مرجعيات متنوعة ومختلفة ومتضادة في بعض الأحيان.
نشر كتاب "تأملات في الدنيا والدين" سنة 2012، وهو كتاب جمع فيه أغلب مقالاته ومداخلاته في الملتقيات الدولية، وخاصة تلك المقالات التي تركت صدى وقتها، كمقاله: "القرآن والثورة" والذي بناء على مضمونه الثوري والفلسفي جعل أية الله الخميني يستضيفه ويستقبله بإيران سنة 1980م، ومقال آخر وسمه " أي ثائر أنت يا محمد" كتبه بعد رؤيته للنبي كما قال لي. ثم نشر كتابين باللغة الفرنسية، الأول حول الكتابات الصحفية الجزائرية حول فلسطين "Ecrits sur La Palestine"، والثاني جمع فيه أغلب محاضراته باللغة الفرنسية سماه "Ecrits philosophiques" وتدور أغلبها حول الفلسفة الغربية، وبعض القضايا الكبرى التي كانت تثير جدلا بين أنصار الفرنكوفونية والعربية.
أعجب بشخصية ابن خلدون، فألف سنة 1986 كتابا وسمه " ابن خلدون حياته وأثره" تطرق فيه لحياة ابن خلدون من خلال القضايا الكبرى المطروحة في مقدمته. كما شارك في التأليف الجماعي، نرصد له أكثر من أربعين كتاب، باللغتين العربية والفرنسية، من أشهر تلك الكتب الجماعية "ابن رشد: فيلسوف الشرق والغرب" و" أراء حول الفكر العربي المعاصر" وغيرها من الكتب. شرع في السنوات الأخيرة في تحرير مسودة كتاب يتعرض لسيرته الذاتية، اتفقت معه على تسميته "ذكريات شاهد قرنين".
كان البخاري حمانة عضوا نشطا في العديد من الجمعيات الوطنية والدولية، وهو أيضا مؤسس ورئيس الجمعية الفلسفية الجزائرية سنة 1998م. كما كان عضوا بالجمعية الفلسفية العربية، عمان، الأردن. تم قبول عضويته بالجمعية الدولية للفلسفة البراغماتية، بهارفارد الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1988. دون أن نغفل عضويته بـ L’association des sociétés de philosophie de langue française.
رحل عنا البخاري بعد أكثر من شهرين من المرض والألم، وكنا كلما ندخل عليه يقول: "أنا سأموت، هذه هي آخر أيامي، إني لا أخاف من الموت، فرحمة الله واسعة، وإن كنت ارتكبت بعض الأخطاء فأني اعتبر نفسي قديسا مقارنة بما يفعله الطغاة بشعوبهم." رحلت أيها المفكر والفيلسوف كما رحل مالك بن نبي وعبد الله شريط وعبد المجيد مزيان وقريبع النبهاني.. في صمت وغربة، ظلمك الوطن الذي احتضنته، واشتقت فيه وأنت حي لتمرة.. وبعد موتك حتما سيعلقون على قبرك عرجونا.. فما أتعس المفكر في الوطن العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق