نظرية التّحدي الخلاق.. تعرف على النظرية الأبرز لمالك بن نبي
أصبح الصراع في عالمنا صراعا إيديولوجيا وفكريا أكثر من أي عصر مضى، فلم يعد مرتبطا بمبدأ القوة والردع. وهذا التّحول العالمي له ما يبرر وجوده في القرن العشرين والحادي والعشرين على السواء، فالتطور العلمي والتكنولوجي فتح أفق الإنسان على الممكن، وغيّر كثيرا من المفاهيم والتصورات التقليدية، مما جعل الإنسان يهتم بالمفهومية باعتبارها سلاحَ القرن وأحد ميكانزمات الصّراع والتّحدي القائم بين إنسان السّيادة وإنسان الطاعة.
ينطلق بن نبي من فكرة جوهرية، هي أن العالم اليوم أصبح عالما يتجه نحو المفهومية باعتبارها تصورا مسبقا عن دستور شامل ومشروع حضاري متكامل، ينبغي أن يكون مدروسا ومُوجها من أجل توجيه الإنسان وبنائه بناءً يتماشى وتحديات العصر ومتطلباته. وامتلاك الإنسان للمفهومية يجعله يدخل معترك المعركة الحضارية من خلال ما يأتي:
وعي الصعوبات (المُحفز الحضاري)
يبدأ ميلاد المجتمع الإسلامي الجديد بكل وضوح من بناء الإنسان وفق مشروع حضاري متزن، لأن الإنسان إذا لم يكن في مستوى التحدي الحضاري يكون من الصّعب عليه دخول التاريخ من جديد. لأن العوائق الحضارية التي تصيب إنسان ما بعد الحضارة تجعله أقل تحديا لحمله مواصفات لا تؤهله لأي عمل حضاري واع، ذلك أن البناء يمر أول الأمر بتوعية الفرد بالصعوبات التي يعيشها أو التي تتربص به، باعتبار وعيها يعتبر نقطة انطلاق لكل عمل خلاق.
عندما يقف الفرد أمام موقف تحفه الصّعوبات ينتابه القلق والحاجة القصوى للخلاص، فينتقل من حالة الفراغ إلى حالة التوتر النفسي، فيحصل استعدادٌ ذهني وجسدي للذات المتوترة، سيحررها من الكمون والسكون، ويدفعها إلى تجاوز الصعوبات، والحالة نفسها تصدق على المجتمع باعتباره وحدة نفسية تشبه في تركيبتها الذات البشرية: "ثم إنه بصفة عامة يمكننا عد هذه الصعوبات أزمة نمو تعيشها الأمة العربية، وطبيعي أنه ككل نمو لابد له من تعب وقلق وألم، ذلك أنه يقع في المجتمع وفي الفرد أيضا شيء من التطاحن، بين قوات سلبية، تدعوه إلى السكون وهي دعوة تجد في طبيعة الإنسان عامة قبولا بسبب ميله الفطري إلى السهولة، وبين قوات إيجابية تدعوه إلى الكد والعمل تحثه صعدا إلى الرقي، الذي هو رسالة الأمة وإلى الدفاع عن كيان المجتمع، وبصورة عامة إنما تدعوه إلى القيام بالواجبات، وهكذا نرى أن الصّعوبات هي أكبر مبشر بالحياة الاجتماعية الصحيحة".[1]
لن تكون النهضة العربية والإسلامية لا بالتكديس ولا بالتقديس، اللذان نرى ملامحها تبدو على جل المشاريع التنموية في البلاد الإسلامية: "لو سمح لي أن ألخص نظرة عبرت عنها منذ ربع قرن لقلت: أنه ليس من الضروري ولا من الممكن، أن يكون المجتمع فقير المليارات من الذهب، كي ينهض وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر أن ينقص من قيمته شيء، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، التراب، الوقت."[2]
اإن الصعوبات أغلبها ينبع من الفرد، وعليه، فهو مدركها وخالقها، فكل رغبة في تجاوزها والقطيعة معها، يجب أن تكون متولدة من الفرد الذي خلقها بالضرورة: "إذن فنحن إذا ما توجهنا للفرد لكي نعالجه على أنه مصدر الصعوبات ومصدر المشكلات، التي تنشأ في المجتمع ويعود تأثيرها عليه وعلى أسرته وأولاده، فإنه ينبغي لنا أن نلاحظ قيمته تتضمن معادلتين: معادلته بصفته إنسانا، أي معادلته كائنا طبيعيا خلقه الله، وضع فيه تكريمه، وهذه المعادلة لا تمسها يد التاريخ بتغيير، ومعادلته كائنا اجتماعيا وهي التي تكون ميزة فعالية فيه وتعلي من قيمته الاجتماعية في ظروف معينة."[3]
من البديهي أن كل إنسان يتعرض للصعوبات سواء كان في مرحلة الحضارة والتحضر أو كان في مرحلة اللاَّحضارة، وعليه، يكون سير الذّات إما أن يكون في منعطف ما قبل الحضارة، وتكون الصّعوبات أقل حدة وشدة، وعليه، لا تخلق التوتر الكافي واللازم لأحداث الإقلاع الحضاري. وإما أن تكون في منعطف نعيم الحضارة وتكون الصعوبات أقل تأثيرا لامتلاك الإنسان القدرة على تجاوزها. وإما أن يكون الإنسان خرج من الحضارة، ففقد عندئذ المسوغات والبواعث الحضارية للتحدي، فتصبح الصعوبات أكثر إثارة وشدة، وقابلة لدفعه نحو الإمكان الحضاري. باعتبار المسلم خرج من الحضارة منذ قرون، فالمصاعب أصبحت في ضميره أكثر المصادر تأثيرا في عقليته ونفسيته، وتتطلب منه تحدٍ خلاق: "فالإنسان الخارج من الحضارة يحتوي على بعض الرواسب، ويكون أكثر مصدر للمصاعب في المجتمع من ذلك الذي لم يدخل بعد إلى هذه الحضارة."[4]
عند دراسة الصّعوبات في عمومها نجد حاصلة من ثلاثة عوالم، فإما أن تنشأ من عالم الأشخاص، ويصبح الخلل في الشخص مصدرا للمتاعب؛ وقد تنشأ من عالم الأفكار، فتصبح الفكرة مصدرا للتوتر والمصاعب، لأن الإنسان يشعر بالصّعوبة عندما تعوزه الفكرة أكثر من عوزه الشّيء. يعتبر عالم الأشياء مصدرا للمتاعب من منطق مبدأ الحاجة والتكيف، والدليل أن الحرب الباردة التي شهدها القرن المنصرم بيّنت شدة الصراع بين الإنسان الرفيق والإنسان الحر في ميدان الأشياء والتكنولوجيا.
وهناك صورة رابعة للمشكلة، عندما يحدث خلل في العلاقات بين العوامل الثلاثة معا، وهي أخطر مظهر على الإطلاق، والعالم الإسلامي يشهد هذا الخلل في كل جوانبه: "إننا إذا أجبنا عن هذا السؤال السابق إجابة عامة مجردة بمعنى أنها تكون صالحة لجميع أنواع المجتمعات الراقية فإننا نجدها تنشأ من خلل في عالم الأشخاص، وإما أن تنشأ من خلل في عالم الأفكار، إما أن تنشأ من خلل في عالم الأشياء، وإما أنها تنشأ من خلل في علاقات لهذه العوامل بعضها بعض"[5]
يؤدي فهم وتحدي الصّعوبات من عالم خرج من الحضارة والتاريخ الحي إلى نتيجتين مضادتين فإما تنتج طاقة خلاقة، ترفع الفرد من حالة الانحطاط، وتخرجه من وضع إنسان الكتلة إلى إنسان الشّاهد. وإما أن تؤدي إلى شل كل طاقات الفرد، فيتجه نحو التيه والذوبان، الذي يقوده إلى الاندماج في مجتمع جديد ناشئ يحمل ميكانزمات الحضارة والقوة متنازلا عن كل أصالة لديه، كما حدث لكثير من الشعوب العريقة التي لم يبق لها في حاضرنا سوى شواهد على وجودها ذات قرن مضى وانقضى، أو أن يتقوقع على نفسه تقوقعا يجعله مغلوبا على أمره: "ولا شك فإن هذا الإنسان بين قوتين، قوة سلبية تريد إرجاعه إلى الوراء باستغلالها طبيعة الاستقرار في الإنسان، وقوة إيجابية تدفعه إلى الأمام وإلى تحقيق مستقبله، فينبغي ألا تضعف القوى الإيجابية فينا عن الوصول إلى الحضارة."[6]
إن العائق الرئيس أمام البحث والإحياء، والتجدد والتجديد يكمن في عدم وعي الصعوبات، وعليه، يسيء الإنسان الخارج من الحضارة التعامل معها، فينتابه شعوران سلبيان، هما أحد أخطر الأمراض المتجذرة في إنسان ما بعد الموحدين ذهان السهولة وذهان المستحيل، ونحن نراهما أكثر انبلاجا في قضية فلسطين.
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق