إما أن
نتغير وأما أن نُغير
مالك بن
نبي
*****
يسرنا أن نقدم لأول مرة متون آخر
حديث أجراه مالك بن نبي مع أحد صحفي مجلة العلم والإيمان، وهو نص يشكل رؤية
مستقبلية لمصير العالم، ويقدم بعض السيناريوهات الممكنة، وفق حركية التّاريخ وتفاعل
الحضارات.
*****
افترقنا
الآن مع الإخوة السعوديين وكانت الكلمة الأخيرة معهم أننا في فترة خطيرة تقتضي
تغييرات ثورية: فإما أن نقوم نحن المسلمون بالتّغيير في مجتمعاتنا وإما طبيعة
العصر تفرض علينا تغيّيرات من الخارج كما هو حاصل الآن باليمن وظفار وغيرهما، لأن
هذه روح العصر، فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن تتذكروه دائما: أننا إذ لم نقم
نحن بثورتنا فإن التّغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا. أعيد هذا... لأنه
أمر أساس.
-لكن ما معنى "الثورة"؟
إن التعاريف كثيرة وأحسب أن أفضلها ما كان موضحا للجانب العلمي
فنقول:الثورة: (محاولة) تغيير أوضاع معينة بطريقة مستعجلة.
غير أن قولنا أن الثورة تغيير وأنها مستعجلة، غير كاف فيجب أن نقول: أنها
عملية هادفة ويجب أن نحدد أهدفها، فالثورة تعني، ما هي الأشياء التي يجب أن تتغير،
وتعني تحديد وسائل التغيير ثم تحديد أهداف التغيير.
لا ندخل في التفاصيل ولكن نتساءل:
ماذا يواجهنا كمسلمين في هذه المرحلة بالذات.. . .
في الثلث الأخير من هذا القرن؟ تواجهنا:
حالة عالمية معينة إلى جانب أوضاعنا الاجتماعية التي يمكن أن نعبر عنها باختصار
بكلمة " التّخلف" وكل يدرك ما وراء الكلمة من أبعاد ثقافية واجتماعية
وسياسية.
- الوضع العلمي:
إنه وضع خطير.. . خطير لأمرين:
1) خطير في حد ذاته لأنه ربما يحمل في طياته مفاجآت وتغيرات عالمية جذرية
وبطريقة لم تعرفها الإنسانية في شتى مراحل تاريخها.
2) خطير لكوننا لا نعلم هل نحن مهيأون لمواجهة هذه التغييرات أو لا؟
ما معنى مهيأون؟
- الشرط الأول: الاستعداد لمواجهة شيء هو معرفة الشيء ذاته. وفي هذا
وجب علينا القول أن التيارات الفكرية غير مستعدة، أما القيادات السّياسية فبعيدة
عن هذا الميدان لأنها مشتعلة بأشياء تعتقد أنها أساسية، وأني لا أريد أن أدخل في
نقاش مع السياسيين (السّاسة). لا أريد النقاش معهم، إنما نحن نحاول توضيح حقائق
متعلقة بي وبهم وبالإنسانية قاطبة.
الجواب عن السؤال:
إننا غير مهيئين لا سياسيا ولا فكريا لمواجهة المشكلات التي تعترضنا في
المرحلة وفي هذه الفترة من هذا القرن.
لماذا نبحث عن استعدادنا لمواجهة مشاكل العالم؟
لأمر بسيط وهو أن العالم الإسلامي شاء أم كره يعيش هذه المشكلات العالمية، لأن
من طبيعة المشكلات العالمية أنها تنعكس على الأجزاء مهما استقلت هذه بذاتها
وانكمشت على نفسها: فالأحداث العالمية والمشكلات العالمية يصلنا صداها وتؤثر في
حياتنا وتقدر أقوانا، فلا بد إذا أن نتجنب سلوك النعامة لأن من يعمد تجاهل الخطر
المحدق به يكون واحد من إثنين: مستهتر أو مجنون.
بعد هذا التعريف الوجيز لظاهرة "الوضع العلمي" نرجع إلى أوضاعنا
الاجتماعية التي أو جزناها في كلمة " التخلف"، لنتوسع في هذا المفهوم لتَسْهُل
علينا فيما بعد المقارنة بين المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي والمشاكل
التي يعاني منها العالم الغربي.
في هذه المرحلة من الحديث يمكن أن نتساءل: ما هو التخلف؟
- إنه مجموعة مشكلاتنا وهي ذات طابع اجتماعي سياسي واقتصادي و(نفسي إلى حد
ما).
أما ما يواجهه العالم فهي بالأخص مشكلات نفسية.
لا شك أننا إذا تعمقنا في تحليل مشكلاتنا وجدنا فيها نصيبا هاما ذا طابع
نفسي غير أن الغالب عليها هو الطابع الاقتصادي، السّياسي والاجتماعي.
*****
- مطالب ماركس تحققت أكثر في البلاد
الرأسمالية:
المشكلات العالمية ليست ذات طابع اقتصادي
وليست ذات طابع سياسي إلى حد كبير ولا ذات طابع اجتماعي، لأن المشكلات التي عالجها
الفكر الماركسي في متوسط القرن التاسع عشر حُلّت الآن، لعل في كلامنا تناقضا فيجب
علينا زيادة الشّرح.
لنترك الجانب الفلسفي في الماركسية ونمسك
الجانب الاجتماعي، إننا لا نخطئ في الترتيب التاريخي إذا قلنا أن الماركسية واجهت
في منتصف القرن 19 مشكلات اقتصادية واجتماعية. وقد نتج عن ذلك مطالب تجسدت في
شعارات "يا عمال العالم اتحدوا" اتحدوا طبعا ضد الرأسمالية. يا
عمال العالم طالبوا بحقوقكم. . . وتجسدت أيضا في توصيات: مطالبة الرأسمالية بإعطاء
حقوق العمال، في الإضراب والتجمع والضمانات الاجتماعية، وعطلة شهر مع المرتب، هذه
هي المطالب ولكن هل تحققت هذه المطالب؟ تحققت أكثر مما
كان يتصور ماركس وينتظر... فقد أصبح الإنسان في العالم الغربي الرأسمالي يتمتع بكل
الضّمانات الاجتماعية مع شيء من التّرف: ضمانات + ترف، وهكذا نرى في هذه الحقبة من
القرن 20 أن مطالب ماركس (القرن 19) قد تحققت في البلاد الرأسمالية بأكثر مما
تحققت في البلاد الشيوعية التي هي بدورها في طريق تحقيقها... مما جعل حدة المشكلات
التي واجهتها الماركسية في القرن 19 إلى حد بعيد.
- ليس
في الأمر تناقضا:
حين نقول أن المشكلات التي واجهها ماركس في منتصف القرن الماضي حُلّت في
البلاد الرأسمالية فإن هذا يثير عند الماركسيين ثورة وزوبعة وسخطا. أما بالنسبة
لغير الماركسيين الذين ليست لهم خبرة بالموضوع فيرون ذلك متناقضا. غير أنه لا وجود
في رأينا لتناقض، يجب فقط أن نحدد المصطلحات أمام هذه القضية أولا من مفهوم
الحضارة = "هي مجموعة الشروط المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن
يوفر جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه".
وهذا ليس تفسير "تويمبي" ومن شابهه، والعرب يعانون من عقدة إزاء
بعض الغربيين فيتبعون تعاريف تومبي.. . يجب أن نحل مشاكلنا بأنفسنا لأننا نحن فقط
نلمسها لمسا أما تومبي وغيره فهم يدرسون ويفكرون فيها ويتصورونها... أما نحن فنلمسها.
أنا عشت وأعيش هذه المشاكل، فتحديدي للحضارة ليس تحديد تومبي، ولا يمكن أن
يكون تحديده، كما أنه لا يمكن تحديدي للثقافة كتحديد ( Levy-Strauss) لأننا نعيش المشكلات والآخرون
يفكرون فيها... هناك فرق كبير جدا.
وبناءً على تحديد
مصطلح الحضارة نفصل جانبين:
أ- الجانب
المعنوي ( الشروط المعنوية).
ب- الجانب المادي
( الشروط المادية).
نجمع هذه الشروط
المعنوية ( وربما تدركون لماذا) في كلمة نسميها.
الإرادة الحضارية: ( Le vouloir).
ونجمع الشّروط
المادية في كلمة نسميها:
وإذا تحقق أحد هذين
الأمرين فقط في مجتمع، فإن هذا المجتمع لا يستطيع أن يُحقق الضّمانات الاجتماعية
لكل أفراده، فلا بد من توفر الشّرطين. ونتساءل: أين تحققت بكل وضوح الشّروط
المادية : أي الإمكان الحضاري.
في نيويورك طبعا.
الإمكان الحضاري في نيويورك وباريس... أكثر منه في موسكو. وهذا أكثر بالأخص في
فترة انتقال الإتحاد السوفييتي من مجتمع متخلف إلى مجتمع متقدم. وهذا يؤكد أنه كان
من الأيسر نظرا لتوفر الجانب المادي، حل المشكلات التي واجهها ماركس في خصوص
الرأسمالية.
ومن ذلك كله نلاحظ بكل
وضوح أنه لا وجود لأي تناقض. حققت مطالب ماركس... ومن يداوي لها أمراضها !
العالم تعدى المرحلة
التي كان يواجهها ماركس، ولكن نلاحظ شيئا في هذه الرقعة التي تحقق فيها الإمكان الحضاري
وحلت فيها فعلا المشاكل الاجتماعية التي قامت على أسسها الدعوة الماركسية: في هذه
الرقعة ظهرت أمراض اجتماعية احتاجت المجتمع بعد أن حلت القضايا التي طرحها ماركس.
وهذه المشاكل
ليست من نوع اقتصادي ولكن من نوع نفسي، ولقد كنت في أول حديثي سحبت عمدا كلمة نفسي
حين كنا نتحدث عن الأمراض التي في العالم الإسلامي، حتى تظهر بكل حدتها في الرقعة
المتقدمة، ففي العالم المتخلف تكدست المشاكل الاجتماعية الاقتصادية، ولكن في
العالم المتقدم انبثقت مشاكل من نوع جديد: مشكلات نفسية.
- فما هي هذه
المشكلات؟
هي بإجمال: حيرة
في النفوس، وشعور بعدم الاستقرار. وهذه مشاعر الإنسان المتمتع بجمع الضّمانات
الاجتماعية.
أخذت إحصائية
الانتحار في العالم رقمها القياسي في أكثر البلاد تقدما من حيث الضّمانات
الاجتماعية، وهي السّويد. أما في الولايات المتحدة فالانتحار يوصف بكونه كارثة
وطنية.
نضيف إلى هذه
ظاهرة "الهيبي" (Hippies) والمخدرات.. . فالمخدرات ليست إلا محاولة خروج اصطناعي من المألوف.
هو هروب من الواقع. فمسوّغ كل مخدر عند المدمن هو هروبه من الواقع. غير أن البلاد
التي حققت هذه الضّمانات الاجتماعية أصبحت تعاني مشكلات نفسية، ونريد أن نعرف
نتيجة هذا كله.
نتيجة هذا ظهرت
منذ أيام في تصريح خطير لنكسون " يخطر ببالي الآن مصير اليونان وروما في
طور أفولهما." إن الولايات المتحدة سوف تكون أكبر دولة في السنوات العشر
المقبلة. ولكنها هل ستكون الأكثر سلامة (من النّاحية الاجتماعية والنفسية)"
وحذر نيكسون من اللاّمبالاة والاستقالة من التاريخ.
هذه صيغة المسألة
كما يصوغها الواقع، حتى أن نيكسون وهو إنسان يواجه مسؤوليات على المستوى العالمي
اضطر وفرض عليه الوضع المتدهور إلى التحذير والتنبيه وشحذ الهمم.
لنا الحق إذا
عندما نقرر أن مجتمعنا الإسلامي يواجه مشكلات اقتصادية اجتماعية حادة جدا مقابل
مجتمع متقدم مصنع يواجه مشكلات نفسية حادة جدا أيضا.
أما مشكلاتنا فهي
نتائج لظروف وليست جوهرية جدا.
لكن مشكلاتهم
أساسية وجوهرية جدا.
هذه هي المقارنة.
ماذا تكون أو كيف
تكون نهاية هذا القرن؟
إن الغيب بيد
الله. . إننا نقدر من الأمور أبسطها.
لاشك أن كل
التطورات تنبع من هذا وذاك. من التخلف والتقدم الحاصل لمرضى الروح والنفس. كل
الأحداث التي سوف يعرفها عالمنا في الثلاثين سنة المقبلة ستكون نتيجة التفاعل بين
التخلف المادي (العالم الإسلامي) والتخلف الروحي ( العالم المصنع).
هذه صورة المشكلة
العالمية بوجهيها. الصنف الاجتماعي والاقتصادي (ونتائجه في المجال النفسي) والصنف
الروحي (وجوهر مشاكله روحية) هذه هي الخريطة العالمية التي سيحدث إن شاء الله في
نطاقها التّفاعل بيننا وبين الآخرين وبينهم وبيننا نحن.
نضيف شيئا من
ناحية أخرى وهو توضيح لمرحلة تهمنا نحن المسلمين.
****
-. . . . ليظهره على الدين كله ولو كره
الكافرون:
كل واحد منا يعرف
الآية: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
الكافرون".
هذا وعد من الله،
فهل تحقق؟
هذا الوعد قد
تحقق وفي هذا القرن بالذّات. وقد يبدو في الأمر غرابة أو عدم وضوح.
عندما نزل القرآن
هل كان تحقق وعد الله في انتصار الإسلام على المسيحية واليهودية البراهمانية
والبوذية والماجوسية. أي كل الأديان الموجودة آنذاك؟ ذاك هو معنى الآية الكريمة
على الأقل. نأتي الآن لهذا القرن، وننظر إلى خريطة الأديان والإيديولوجيات في
العالم.
مسيحية:600 مليون
ماجوسية: انتهت.
بوذية: 570 مليون اليهودية: 14 مليون.
براهمانية: 450
مليون الإسلام: 400 مليون.
والشّيوعية-
عندها- مازالت لم تظهر بعد كدين.
أما اليوم، ماذا
نجد لو نظرنا إلى خريطة العالم؟ نجد أن الأديان التي نزلت في حقها الآية زالت كلها.
المسيحية مسحها التاريخ وفي هذا المجال نذكر أننا قرأنا تحقيقا هاما أصدرته إحدى
الصحف الفرنسية (Nouvel Observateur) عنوان هذا التحقيق (2000 Ans c’est assez !) 2000 سنة كفاية ! والمقال يحتوي أرقاما وأحداثا
عما حصل بأمريكا اللاتينية، فرنسا، إنجلترا، إيطاليا وألمانيا.
منذ 7 أشهر حصل
من بين ما حصل "فضيحة كرالا" وهي مقاطعة هندية سافر إليها أحد
القساوسة الطليان. قس يهتم بأمر دينه ومتعلق بمسيحيته أراد أن يوجد رهبانا لديره. ومشكلة
الأديرة تشكل أعوص قضية عند القيادة المسيحية لندرة المستعدين لتحمل المسؤولية. حصل
أن هذا القس لم يجد لتجنب غلق أبواب ديره إلا شراء بنات فقيرات من هذه المقاطعة
الهندية لتلبيسهن القدوس، فكانت الفضيحة التي نشرتها صحيفة إنجليزية وتناقلتها
الصحافة العالمية.
المهم أنه لم يبق
من المسحية إلا الهيكل الإداري (الفاتيكان) أما القاعدة الجماهيرية فقد انتهت حتى
أن الدّير لم يجد في أغلب البلاد متطوعين. أما البوذية فقد مسحها ماتسي تونغ مسحا.
والبراهمانية من
علامات محوها فشلها الفظيع في أخطر القضايا المعاصرة التي جبهتها: القضية المنبوذين.
وهي القضية التي عرضها غاندي على الضمير الهندي وسطرها في الدستور. غير أنها لم تُحل.
ولقد أثبت ذلك عجز البراهمانية على مواجهة مشكلة ذات طابع اجتماعي.
أما اليهودية فهي
لا تعد دينا بأتم معنى الكلمة. هي سياسة.... أو دين... أو... هي دين عنصري لا يطلب
من أحد الدّخول فيه ولا يُبشر.
****
- وهذا الدين الجديد: الماركسيـــــــــة !
غير أننا نلاحظ
شيئا وهو أن دينا جديد بدأ يلقي لونه الأحمر على الخريطة، خريطة الأفكار، وهو
الشيوعية. وقد اكتسح لونها رقعة كبيرة من الأرض الصين وشرق أوروبا والاتحاد
السوفييتي.
إذا لم يبق حقا
على الخريطة كعقيدة إلا الإسلام والشّيوعية، فهما فقط يحركان الجماهير، وهنا يجب
أن نلفت النظر لبعض الظواهر: ظاهرة عدم استقرار العقيدة الشيوعية في الإتحاد
السوفييتي.
إنها متصدعة. والدليل
على ذلك نأخذه من أفواههم: في المؤتمر 21 للحزب الشيوعي السوفييتي في سنة 1956. وهو
تاريخ مبكر، صرح كروتشكوف بقول غريب ترتبت عنه الأزمة بين الصّين والاتحاد السّوفييتي
من النّاحية النّظرية السّياسية.
قال كروتشكوف
"إن من واجبنا تدعيم الطاقة العاملة بالمنبه المادي"
(Le Stimulant
matériel) وهذا
لم يقله لينين ولا ستالين، ولو سُمعَ أحدا يقول هذا أو مثله لأعدم في الحين.
ولما سمع ماوتسي
تونغ بذلك وهو الوفي لفلسفة لينين تزعزع من حوله الكون وقال لهم: "إنكم
كفرتم بالماركسية، لقد خرجتم عن الطريق السوي" ثم كان من المشاكل ما نعرف
جميعا...
.. . أخيرا منذ
سنة تقريبا وقع تحقيق في الاتحاد السّوفييتي تحت إشراف أكاديمية العلوم التي يشرف
عليها عالم رياضيات، عالم اجتماع، مؤرخ، وكلهم من العظماء، كانت نتيجة تقريرهم الذّي
قدم للثالوث القائد:بودقورني، بريجنيف، كوسيغين: "إن الطاقة المنشئة وقوى
الابتكار قد هبطت في كل الميادين. "معنى هذا أن الاتحاد السوفييتي لم يبق
في مرحلة الصّعود في الدّورة الحضارية، فقد أصبحوا يبحثون عن الأكلة الطيبة
والقصور والمتع (شبه ما حصل عندنا في فترة معاوية.)
أما الصين فهي لا
تزال في المنطلق، فهي تحافظ على حدتها وإن ظهر بعض التّخفيف فيها. يمكن لنا القول
أن المجتمع الماركسي السّوفياتي قد خرج من المرحلة الحضارية الأولى وسار شوطا في
المرحلة الثّانية وبذلك ابتعد كثيرا عن منابع العقيدة وعن منبع الطاقة الدّافعة. ولقد
سافرت إلى الاتحاد السّوفياتي وتجولت في بعض المدن: موسكو، لينينغراد، سمرقند.. وشاهدت وضعية الشباب هناك، وضعية لا تقارن
بوضعية الشّباب في الغرب من حيث الانحلال.
ولكن عندي
ملاحظات وذكريات خاصة أكدت لي وجود شيء من الفتور. لمست ذلك في بنت وشاب.
البنت.... كانت خصصت لنا كمترجمة.
الكلمة الأولى بعد أن تعارفنا ولاحظت منا عطفا وتلطفا، ولم يبق عندها شك أو
ريبة في إنسانيتنا. الكلمة الأولى التي انطلقت بها هي: أني أرغب في المجيء
عندكم لأعمل.
وأظن أنها كانت
تحت المراقبة. وفي يوم ما كنا
عائدين من زيارة في السّيارة، وكانت معنا، فطلبت منا أن تنزل لنزلها لمدة قصيرة
فأذنا لها، وعادت ومعها بعض الثّمار قطفتها من حديقتها، وتكرمت علي وعلى الأخ الذي كان
يرافقني، وقد لاحظ السائق هذا التّصرف.. . ولم نرها بعد ذلك اليّوم، لو كنا في وقت
ظهور الإسلام لقيل فيها بمصطلحات أهل الشرك حين يظهر على الإنسان ملامح الإسلام
لقد صبأ، فلقد بدأت في نظرهم تصبأ.
ثم عوضوها بشاب مال إلينا وملنا إليه ولم نغير سلوكنا. فلما اطمأن إلينا
بدأ يقدم وساطته في تحويل العملة في السوق السوداء. ولا شك أن هذا خروج وانحراف عن خط الصّعود في الدّورة الحضارية ذلك الخط
الذي لا يتصور مثل هذا التّصرف.
ثم وقع حديث مع هذا الشّاب ونحن نتناول الطّعام وكنا نلاحظ عليه الشّغف
بالحيّاة النّاعمة وكأنه يأسف أنه ليس في الغرب.
هذه هي الأوضاع الموجودة في العالم: إن الغرب انتهى بشيوعيته ومسيحيته... إن
الأزمة النّفسية طغت على العالم المسيحي وبدأت وتنهش هيكل العالم الاشتراكي. إذن
في نظرة بعيدة المدى للتّطور في الثّلاثين سنة القادمة إن شاء الله سوف تكون
المعركة بين الإسلام والشّيوعية.
لكن هل ستترك هذه المعركة لشأنها؟
****
- رأس ثالث في الصراع !
إن الرقعة التي
زال فيها الاستقرار النفسي تقع تحت السّيطرة المباشرة للصهيونية، يعني هذا أن كل
إمكانياتها الحضارية فريسة الصهيونية.
حدثنا منذ أيام
السيد (Benoit Mechin) المؤرخ الفرنسي عن لقاء له مع شخصية كبيرة في وزارة الخارجية
الأمريكية قال: قلت له إنكم (الولايات المتحدة) تساندون إسرائيل، فعقب عليه
المسؤول الأمريكي وصحح: نحن تابعون لإسرائيل ولسنا نساندها.
هذا هو الواقع
الأمريكي، فالمساندة تأتي عادة من القوي للضعيف غير أن الحال عكس هذا.
وهكذا يصبح الصّراع
بين ثلاثة عناصر: الإسلام والشّيوعية وهما العنصران الفعالان وعنصرا التفاعل
النفسي والأخلاقي في العالم، هو صراع صامت الآن، ولعله لن يبقى كذلك. أما العنصر
الثالث فهو الصّهيونية.
ولكن كيف يتدخل
هذا العنصر الأخير؟
الصهيونية من
عادتها، من 2000 سنة تقريبا وهي لا تتدخل في قضية ما سافرة الوجه، بل تتدخل مقنعة
بقناع الدّيمقراطية، الإنسانية، العدالة، وفي المستقبل نرى أنها سوف تتدخل بقناع المسيحية.
- لكن ماذا بقناع
المسيحية؟
المسيحية أمام
قوتين متصارعتين إحداهما توحد الله والأخرى تنفي وجوده، ومنطقيا وجب على المسيحية
أن تؤيد الإسلام، لكنها على عكس ذلك فهي تريد الانتصار للشيوعية على الإسلام، شيء
يجب على الشّباب المسلم أن يدركه جيدا: إن المسيحية تدرك أن الشّيوعية غير مستقرة..
وإنها لا تنشئ ولا "تخلق" (ولا تدعى ذلك لأنها تنفي هذا الجانب) حالة
الاستقرار النفسي، فماركس قال املـؤوا البطون وانتهى كل شيء.
فالقيادة
المسّيحية ترى أنها خسرت القضية حاليا، ولكنها سوف تكسب المعركة إن اكتسحت الشّيوعية
العالم وانتصبت عليه، وذلك لإدراكهم أن الشيوعية لا تهيئ حالة الاستقرار النفسي الذي
تطمح إليه كل نفس.
أما إذا انتصر
الإسلام فإن التّاريخ ينتهي وتأتي
نقطة النّهاية بالنسبة للمسيحية، ويتحقق بذلك وعد الآية الكريمة ليس فقط بالنسبة
للأديان المعاصرة لظهور الإسلام بل حتى بالنّسبة للأفكار التي أصبحت عقيدة ودينا
كالشيوعية.
نفهم من هذا أن الثلاثين
سنة القادمة أن شاء الله ستعرف المعركة الطاحنة، المعركة العقائدية بين
الشيوعية والإسلام (بين الكفر والإيمان)، ولكن تتدخل المسيحية بجانب الشيوعية
تدخلا محكما، ولا يعني هذا أن المسيحية لا تقوم مباشرة ببعض الأعمال منها تكسير
هوامش دار الإسلام.
فالإسلام مثل
القارة الوسيطة ولهذا القارة هوامش، فكما لأوروبا هوامش مثل إنجلترا وايرلندا
ومالطة وصقلية، لدار الإسلام هوامش مثل الفلبين واندونيسيا وإفريقيا الوسطى
والمسلمين السّود في الولايات المتحدة.
هذه هي هوامش
الإسلام، ومع الملاحظ أن المسيحية تبذل مجهودات كبرى وبالأخص بعد سفر "بولس
السادس" للشرق الأقصى، فبمجرد ما رجع بدأت المذابح في سيلان وأندونيسيا (أنظر
كتاب غارة بشرية على أندونيسيا)،
فالعملية التي
تقوم بها المسّيحية مزدوجة، عملية توجيه المعركة وقطع الهوامش حتى لا تزيد رقعة
دار الإسلام في الامتداد.
*****
الفكرة القومية العربية
لا تحل القضية، ويقدر نجاحنا في الداخل يكون نجاحنا في الخارج.
نعود الآن للمسألة
الثانية، نقر بأن الثلاثين سنة المقبلة حاسمة ستكون أخطر مرحلة في تاريخ الإنسانية
لأنها سوف تتجمع فيها السّلطة الروحية حول منبع واحد أما شيوعية أو إسلاما، ولا
فائدة في التّذكير بالدّور الذي تلعبه المسّيحية أي الصّهيونية المقنعة.
وينبغي على العالم
الإسلامي أن يعرف ويعي معني هذه المرحلة الخطيرة في العالم وبمقتضى معنى هذه
المرحلة يتجه لمشكلاته الحقيقية التي يعيشها في مقر داره، وإن نجاحنا في المعركة
العالمية سوف يكون بقدر نجاحنا في معركتنا الداخلية.
وحل هذه المشاكل لا يمكن
إلا على أساس حضاري أما الحل السّياسي فلا يمكن، وكل الحلول الأخرى غير مقبولة: الفكرة
القومية العربية لا تحل القضية أبدا، ولقد بدأت تتكون عندنا بعض الخبرة
على النطاق الوطني. إن حل المشّاكل لا يمكن أن يكون في مجال قطري، فلو
أردنا التّشبه ببلجيكا لما استطعنا لأننا لو فصلنا بلجيكا عن أوروبا لانهارت وسقطت.
إن مشاكلنا لا يمكن أن
تحل في نطاق قطري، ولقد أراد بعضهم أن يعوض القطر بحدود القومية فظهر أن
القومية وضعت حدودا أخرى وبددت طاقات أخرى في القطر الواحد كانت متجمعة قبل ذلك:
هذا أصبح بعثيا وذاك ناصريا.
لم يبق إلا شيء واحد،
وأظن أن الفكر الإسلامي بدأ ينضج عند الشّباب وغير الشباب، هو أن القضية بالنسبة
لأي مجتمع قضية حضارية أساسا ثم تصير وتتجزأ إلى قضايا قطرية وجهوية.
نحن إذن نطالب بمواجهة
المعركة الكبرى التي ستؤول نتيجتها إلى تلوين الخريطة بلون عقيدة واحدة، إما
الإسلام ( اللون الأخضر) أو الشّيوعية (اللون الأحمر)، ومن ورائها
المسيحية. وعندما نقدر شروط انتصارنا في هذه المعركة نراها موقوفة على معركة داخلة
لحل قضية التّخلف على أساس حضاري، وعندما يُهيأ الظرف الملائم كي يستطيع العالم
الإسلامي دخول العالمية مُصفى من عقده النّفسية.
- كلمـــــة أخيــــــرة:
هذه هي الوَصية
نتواصى بها، وأشعر وأنا أتحدث إليكم بأني أوصيكم بشيء خطير، لأننا لا نراها بل نحن
مشغولون بمشكلات أخرى، والقيادات الثقافية لا ترتفع لهذا المستوى، فهي لا زالت في
محيط ضيق وإن ارتفعت أصبحت وحدوية تنادى بالوحدة العربية، نتواصى بهذه الحقيقة
ونعمل بمقتضاها، وعلى كل واحد أن يُصحح ما سمعه مني، ويكمل ما نقص في
حديثي لأنني اختصرت ولم أدخل في التّفاصيل.. . . ولقد كنت وصيّت الشّباب المسلم في كثير من
البلدان بهذه الوصية.. . والله يؤيدكم والسلام عليكم.
* - كنا في زيارة للجزائر لحضور
ملتقى الفكر الإسلامي بوهران، وأثناء عودتنا إلى تونس توقفنا في العاصمة الجزائرية
وهناك استدعانا أحد الإخوة بالمفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله وذهبنا إلى
بيته بالعاصمة حيث كانت لنا معه جلسة شيقة استطعنا أن نسجلها كاملة.
ونحن ننشره اليوم بعد مرور
سنوات ونعتقد أن كثيرا مما جاء في هذا الحديث يدل على مدى بعد نظر الأستاذ مالك
رحمه الله ومدى نفاذ بصيرته. (فريق مجلة العلم والإيمان التونسية في سبتمبر 1973
قبل وفاة مالك بن نبي بشهر تقريبا. )
** - يشير إلى قوله تعالى {والعصر إن الإنسان
لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
مسيحية: مليار ماجوسية: انتهت.
بوذية: 570 مليون اليهودية: 14
مليون.
براهمانية: 450 مليون الإسلام: 1. 350000. مليار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق