أد. عبد القادر بوعرفة
*****
عبد
الملك مرتاض ناقد وروائي جزائري معروف على المستوى العربي (10 أكتوبر 1935
بتلمسان)، ألّف ما يربو عن سبعين كتاباً، أبرزها: نظرية الرواية، نظرية البلاغة، نظرية القراءة، نظرية النقد، نظريّة اللغة
العربيّة ... كما له اثنتا عشرة روايةً، أشهرها: نار ونور، وادي الظلام، رباعية
الدم والنار، الخنازير، صوت الكهف، حيزية، ثلاثية الجزائر (الملحمة، الطوفان،
الخلاص).
يدل عنوان الرواية على مقام فلسفي ذي منعطف
أدبيّ، حيث تنبلج الرُؤَى الوجودية وهي تتشابك تشابكاً بلاغياً مع المنعرج
الميتافزيقي، فتحدث سجالاً غير ظاهر، ولكنه يختبئ وراء الجمل والعبارات.
رواية
أجمل ما فيها اللغة التي نمنمها نمنمة لا مثيل لها، وأغرب ما فيها المزاوجة بين
عوالم الإنس والجن، وبين أفق البرهان وتسابيح العرفان، وبين الماضي العتيق والحاضر
المُهمل، والمستقبل المجهول. إنها وَشم في جبين الأمة المتهالكة في غياهب الذاكرة،
وفوضى الكلمات المنمقة برائحة العتاقة والمُنتفضة بزفرات المعاصرة.
ابتدأ روايته بمشهد نقدي صارخ، ينم عن وعي بفلسفة
التاريخ، وفهم عميق لبشاعة التخلف والانحطاط. خلق من رَمزية القطار صورةً فنيةً
ليُعبر عن واقع الأمة العربية والإسلامية، فهي من حيث التمثيل لا تختلف عن صورة
القطار العتيق، قطار نهاية الألفية الأولى: "ولا يزال القطارُ يندفعُ نحو الأمام اندفاعا شديدا. يعدو لاهثًا. يَصْفر
بصوت محموم. بصوت ينتشر دويُّه في الفضاء. ينبثُّ امتدادُه في الأرجاء. كرَجْس
الرّعد القاصف. كهدير البحر الطافح. كان هَدِيره ينبعث في كل الأفضيَة المحيطة
بالسّكة الحديدية الممتدة إلى ما لا انتهاء. كان ينهب الطريق نهبا سريعا. كان
طائرةً تسير. بل كان قطارا يطير." (ص:3)
لكن هذا الإطراءَ
ما ينفك يتحول إلى قدح وذم: «... مسكينٌ
قطارُكم إذ ْ كان يلهثُ من تقادمه وبلاَهُ لهثاً. كان عِظاما رميما. لم يكن قادرا
على الصُعود في العِقاب. كان عاجزا عن الركض في السُهول والهضَاب. أيضاً. حتى كأنه
شيخٌ خَرِعٌ هَرِم.... يسعل فيقذف دخاناً كثيفاً...»
(ص:4)
إن
الأمةَ أصيبت بالوهن والعجز، فهي تشبه الشيخ الخَرع الهرم، الذي لا يستطيع أن
يُحرك ساقيه أو يمدهما مدا، له جعجعة وهدير ودخان كثيف، لكنه لا يستطيع أن يصعد
هضبة صغيرة ...
يريد
عبد الملك مرتاض من خلال تلك المقابلة الرائعة، أن يقارن حال المسلمين بغيرهم،
وخاصة بلاد الغرب، فَقُطُرهم اليوم أشبه ما تكون بالطائرات من حيث السرعة والراحة،
ولم تعد قُطر الأربعينيّات سوى خردة في متاحفهم، وهذا يدل على سرعة التغير
والتحول، فالإنسان مثل القطار.
يغوص
الروائي في جَلْد الذّات، لكنه جلد موضوعي، فالذات العربية انسلخت عن حاضرها وهربت
نحو ماضيها، فسكان الزيتونيّة (اسم قرية الرواية) يعيشون وسط ركام من الأبنية،
القبور أجمل منها بكثير، فالأبنية لا حياة لها، بل هي كالظلام والرميم، وهي أشد
وحشة من القبور، فيا له من زمن غريب حين تكون قبور الموتى أفضل من منازل
الأحياء...
تنعطف
أحداث الرواية، فيدخلنا الروائي بأسلوبه المتميز في فضاء العجائبية، حيث يتداخل
الواقع مع الخيال ضمن جدلية الرموز والتمثلات، فسكان الزيتونيّة يتقاسمون البئر
والقرية مع الجن، فاعتقد عقلاؤُهم بأن الجنّ تزاحمهم المكان والبئر، فقسموا اليوم،
لهم النّهار والمنطقة العلوية، وللجن اللّيل والمنطقة السفلية.
لكن
البئر الوحيدة، كانت آية في الاتقان، وأجدادهم لم يكونوا بالبراعة الكافية لاحتفار
مثل تلك البئر المرصعة بأنفس الأحجار، فكيف ترك الجن البئر لهم: «وكيف تركت الجن بئرها للأنس تستقي منها فتروَى،
ولم تحرك لذلك ساكنا؟ ولم تتدخل لحماية مُمتلكاتها؟ مع ما خُصَّ به الجن من شدة
البطش والعتو، ورغْبتهم في الانعزال، وغيرتهم على ممتلكاتهم، وحرصهم على أن لا
ينال غيرهم منها ...»، (ص:15).
يأخذنا الروائي إلى عالم التأويل والتفسير، حيث
يختلط العرفان بالبرهان، والحقيقة بالخيال، بين تفسير الشيوخ وبين رؤى الشباب،
ويحتدم النقاش بينهم، ويكثر التحدّي، ... لقد أبدع عبد الملك مرتاض في تصوير الجدل
حول الجن والبئر، ولعله يريد أن يصور ذلك الجدل الحاصل منذ عصر النهضة إلى اليوم
بين أنصار الحداثة وبين حماة الأصالة، ذلك الجدل الذي لم يثمر يوما، بل تحول إلى
سفسطة بائسة كان آخر فصولها هل البئر احتفرها الجن أم الولي الصالح الراقد في
تربتها؟
في هذا
السياق الجدلي الرائع، من حيث لغة الحوار وأسلوب التصوير، تغيب الحقيقة عن الجميع،
ولم تكن الحقيقة إلا سارة تلك
المرأة الجميلة، التي أحبها عمر الفقير، وهي نفسها أحبته حباً خالصاً، تزوجها رغم
الدسائس، لكنه أراد ان يُسعدها كما أسعدته، وليس لديه أي شيء ليقدمه لها ... فقرر
الرحيل عن القرية ... إنه البحث عن الذات في زمن الكينونة المترعة بالبؤس والخيبة.
ترك عمر
سارة وحدَها، كما ترك المسلمون حضارتهم وإرثهم، لكن سارة الطيبة والجميلة ناضلت
نضالاً كبيراً، من أجل أن تعيش بشرف وكرامة، وألا تبيع نفسها لوحوش القرية
الطامعين في جسدها الجميل، الكل كان يحلم بأن يتزوجها، وأن يطفأ ظمأ السنين في حرّ
فرجها، وشذى شفتيها، وأن يرضع من ثديها حليب الخلود، تماماً كأسطورة ينبوع الحياة.
استطاع
مرتاض أن يَحبك الرواية، وأن يعقدها تعقيداً لا نظير له، فسارة المرأة الجميلة
حالها غريب وأمرها عجيب، كلّ يوم تزداد غنى وثراءً، كثر عنها السؤال، والظن والارتياب،
وبعضهم رماها بما ترمى به النساء، خاصة الشيطان المُسمى زعرور أحد أبناء أثرياء القرية.
تنساب أحداث الرواية انسياباً، وتأخذ منعرجاً
عجيباً، فسارة الحسناء سبب سعادتها وثرائها يكمن وراء أفعال الجنية خناتيتوس، التي
أحبت سارة، فأغدقت عليها بأجود ما يمكن أن تجود به، الذهب والمرجان، وأغلى
الثياب... ولم يقف الأمر عند الجود، بل تدخل في سجال رائع مع سارة حول الشعر
والشعراء. يقودنا عبد الملك مرتاض إلى إشكالية خطيرة في تاريخ الأدب، فالجنية تنفي
وجود شعراء عرب، فكلهم يقولون ما تجود به قرائح شياطينهم، فلكل شاعر شيطان.
يعود
عمر للحسناء والقرية، وهو ذاته لا يدري كيف عاد، لقد عاد كما عودتنا شهر زاد في
قصص ألف ليلة وليلة.
تتابع
قصص الحسناء وعمر، وكل يوم هو أعجب وأغرب من اليوم الذي أمسى، وحال الزيتونيّة ما
زال كحاله لم يتغير كثيراً، ما زال الماضي العتيق ينفث تعويذته، ويعقد عقده.
ينقلنا
الروائي في الصفحة 368 إلى مولج جديد، فابن الحسناء سارة، سيأخذ دور البطولة، فابن
الحقيقة كغيره من فتية الزيتونيّة سيتابع الطريق ذاته، التعلم في الكتّاب، ثمّ التعلم
بالمدرسة، والأم سارة في الحقيقة هي المعلم الأول، تصحّح بذكاء ونباهة ما يقترفه
المعلم بالمدرسة من أخطاء.
لم يكن
ابن الحسناء إلا الفيلسوف الأديب،
فهو الطفل الذي تعلم بالزيتونيّة مسقط رأسه، ثم يسافر إلى أوروبا، ويقطن بباريس
عاصمة الجن والملائكة.
يعود
مرتاض إلى القطار من جديد، مازال قطارنا بطيئاً، وئيد الحركة، في حين أنّ قطارهم
فاق الحدود وتصورات، إنها إشكالية التقدم.
تظهر
شخصيتان كاترين وسوزان، كاترين المُغرمة بعبق الشرق، تتزوج عربياً، وتهيم حباً
بتراث الشرق، لكن الروائي يختم روايته بمنظر رهيب، موت العِرسان في برج نيويورك بعد انفجارات 11 سبتمبر 2001.إنها نهاية الحب والحكمة، وعودة الظلام وقطعان
الذئاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق