المقامة
الصَّفْراوية
عيد
الأعياد يا سادة البلاد
أد. عبد القادر بوعرفة
****
حدثنا عامر بن صعصعة فقال: أصابني ذات يوم الأرق، وأسرني
القلق، من غلاء المعيشة، وارتفاع الضريبة، وكذب السّاسة، واعوجاج الرّياسة، وكثرة
الغّطاسة والعّطاسة في خم مولانا الرئيس، فضجرت ضجرا من تبادل الأدوار، والضحك على
الشعب والأخيار، وتمريغ رؤوس الرجال في وحل المزابل العمومية، وفي قمامات أثرياء
الدولة الغُمومية، فلم أجد لنفسي سبيلا سوى الخروج من الدار، والتوجه صوب الجار،
وأنا ألعن أبو النّار، الذي ورطني في الحديث عن الكبار.
ولما اقتربت من الدّار، ولم يبق إلا بضع أمتار،
صحت بأدب حتى لا أنعت بالحمار، فالنّهيق صار طبع الكثير، الصغير والكبير...
- يا همام يا همام .. أخرج إلينا أيها الجار.
فأجابني من الداخل: أقبل يا هلالي، استضاء بمطلعك الهلال،
واستنارت بوجهك الأنوار، وتعطرت بمقدمك الأزهار، وتغنت بمقدمك الأطيار، فأهلا بك
يا ابن الأبرار....
فصحت: ويحك يا همام
بن صعصعة، أتحسبني جِلْفَ فَلاة في قوقعة، ما حل بك اليّوم؟ أجننت أم تتجنى علي؟
فرد ولسان حال يقول: أهلا بك يا حبر زمانه، وعنترة
أقرانه، إنك اليوم عندي حبيب، وأقرب من القريب، ومقامك السّاعة كالطبيب، لقد جئت
في الميعاد، وأنا أحضر لعيد الأعياد، الذي أقسمت أن يحضره الأشراف والأسياد،
والعجائز والأولاد، وحتى الأنذال والأوغاد....
فقاطعته غاضبا: عيد الأعياد!! والله ما سمعت به قط، ولا
أرى منك سوى الخلط والهذيان والنّط، مابك يا رجل؟؟؟ أصابك اليوم مس؟ أم سكنتك صاحبة
قيس؟
فرد على دون روية:
والله إني لفي أحسن الأحوال، وأهنأ بال، مذ بلغ سعر النفط مثقال، وارتفع العلف
والغذاء، وشح الرئيس بالعطاء.... أما فَرحي بعد ترحي فيعود إلى الوفاء بالنذر،
الذي قطعته على نفسي.
اعلم يا جاري، ومكنون أسراري، أني قَطنت حي
"القَرَابَه" في دار أحد القَرابة، وأنت ترى الدار أية في الخراب
والدمار، فآلاف الجحور بين حنايا الصخور، حوت الأفاعي ذات اللدغات، والعقارب
والحشرات، وما لا يخطر على بال .. وأنت تعلم حالي، أشتري الدقيق بالمكيال، والسكر بالأرطال،
ولا تسأل عن البقية، التي أصبحت من خبر كان...
آه ياجاري
الكريم سُلط على "الزّلْطُ" فصبرت، والبرد فتحملت، والجوع فتضورت، والهم
فتجملت، وقناةً يتيمة فتعللت، ومِيرا منافقا فتململت، وواليا متملقا فتنكرت، ووزيرا
غائبا فتندرت، ورئيسا بعيدا عنا فتوكلت ... لكن لم يكن هذا مبلغ همي ولا مصدر غمي.
فقاطعته: ياهمام ما لي وهذا الكلام، لقد سمعته مذ أيام وأيام،
فأوجز الحديث، وليكن خفيفا ظريفا، فما أسمع اليوم إلا قولا هزيلا ...
فأجابني ساخطا: الصبر الصبر، فالخطب فيما هو آت...
فبالرغم من المصائب السالفة، وآرائي التالفة، وأحلام العزة الزائفة، إلا أن مصيبتي
الكبرى تمثلت في كرب عظيم، أفقدني العقل الرزين، والصبر المتين، أغلى الدّم في
عروقي، والثأر بين ضلوعي .. أنه خبيث لعين، مقيت مهين. أتلف قشي، وقيّض عَيْشي، ثم
خرب عُشي، سرق الدقيق على قلته، وخبزي برغم يُبسه.... فكرت في أمره مِرارا، ونصبته
له الفخاخ تَكرار، لكنها لم تنفع ولم تنجع ...
فصحت وقد نفذ صبري: ياهمام من يكن هذا اللعين؟؟؟
فرد دون اكتراث: صه، مه، لا تقطع حديثي يا هلالي،
فالأخبار بنت الليالي... المهم والأهم يا جاري، مرت الأيام، وأنا أقاسي منه الآلام،
وقد جَرَّعَني كؤوس العذاب، وعلمني شعر الهجاء والعتاب... وذات أمسية من الاماسي،
من غير أمل ولا انتظار، وقع المِشْرار. لا تسألني عن الفرح والحُبور، ولا عن
السعادة والسرور، لقد وقع اللعين الملعون أخيرا...
فسألت وقد حيرني أمره وشوقني مقاله: بربك يا همام،
وتالله وبالله، أخبرني من ذا اللعين ؟؟؟ أو ذا المسكين ؟؟؟
فرد كالعادة غاضبا، منتشيا بنصره: على رسلك ما أعجلك!!!
فما مقامك معي إلا كمقام موسى مع الخضر. أصبر فالصبر جُنة، والعجلة جِنة، ألا ترى
أن البلاد ضيعتها العجلة، فأوردتها التهلكة.
المهم يا جاري الكريم،
رفعت هامتي، واعتدلت في قامتي، وتبخترت في مشيتي، ثم توجهت إليه، فنظرت إليه
باحتقار ولوعة واحتسار. ثم شمرت عن ساعدي، وتناولت عصاي "مسعودة"، الموت
الأحمر أريد أن أسقيه، والألم الدفين أرغب أن أريه، فلما اعتدلت للضربة القاضية
قلت له: أيها اللعين!!! ألم تجد سوى هذا البائس المسكين، فتزيد غمه، وتعمق همه،
أين تركت كبار التّجار؟ المتلاعبين بالأسعار، المكدسين للدينار والدولار.. أين
تركت الأعيان، وأصحاب الوجاهة من ملاك الآبار.. أين تركت رَبْراب وأصحابه، وعمار
وزبانيته، وغول وأحبابه، والعزيز وحاشيته ..؟
وما إن
أتممت الخطبة العصماء والبتراء، حتى رفعت مسعودة عاليا، وهممت ضربه ضربة قاضية،
فسكت همام ....
مما دفعني إلى
السؤال والصياح: ثم ماذا ياهمام بن صعصعة؟ هل قتلته؟
فرد قائلا: كلا ورب الكعبة ما فعلت، لقد فكرت في قتله شر
قتلة، لم تسمع بها العرب قاطبة، من طنجة إلى اليمامة، لكني يا هلالي استحيت...
فلم أتمالك
نفسي، وقد أسرني الرجل بخبره، فقلت: يرحمك الله، أكمل حديثك... ومما استحيت؟
فقال متحسرا:
آه يا جاري، حال بيني وبينه ملك الشعراء، فقد استحيت من أبي الطيب المتنبي أن يصدق
وصفه على حين قال:
لقد أصبح
الجرذ المستغير
أسير المنايا صريع العطب
رماه الكنـــــــاني والعامري
وتلاوة للوجه فــــعل العرب
كلا الرجلين أتـــــــــــلى قتله
فأيكما غـــــــــــــل حر السلب
وأيكما كـــــــــــــــان من خلفه
فإن به عضـــــــــــة في الذنب
أسير المنايا صريع العطب
رماه الكنـــــــاني والعامري
وتلاوة للوجه فــــعل العرب
كلا الرجلين أتـــــــــــلى قتله
فأيكما غـــــــــــــل حر السلب
وأيكما كـــــــــــــــان من خلفه
فإن به عضـــــــــــة في الذنب
وما إن أتم عجز
البيت حتى كان جسدي على الأرض مُلقى من كثرة الضحك، وكاد أن يُغمى على مرتين.
وشعرت ساعتها بالضجر قد ولى القهقرى. فقلت وغصة الضحك تكاد أن تقتلني: ثم ماذا حدث
بعد ذلك يا صائد الفئران؟
اغتاظ همام من
ضحكي الذي بلغ العِنان، فنهرني نهرا .. ثم قال: اسمع أيها الغضنفر، لا تضحك على ما
هو دونك فتلك مصيبة، وأن شر البلايا أصلها المنبوذ، ألم تر إلى النمرود قتلته
ذبابة !!
أسمع لقد فكرت
في أمره، ثم قررت نجدته. فامتطيت صهوة حماري، وزادي أشعاري، وجهتي شركة عمار
بالقرب من مزرعة نزار، فلما وصلت قلت له: اسمع أيها اللعين، هذه الشركة دقيقها
بالأطنان، ومن أجود الأنواع الحسان. وبها جرذان سمان، وقربك مزرعة سعدان وحمدان،
فاتخذ لك عروسا وعش بأمان، ولا تعد لبيت رجل مثل "زْمَانْ". ثم رميته في
الشركة وتمنيت له البركة، وعدت إلى الدار عفوا إلى الغار ولسان حالي يقول:
من مبــــــــلغ العزيز عني نصائح
متوالية
إني
أرى الأسعار أســــــــعار الرعية غالية
وأرى
المكاسب نزره وأرى الضرورة قاسية
وسكت همام عن الكلام اللامباح، وهو عند خصومه نباح، يؤدي
إلى الجنحة والعقاب، ولا ينفع معه تظلم ولا عتاب. حال الرعية يا رَيْس حال، لو
تنطق الأرض لأبكت، ولو تشهد السّماء لأدمعت، فمن للمغبون والمظلوم؟، ومن للمقهور
والمَحْقُورْ.؟
استأذنته
للخروج، وحال لساني يقول: لله درك ودر أبيك، لا يبرح السّاسة حتى يَسمدوا، والولاة
حتى يَهمدوا، والعتاة حتى يَسمعوا، والطغاة حتى يَخنعوا .....
وخرجت من عنده
بدون ضجر ولا كدر، ولساني يُردد بيتا من الشعر:
ومن يك ذا لب سيفهم ** أن الألفاظ تخفي دوما معانيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق