الإنسان وجدلية الحضور والغياب
أد/ عبد القادر بوعرفة
موضوع الإنسان لا ينبغي أن يدرس بمعزل عن تاريخ الإنسانية جمعاء، ولا فلسفة التاريخ، فالظاهرة الإنسانية تحمل عموميات تشترك فيها جميع الفلسفات والمذاهب والأديان، دون أن ننسى النظريات العلمية التي أنتجها الإنسان على مر التاريخ. من المنطقي أن نتطرق إلى "الإنسان" في تاريخ الفكر الفلسفي بدءا من الأسطورة وما تحمله من فكر ميثولوجي، انتهاءً بحاضرنا وما يحمله من فلسفات وعلوم دقيقة. والغرض الكشف عن "فلسفة الإنسان" من جدلية أزلية: "ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من معكوس ما هو عليه."
إنّ هذه الجدلية ولدت على مر تاريخ العقل، هاجسا في وعي كل مفكر مناضل، امتلك البصيرة والقوة على التأمل والتفلسف، والغرض من اللحظة الهاجسية انبثاق في كل عصر مفهوم جديد عن الإنسان. ولعل بول هازار لم يكن مخطئا حين قال: "إن أزمة الإنسان في كل مكان عصر تلد مفهوما جديدا عنه". انطبعت في ذهن كل مفكر منظومة نسقية ذات بعد فلسفي، تحاول التنظير "للإنسان الأنموذج" من فضاءات التأمل وحدّة السؤال، ولقد عبر عن هذه الحقيقة الأستاذ محمد محي الدين في قوله: "كان الفكر على مر العصور يجتذب لنفسه (الإنسان المطلوب) من معكوس الإنسان كما هو ونقيضه، فلم يكن يسمح لأهواء الإنسان العادية ونزواته أن تكون عنصرا داخلا في تكوين إنسانيته، في واجب وجوده، ولم يكن غريبا بعد هذا، أن يصبح الإنسان المطلوب مجرد دعوة قائمة في أذهان مبتكريته، بينما كان البشر العاديون يسبحون في تياراتهم الرتيب، رافضين بذلك الإنسان "المسلاة" والذي ظل يشنق في عقل كل مفكر على مدى الزمان".
بدأ الاهتمام الجدي بالإنسان مع سقراط الذي غير مجرى الفلسفة، فبعد أن كانت فلسفة تهتم بأمور السماء وتلج في متاهات السفسطائيين، جعلها فلسفة تهتم بأمور الأرض والإنسان خاصة |
إنّ كل جيل في أي عصر كان، إلاّ ويسعى جاهدا أن يحقق الأنموذج الذي يجد لذاته فيه انسجاما ومع حاضره انعتاقا وتجسدا. حيث تعكس فلسفة التاريخ بوضوح حقيقة ماثلة للفكر، هي أنّ التاريخ لم يكن ليكون، لو لا وجود حركة الصراع بين النماذج المطلوبة والمرفوضة عبر تاريخ حركية الأفكار. إنّ صراع النماذج خلق توترا شديدا في عقلية كلّ شعب صنع لنفسه كيانا معنويا، وسياجا ثقافيا، مما دفع كل جيل أن يعمل لكي يكون أحسن وأفضل ممن سبقه أو ممن يعاصره. وعليه؛ سنرى من خلال الاستقراء الفلسفي للفكر البشري، مدى حضور الإنسان كمشكلة وأنموذج في أفكار كبار الفلاسفة والعلماء، وجميع من يمثلون الأنتلجنسيا أو النخبة المثقفة على العموم، وكما يقول مالك بن نبي في كثير من كتبه، لابد أن ننتج رجالا قبل أن نتج أشياءً، لأنّ إنتاج حضارة يبدأ أول الأمر من صناعة إنسان مُتكامل. ولم نقرأ أبدا أنّ أمة ما، أم شعبا، استطاع أن يدخل التاريخ ويوجهه ما لم يكن في البداية صنع "الإنسان النموذج".
فكرة الإنسان النموذجي ليست فكرة جديدة، وإنّما فكرة قديمة قدم التاريخ، لقد ظهرت مع بداية القفزة التي شهدها الإنسان البدائي، فخروجه من حالة التوحش (Etat sauvage) إلى حالة التأنس (Etat sociable)، تعكس أنّ الإنسان البدائي (L'Homme primatif) رفض حالته البدائية التي لا تميزه عن الحيوان، لا من حيث نمط المعيشة ولا من حيث أشكال التكيف الطبيعي، فحلول فكرة الألفة والأنس وظهور المعاشرة كنظام وفن العيش، توضح بدون شك أنّ الإنسان البدائي بدأ عقله يعمل، وتأمله يحدس، ضرورة حضور الأنموذج، ولعل تلك القفزة جعلت فكرة النماذج تأخذ طابعا إيجابيا يتجه نحو المشهد الحضاري والحقل التاريخي. وعندما ندرس رواية ابن الطفيل "حي بن يقظان" ندرك أنّ الطفل لم يكن في بدايته سوى كتلة لحمية لكنه سرعان ما أدرك أنّه يختلف عن الغزالة الأم بعد موتها ببرهة، وشعر في لحظة ما، أنّ هناك فيض بداخله، يدفعه إلى أعلى، جعله يحدس في لحظة تأملية أنّه إنسان رسالي وليس مجرد حيوان وحشي، إنّها اللحظة نفسها التي شعر بها الإنسان البدائي. وإذا كان حي بن يقظان يعتقد أنّ ما ميزه عن باقي الكائنات هو مدى ارتباطه بالله عقليا، فإنّ الإنسان المُستأنس كان شعوره بالتميز يكمن في مدى رفضه للحال ومدى حضور صورة الأنموذج في ذهنه وتطلعاته.
إن فكرة الطوطم يمكن اعتبارها فلسفة بدائية، تحاول أن تضع النموذج المطلوب في إطار من القداسة، إذ أن الطوطم إذ كان إنسانا، ينظر له نظرة تعظيمية، ظنا أنه الكمال المفقود والنموذج المأمول. منذ أن بدأ الفكر الإنساني ينضج ويرتقي، بدأت فكرة النموذج تأخذ أبعادا جديدة، تجاوزت ما هو طبيعي مادي إلى ما هو غيبي، أو بصورة أدق إلى ما هو خارق لطبيعة الإنسان الضعيفة، والعلة تعود إلى كون الإنسان بدأ يشعر أن الرقعة التي يقطنها ليست مغلقة بل مفتوحة لا تعرف الحدود، وأن العالم أوسع مما كان يتصوره بكثير، ومن جهة أخرى أن الإنسان لمّا خرج من البدائية، بدأ يعرف صعوبات ومشاكل في علاقاته ونظم حياته، فكان لزاما أن يتناسب التطور الفكري وحركية الإنسان النموذجي المطلوب.
ومن جانب آخر، فإن أزمة العيش والحاجة وغريزة حب البقاء، دفعت الإنسان للبحث عن النموذج الذي يجد فيه ذاته المتوترة، فظهرت الأسطورة والخرافة لكي تترجم الهاجس السابق، رغم ما نعلمه الآن عنها، من مفارقة للواقع وما تحمله من تناقضات، وبتعبير أفضل إن الأسطورة تعكس سلوكا سحريا، وتكشف عن رغبة مكبوتة في اللاّشعور الجمعي، لقد كان الإنسان الغابر يبحث عن الكمال المفقود في كل شيء، المعرفة، الحكم، الإنسان، الخلق، الموت، .... فلم يجد مفكروه ومبدعوه إلا الأسطورة كحقل تزرع فيه الأفكار والمفاهيم، وما يعتقد أنه حقيقة بالماهية.
لقد بدأ الاهتمام الجدي بالإنسان مع سقراط الذي غير مجرى الفلسفة، فبعد أن كانت فلسفة تهتم بأمور السماء وتلج في متاهات السفسطائيين، جعلها فلسفة تهتم بأمور الأرض والإنسان خاصة. فانبثقت عنه مجموعة من الرؤى والتصورات حول ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من معكوس من هو عليه، وحدد منهجا خاصا لبناء الإنسان النموذج، مرتكزا على مبدأ أخلاقي، مبني أساسا على الفضيلة وفكرة الخير لذاته. كان سقراط يؤمن أن تغيير الإنسان لا يمكن أن يحدث ما لم نقم بعملية تطهير لكل فرد، لذا سن شعاره المشهور "اعرف نفسك بنفسك"، محاولا من خلاله تنبيه الإنسان بأن ميلاده الماهوي بيده لا بيد غيره، إن سقراط كان يؤمن أن المجتمع اليوناني لن يتغير ما لم ننتج رجالا وفق ما يتصوره الحكماء، إن حضور النموذج أكيد في كل عمل تجاوزي يهدف إلى القطيعة.
ولقد تفطن أفلاطون أن نموذجه المُتخيل لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود نظام سياسي يحميه من الطغمة الشريرة، فالنموذج الإنساني بحاجة إلى نموذج سياسي يواكبه ويحميه من المدن الفاسدة، فكانت "الجمهورية" في نظر أفلاطون السياج الأمثل لتحقيق نموذجه المفقود. إن جدلية الإنسان اتضحت بشكل مبهر وملفت للانتباه مع عصر النهضة بالخصوص، حيث تحول إلى مركز الأشياء بعدما كان مجرد كائن يعيش في الهامش وعلى تخوم الأحداث، إن مركزية الإنسان أدت إلى ظهور نماذج مفارقة للماضي، كان من أبرزها الإنسان المتفوق لفرديريك نيتشه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق