عبد المجيد مزيان ومفهوم الانبعاث الحضاري
أد عبد القادر بوعرفة
30/4/2019
لم يكن عبد المجيد مزيان مجرد رجل عابر لأتون الزّمن الحارق، ولا مجرد سياسي أثقلته هموم السّياسة وابتلعته تلابيب الدسائس، بل كان رجل فكر وتأمل، حلم وخيال، يتقد فكرا كلما انزوى في معبد الفكر، وتهجد في صومعة الفلسفة. لم يكتب كثيرا، ولم يترك إرثا ثقيلا، لكنه في المقابل ترك إرهاصات فلسفية، وتصورات اقتصادية، واجتهادات دينية ... تغدو عند نسجها ورصها مشروعا حضاريا، وعتبة من عتبات الانبعاث الحضاري المأمول في عالم إسلامي لم يرتق ويَعْتَل بعد أولى عتبات الحضارة، ولم يتخلص لحد الساعة من ضريبة الانحطاط الباهظة.
يجب أن نصرح أول الأمر بأن عبد المجيد مزيان لم يكن صاحب مشروع حضاري مقارنة بأصحاب المشاريع العرب، أمثال مالك بن نبي، محمد عابد الجابري، أو حسن حنفي ... ولكنه كان قد حمل هاجسا وهما حضاريا ثقيلا، عبر عنه في العديد من كتاباته ومحاضراته ولقاءاته التلفزيونية. وعندما ندرس تلك الهواجس والخواطر ندرك ملامح مشروع حضاري لم يكتمل بعد؛ ولم يُصرح بولادته لظروف لم يستطع عبد المجيد مزيان نفسه أن يتجاوزها.
تحدث عن الغد والمستقبل؛ وفي حديثه عن الغَدية نجده لا يختلف كثيرا عن لحبابي، فهو يصر على ضرورة التفكير في الغد والإعداد له إعدادا يليق بالمسلم في عالم يحتكره الكبار. وتحدث عن الحضارة ومشكلاتها، وهو في ذلك لا يختلف كثيرا عن مالك بن نبي، بل نجده أضفي طابعا خلدونيا جديدا على تصورات مالك بن نبي وأفكاره عن الحضارة. ومن خلال ما سبق، نجزم أن عبد المجيد مزيان تحدث بوضوح عن عملية إحيائية نوعية تخص الانبعاث الحضاري المرتقب، وقد حدد لها جملةً من الشروط، استطعنا من خلال دراسة مسحية لجل ما ترك من آثار في مجلة الأصالة بالخصوص، أن نحصيها ونرتبها ترتيبا تصاعديا، ونقصد الانتقال من الشروط الذاتية إلى الشروط الموضوعية.
مفهوم الانبعاث الحضاري
ينظر عبد المجيد مزيان للحضارة من منظور تركيبي لا هُوياتي، فالحضارة عنده هي كيان مركب يغذي الشّعور بالانتماء إلى فضاء عام جد متطور، حيث تتناسب فيه الإبداعات مع حركة التطور والرقي السائدة. وعليه، تغدو الحضارة تركيبا منسجما بين مظاهر التمدن الكبرى، أي كل الإبداعات الاجتماعية، الاقتصادية، السّياسة، الفكرية، التقنية، والفنية .... بحيث تشكل تلك الأنساق تميزا لأمة ما، وتجعلها تترك بصمةً تاريخيةً.
تتجلى الانطوائية الحضارية في رفض المسلم التعاطي مع التاريخ ضمن منطق التغير والتبدل والتحول، واعتقاده بأن الحضارة يمكن أن نؤسسها على الثابت والأبدي، إن هذا التفسير للحضارة يخالف طبيعة الإسلام ذاته |
نلاحظ بأن مفهوم الحضارة عند عبد المجيد مزيان يرتكز جزئيا على الرؤية الخلدونية، فابن خلدون جعل الحضارة تتجلى في طبيعة العِّمران البشري، والذي يعكس بالضرورة التّمايز الحاصل بين المجتمعات البشرية في ظاهرة التمدن وطرق الاجتماع. ويعتبر المعاش وطرق تحصيله من أقوى الصفات الجوهرية للحضارة، وفي هذا المجال عرف ابن خلدون الحضارة فقال: " أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة، وأنها أصل لها فتفهمه. ثم إن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمراناً من مدينة، فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدّعة التي هي متأخرة عن عوائد الضروري المعاشية."
سيجعل هذا التصور الخلدوني اقتران بلوغ الحضارة أوجها بنهاية العمران وقمته، فإن أوج ما يصل إليه العمران هو ظهور سمات الحضارة من ترف في العيش، وكثرة الصنائع، وتنوع الفنون، واختلاط الأعراق والألسن، وعليه تصبح الحضارة هي منتهى الاجتماع البشري. ويبدو أن عبد المجيد لم يخرج عن السّياق ذاته، ففي مقاله "طريق الذهب وطريق الثقافة" يرى أن طريق الذهب حين استغنى عن الثقافة أنتج حضارة بائسة، فبالرغم من تطورها وترفها إلا أنها مهدت لزوالها وفنائها:" نحن نعلم أن طريق الذهب الذي عُبد في قرون قد أكلته صحراء التبذير والملذات والانحطاط في سنيين وذهب أدراج الرياح بين الجواري والقصور والخمور في غرناطة وتلمسان وفاس. هكذا دُمِرت هذه القرى الفاجرة لأن مترفيها فسقوا فيها."
ويبدو من خلال ما سبق، أن عبد المجيد لا ينظر إلى الحضارة من حيث هي ترف ومكتسبات مادية فحسب، بل الحضارة تكمن في الوعي بالتقدم نحو الأفضل مع الحفاظ على الإرث والقيم الروحية التي تحفظنا من الانزياح نحو مزبلة الحضارة، كما حدث لحضارة الأندلس وبلاد المغرب الكبير. إن الحضارة هي إرث متواصل يتطلب عملا آنيا وتطلعا مدروسا نحو المستقبل، عندئذ يتطلب منا تجسيد هذا الأمل ثورةً عارمةً تمكننا من الإقلاع الحضاري وفق سنن الكون وفلسفة التاريخ.
لا تنطلق عملية الإقلاع الحضاري من فراغ، ولا يجب أن تتأسس على قطائع لن تجعل الحضارة بمأمن من مكر التاريخ، بل يجب أن تنطلق من أبعاد الزمن الثلاثة معا، فالماضي تراث وجذور، والحاضر وعي وعمل، والمستقبل أمل ومصير. يفرض الإقلاع الحضاري أن تكون عملية الإعداد له مدروسة وهادفة، ويجب على الجيل الذي يحمل رسالة الاستخلاف والشّاهدية أن يوفر جميع الشروط الضرورية للقفزة الحضارية المأمولة.
ينطق المفكر عبد المجيد مزيان في تأسيسه للمشروع الحضاري من قاعدة إبستيمة هامة؛ تقوم على ضرورة تجاوز كوجيتو حضاري سلبي، تمثل في مقولة: " أنت منطوي إذن أنت منحط حضاريا" إلى كوجيتو إيجابي، يتمثل في:" أنت منفتح حضاريا إذن أنت إنسان سوي." تدل هذه المقولة على أن الحضارة لا يمكن أن تتأسس على الفكر السّحري الذي يعيش في أتون (موقد) الماضي ومتونه فقط، بل الحضارة تتأسس على مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية. وأول شرط من شروطها؛ ضرورة أن يكون المسلم منفتحا سويا، وألا يكون شخصية منطوية مريضة، والغاية من هذا الكوجيتو تحرير المسلم من ذهنية الرجوع إلى الوراء (الماضي)، فالحضارة لا تُبنى من خلال قانون العودة إلى الوراء بل الحضارة دوما تتشكل من خلال قانون التقدم نحو المستقبل، ولا يمكن أن يصل المسلم إلى هذا الوعي إلا إذا تحرر من وهم وسحرية الماضي، فلا العصر الذهبي للإسلام ولا صدر الإسلام يمكِنهما أن يحلا مشاكل المسلم في أي قرن قادم.
تتجلى الانطوائية الحضارية في رفض المسلم التعاطي مع التاريخ ضمن منطق التغير والتبدل والتحول، واعتقاده بأن الحضارة يمكن أن نؤسسها على الثابت والأبدي، إن هذا التفسير للحضارة يخالف طبيعة الإسلام ذاته كما يقول عبد المجيد مزيان نفسه: " حينما نتكلم عن الإسلام فهناك أناس يفسرون الإسلام تفسيرا تعسفيا أو غير لائق. الإسلام ومعنى السلفية هو الرجوع إلى الظروف الاجتماعية السياسية الثقافية التي كانت موجودة في عصر هارون الرشيد أو غير ذلك، أي هناك رجوع إلى الوراء، هذا النوع من التحديد الضيق للإسلام سيبقيه إسلاما منقولا عن عصور أخرى. هذا التفسير للإسلام ضيق ومنحرف. لماذا؟ لأني أعتقد كذلك من جانب آخر، أن الإسلام في بداية أمره، وخصوصا في الأربعين الأولى كان ثورةً بأتم معنى الكلمة."
وتقتضي ثورية الإسلام أن يظل المسلم ثائرا مُغيرا مبدلا، ففي كل عصر إلا ويقتضي مقام الشّاهدية أحوالا غير التي كانت في العصر الذي سبقه، وإذا انحرف المسلم عن المنهج الثوري سيكون الانطواء والانحطاط محطته ومرتبته، ويكون بذلك فقد رسالته بأن يكون شاهدا على الناس في الدنيا والأخرة معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق