المقامة الوَهْرَانِية
عبد القادر بوعرفة
********
حدثنا عامر بن صعصعة
فقال: حَالُ البلاد في الصّيف عَجبٌ، وأحوالُ العبادِ فيها عجبُ العجب، فكلما أبرق
الصّيف، كثر العزف والزّف، والنّقر على الدّف، وأكل ما طاب ولذ من الطعام، ولُبس
ما غلى وازّين من اللّباس. وكل ذلك من كثرة الأعراس، وأفراح النّاس، والتي تُعد
بالأخماس والأسداس، ويُعلن عنها بالطبول والأجراس.
ذات
أمسية من الأماسي، بينما أنا جالس في بهو الاستراحة، تحت ظل شجرة فواحة، أقبل علي
العم مفتاح، وقد بدت عليه تباشير الفلاح، وتقاسيم الانشراح، وتهَاليل النجاح، فلما
دنا مني دنوا قال: السلام عليكم يا أهل الصلاح، شذاه عليكم حتى الصباح. فرددت عليه
مداعبا: ومثله على أهل الفلاح، والناس الملِاح، أقبل فكل معي بعض التفاح، وكأس شاي
بالنعناع، يزيل الصُداع، ويُهدئ الأوجاع.
جلس العم مفتاح، وهو يداعب القدح لثما، ويقضم
التفاح قضما، حتى أجهز على ما في السّلة، وشرب ما في الإبريق، وكأنني به لا يَمْضغ
ولا يَصْمغ، والحمد لله أن الإنسان خُلق بفم لا بفمين.
ولما بلع الكل شَبِع، ثم تربع وخشع، وابتدرني
بالكلام: جئتك اليّوم في مسألة، مالها عندي ترجئه، فأرجو منك التّنوير، التوضيح
ودقة التّصوير، وأنت كما نعلم ابن الجامعة، بخباياها ضليع، وبخفاياها سميع.
قاطعته ساخرا قبل أن يسأل: خيرا يا حاج، لما اللجاجة،
والتنميق والديباجة ؟، وأنا كما تعلم لا أملك بناتًا للزواج، ولا ديكة ولا دجاج....
قال غاضبا: كف عن المزاح، واسمع يا صاح، إني
اليوم لفي سرور وانشراح، خاصة وقد نجحت بُنيتي صباح، وقد جنت غرس الكفاح، وسهر
الليالي الجِماح، فتوجت مشوارها "بالباك"، وما أدراك ما "الباك"،
وأريد تسجيلها بالجامعة، لأضمن لها مستقبلا ووظيفة ناجعة، تقيها شر الفاجعة،
والفقر وكل قارعة.
قلت: أه الجامعة، بل
قل يا حاج القامعة، ولا تخشى الصاعقة، فهي جامعة العطل، الفوضى والكسل، نهارها
رحل، وكثرة الشلل، وتعدد النحل، وتنوع الملل ..... فيها لا تفرق بين المذكر والمخنث
والمؤنث.
قاطعني الحاج: صه مه
.... ما هذا الذي أردت، ولا الذي قصدت، ..... إنما سألتك عن الطلاب والآداب،
والأساتذة الأحباب، العمال والمدراء، وكل ما يهم الوَالج دون الخارج، ولو تعلق الأمر
بخم الدجاج، أو قطع الزجاج.
قلت له عندئذ: مبارك
عليك أولا النجاح، وأنعم الله على بُنيتك صباح. ولكن يا حاج مفتاح كلامي لا يُعجب،
وللآذن لا يُطرب والسّمع لا يُطنب، فإلى غير اذهب، حتى لا تسمع ما يُغضب.
فقال: والله لن أدعك، حتى استقي منك ما أريد، وعنك
لن أحيد، فأخبرني عن الطلاب والآداب.
قلت له دون تمهل ولا انتظار، وقد أخذتني
العَبرة، وخنقتني الحَسرة: طلاب كالذباب، يحملون كل شيء إلا الكتاب، المعرفة
مهجورة، والأقلام مكسورة، والأفكار مأسورة، والعقول محجورة. أَلبستهم غريبة، وأَسبلتهم
عجيبة، فالسراويل مُقطعة مُمزقة، كسراويل المجانين، أو الضالين التائهين، وقمصانهم
مرقطة، كتبت عليها عبارات منمقة، تخدش الحياء، وتروج للشواذ والشّذاذ.
فقاطعني ساخطا: حسبك
ما وصفت، فما حال الطالبات وما أخبار البنات؟
قلت بنبرة كلها النكبة:
كاسيات عاريات، غائبات حاضرات، راسبات ناجحات، ذائبات في حكاي الهوى وآساطير
المعذبين بالنوى، وأحاديث الجوى. معاشرة أهل الفسق عندهن شطارة، ومواعيد الفسق
عندهن تجارة.
فرأيت وجه الرجل قد
تغير، فاصفر وتضمر، فسكت عن الوصف، برهة من الزمن، ثم خاطبني: أخبرني عن
المدراء، والأساتذة النبلاء، والعمداء الفضلاء، وكل أسلاككم من الحُجاب إلى
الوزراء.
قلت: يا مفتاح لا
تكن ملحاحا، فتسمع مني ما لا تريد، وأرجوك ألا تزيد، فالطيور على أشكالها تقع، والأحجار
على أجناسها توضع، والأسمال على خرقها ترقع، فالمدراء جياح، يقطفون التفاح، من
الحدائق "الأح آح" ودكاترة شحاح، مُلاةُ لا شراح، بضاعتهم غير مجزاه،
ترد لهم دون زكاة،
ومن حاد عنها فالصفر لا محالة آت.
فقال مقاطعا: أخبرني
عن العمال وهل عليهم المآل يوفون بالمنال؟ أجبته فورا: عمالها متخصصون في
النطاح، كأنهم تيوس البطاح، البلبلة والصياح، والكلام اللامباح، وسب الرب عندهم مباح.
فقال
غاضبا: دعني من حديث الناس، فما أضنك إلا فاقدا للإحساس، حدثني عن الأكل والمبيت، والخبز
والزيت، والتمر والثمر...
فقلت: تقصد الأحياء
الجامعية، هي كالمحاشد النازية، والمداشر الترابية، أو المستشفيات العنابية،
استعمرتها جحافل النّاموس، وما لا يخطر في أي قاموس. سكنتها الكلاب والقطط، الشواذ
واللُّقط، ليلها شطح وردح، ......
فقام الرجل وقال: والله لو كنت أدرى ما تقول، ما
في الأصل عنك أتيت، لقد حبست البسمة في الثغر، وأوغرت الصدر. فقلت له: لو
عشت بها لعلمت بأن وصفي لها قليل، وعلمي بخباياها عليل، ألم تسمع قول أحد الطلاب:
يا معشر
الطلاب لله خبروا إذا حلت البلية بالفتى
ما يفعل
فالناموس في سمانا
كتائب له مع الدجى في الاذان صلصل
أو قول متخرج منها شويعر:
آليت ألا آتي
جامعةً بعدها ولو كانت بدار خلود
حللت بها سعيدًا
مُنعمــــــــًــا وخرجت منها كآل
ثمود
وما أن أتممت البيت،
حتى قفل الرجل ناكصا، وهو يلعنني لعنا، ويسبني سبا، ناعتا إياي بالخبال والوسواس، وقلة
الإحساس، والانطواء عن الناس.
ضحكت ضحكا، حتى كاد القلب أن ينفطر، والبصر أن
ينحسر. ولما غاب عن الأنظار، وتوارى خلف القفار، قمت من مكاني، وكنت لحظتها سيد
زماني، أردد زهوا بعض الأغاني، ومن الحين للحين أنشد الأشعار، فأترنم بها ترنم
الأحبار، ومنها ما أسرده في الحال، وهو من أجل الأقوال:
أيها البدوي التائه في ظلمة الصحراء
ترجل عن فرس الكبرياء،
فأنت في زمن الحيارى
وفي درب السكارى، خانتك الذكريات
أيها النبي بلا كتاب
ولا دعوة، والمحارب بلا عتاد ولا عدة
العيس ظمأى والصحراء
عطشى، ويداك ضارعتان للسماء
تستجديان قطرة ماء، من رحم غيمة صيفية
أيها البدوي ترجل عن
فرس الكبرياء
فأنت لا تمتطى صهوة الداحس
ولا الغبراء
أيها البدوي الموغل
في المسير
أسمالك الرثة اشتكت
منك، وسيفك تقزز من راحتيك
والبدوية القابعة في
الخيمة، ملت من عينيك ... من شفتيك
ومن نتن فخذيك
... وإبطيك
الشِّعر جفاك وكنت
ترسله زهورا ربيعية
جفاك الشِّعر رفيق
العمر... دفين الصدر
وتعصرن على إيقاع
الروك والموسيقى العبثية
تهللت طلعته
البهية... وارتدى أسمالا ليفية
فضاعت جهود
الخليل... وتأوه المتنبي والبحتري
وقالوا جميعا من رمس
الأبدية
جنون جنون وانتحار
للقصيدة العربية
جفتك أبيات الشِّعر
بعد بيوت الشَّعر
تمهل لقد سُرقت العربية
فلغة الضّاد صارت
لها ألف ضرة
فافا وكيكي حبلى...
فانتظر أبناء اللكنة العجمية
أيها البدوي، لم تعد
لك اليوم دار ولا قرار
فالواحة الخضراء
بيعتها بكؤوس خمر وردية
وبراميل النفط صارت
مَنيا...
من خصيتك تسيل دون
روية
أيها البدوي من غير
عباءة ولا كوفية
أين الفرس والقوس
والنخوة القيسية؟
أيها البدوي ...
كعبتك صارت حانة
وعندما تسكر لحد
الثمالة، تصيح خانقا أنفاسك قائلا،
كذاب كذاب أنا يا
ابن الأمة العربية
في صلاتي في قنوتي، في
خشوعي في دموعي
صدح بها نزار في
ترانيمه الشعرية
وأُرسِلها اليّوم
شجونا أبدية
أيها البّدوي ترجل
عن فرس الكبرياء
فأنت يا صديقي متعب
بالعروبة
فلقد صارت اليّوم لعنة
وعقابا وأذية