الكتابة الفلسفية
يشهد التّدوين الفلسفي في العالم العربي رواجا
لا نظير له، خاصة بعد تطور شبكة الاتصالات العالمية وتطور آليات التّواصل بين
البشر. غير أن التّدوين الفلسفي لا يعني وجود كتابة فلسفية، فالتّدوين أشبه ما
يكون بقرض الشّعر، بينما الكتابة هي كحالة النظم المبدع.
تستوجب الكتابة كفعل حضاري جملة من الشروط
حتى تصل إلى مصاف الكتابات الفلسفية، ولذا قدم طه عبد الرحمان جملة من الشروط تجعل
الكتابة الفلسفية كتابة أولا ثم حالة إبداع ثانيا.
يعد فعل التحرير فعل ذو دلالات متنوعة، فتحرير
الأرض والذّات كان ولازال مركز أغلب المطالب والمقاصد، بيد أن طه عبد الرحمان
أضاف نوعا جديدا من التّحرير، هو تحرير الكتابة الفلسفية العربية من التّبعية المعجمية
والأسلوبية والنّحوية والدّلالية للغة الآخر، فالرّسم العربي الظاهري للغة لا
يُعبر بالضرورة عن جوهرها وماهيتها، بل الذي يُعبر عن الجوهر هو البِّنية المعنوية
والأسلوبية.
ونلاحظ أن عملية تحرير القول الفلسفي تستوجب
التأهب للحظة التأصيل الإبداع، وهذا الترابط بين فعل التّحرير وفعل التأصيل يجعل
مشروع طه عبد الرحمان أكثر استراتيجية من غيره، لكونه ربط بين هُوية الكتابة
وهُوية الكاتب، فالنّص الفلسفي هُويته اللغة التي يُعبَر بها عنه، وهُوية الكاتب
تكمن في تأصيل ما يُفكر ويِؤمن به.
إن إبداع كتابة فلسفية
أصيلة ومتحررة من قوالب اللغات الأخرى كفيل بأن يُمهد سرح العصر الذهبي للفلسفة
العربية مستقبلا، ولتحرير الكتابة الفلسفية من مكبلاتها وعوائقها ينبغي التحرر من
الأمور التالية:
1-الخروج من دائرة الاجترار والتكرار والتقليد
والنقل، أو ما يُسمى بالموضة. إذ أصبح البعض يحاول أن يُكرر ويجتر ما يثير النّاس
والقراء، وما يجعل الصحافة تتهافت عليه.
2-عدم جعل الكتابة
وظيفة إيديولوجية، لأن الكتابة الفلسفية تتميز باللايقين وهدم الأيقونات
والمسلمات، فهي كتابة شكية هدمية تراجعية.
3-التّعالي عن
الكتابة كمهنة ارتزاقية، فالإنسان الذي يكتب وفق الطلب والعرض لا يكون وفيا
لأفكاره ومعتقداته، بل يُحاول أن يتقمص الأدوار التي تدر عليه الربح والقوت.
4-عدم الوقوع تحت
سحر الكتابة النّجومية، لأنها الكتابة من أجل الشهرة لا تُقدم عملا خالدا يحيا
رفقة الأعمال الكبرى كجمهورية أفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، ومدينة الرب
لأوغستين، وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، وفصل المقال لابن رشد، ومقالة في
المنهج لديكارت ..... بل الكتابة النّجومية تفقد بريقها بمجرد ولوج الخشبة من
يُجيد الدور أفضل من الأول، عندئذ تصبح جل الأعمال المقدمة من قبله في مزبلة
التاريخ.
ومن بين أهم شروط الإبداع لغة الكتابة، فغياب
الإبداع في النّص الفلسفي باللغة العربية يرجع إلى عدم إتقان اللغة العربية أصلا،
فالإبداع كفعل تعبيري دلالي رسالي تواصلي يفرض أن تكون اللغة المُعبرة عنه تحمل
موصفات اللغة الواصفة، العالمة، الشارحة .. فالكتابة الفلسفية باللغة العربية تشكو
خللا في الصياغة الأسلوبية، الانتقاء، البلاغة، المجاز، القوة، دون أن ننسى
الهنّات اللغوية، وتكسير قواعد النّحو العربي عند التّخريجات المفاهيمية أو
الاشتقاقات اللّغوية.
كما أن الكتابة الفلسفية لا بد أن ترتبط بأسئلة
الغاية والقصد من الكتابة: لمن ؟ لما ؟ وبما؟ وما؟ ... فتحديد الآليات والمقاصد
يُعطي للكتابة الفلسفية قوة، ويُمكنها من التّغلغل في المجتمع، وتشارك الناس في
الراهن اليومي والعالمي دون أن تقع في الإسفاف. أ.د/ عبد القادر بوعرفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق