بوعرفة عبد القادر
منشور بمدونات الجزيرة
لم يكن التّحول الذي حدث بالجزائر بعد وفاة الرئيس الهواري بومدين سهلا ولا مريحا، بل كان صعبا وخطيرا، حيث احتدم الصراع بين أجنحة السلطة والحزب الواحد، والكل كان ينتظر أن يكون خليفة الرئيس الراحل إما وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة أو الرجل القوي في حزب جبهة التحرير الوطني محمد صالح يحياوي، بيد أن الواقع أفرز ما لم يكن متوقعا أصلا، حيث عمل رئيس المخابرات الجزائرية السيد قاصدي مرباح على تقديم الشاذلي بن جديد مرشحا للحزب العتيد والجيش معا، والذي كان آذاك شخصية عسكرية مغمورة، ولم يكن له باع طويل في السّياسة وفن الدبلوماسية.
وإضافة إلى شخصية الشاذلي البسيطة واللينة أكثر من اللزوم، كانت التحولات العالمية المتسارعة في الثمانينات تدفع الجزائر إلى اتخاذ جملة من المواقف أقل سطوعا وجرأة مما كانت عليه في عهد الهواري بومدين. ويبدو أن الرئيس الشاذلي بن جديد كان ضحية مقارنات غير سليمة بين فترته وفترة بومدين الأكثر شعبية وإثارة.
كانت مشكلة الرئيس الشاذلي بن جديد تكمن في عدة جوانب، أبرزها أنه لم يكن خطيبا مفوها كبومدين، وكان يرتكب في الكثير من المواقف تناقضات وأخطاء لغوية، ومن ذلك قولته المشهورة التي تحولت إلى نكتة العصر: " الدولة التي ليست لها مشاكل ليست بدولة، والحمد لله الجزائر ليست لها مشاكل." هذه الجملة ذاتها، ذكرها الرئيس بوتفليقة في أحد حواراته الصحفية، وكان الغرض منها النيل من الرجل الذي سلبه خلافة بومدين سنة 1979. والمشكل الآخر للرئيس أن رئاسته تزامنت بعد الانفتاح والخروج من الاقتصاد الموجه بمرحلة ندرة السلع الأكثر استهلاكا، والتي لعب خصومه من أهل السياسة والمال دورا كبيرا في إثارتها كلما سنحت لهم الفرصة.
يجب القول بكل صدق أن الرئيس الشاذلي بن جديد لم يكن أبدا كما تُصوره النكتة في الجزائر، فلقد كان رجلا طيبا وبسيطا، لا يُحب المظاهر ولا يجري وراء الشهرة والنجومية |
تهكم الجزائريون على الرئيس بن الشاذلي جديد زمن ندرة السّلع، خاصة مادتي السكر والزّيت، وهما مادتان ضروريتان لكل بيت جزائري. وندرتهما شكلت أزمة للأسر الجزائرية، خاصة أن أغلب الأكلات الجزائرية تتطلب مادة الزيت، كما أن ارتشاف القهوة والشاي تتطلب السكر.
ابتكر الجزائري نكتا كثيرة، وأغلبها تصور واقع الندرة تصويرا بليغا، وتتهكم على رئيس الدولة تهكما مُزريا، أحيانا تصوره بصورة الذكي الذي يتعامل مع ظاهرة الندرة تعاملا خلاقا وذكيا، ومن ذاك أن الرئيس الشاذلي بن جديد كان يتجول رفقة السفير السعودي في سيارة غير رسمية، ومروا على طوابير لشراء الزيت والسكر فدار حوار بينهما:
السفير: إيش هذا الجمع يا طويل العمر؟
فرد الشاذلي: من أجل تقديم واجب العزاء لعائلة شخص توفي البارحة، وهو شخص مهم جدا. (وقد تحرج من إخباره أنها طوابير لشراء السّكر والزّيت)
وبعد عودتهما، قرر السفير السعودي أداء واجب العزاء، خاصة أن الرئيس قال له بأن الفقيد شخصية هامة ونافذة.
فقال للسائق: خذني إلى مكان ذلك الجمع، ولما وصل وجد طابورين، توجه للطابور الأول، وسأل رجلا: عَزيت؟ يعني (هل أديت واجب العزاء)، فأجابه الشخص: لا، أنا عالسكر. (يعني أنا أنتظر دوري لأشتري السكر).
انتشرت النكتة زمن الندرة انتشارا مريعا، وأخذت أشكالا من الاحتجاج على سياسة الدولة الفاشلة في توفير ضروريات العيش، ومن ذلك نكتة خلدت هذا المشهد المأساوي لأغلب الأسر الجزائرية، مفادها أن الرئيس بن جديد قرر ذات يوم الخروج في جولة تفقدية في البحر، فما أن توسطه حتى ظهر سمك السردين بالخصوص وهو يهتف: يحي الشاذلي، يحي الشاذلي .... فتعجب الرئيس كيف يهتف بحياته السمك ويأبى الشعب ذلك، فقال له أحد مستشاريه: سيدي الرئيس إن ندرة الزيت جعلت البحارة لا يصطادون السمك لامتناع الشعب عن شرائه لعدم وجود الزّيت، ولذا هو فرح مسرور.
كانت كل سنة تشهد زيادة في قائمة السلع النادرة، فكانت دائرة المواد المفقودة في السوق تزداد يوما بعد يوم، ولعل أغربها انعدام " الشّمة" وهي نوع من التبغ يوضع تحت الشفة... وهي مادة يستهلكها الجزائريون بكثرة خاصة زمن الثمانينات، وأدى افتقادها إلى أزمة كبيرة لدى مستهلكيها خاصة أن الانقطاع عنها يُسبب الصداع وألم الرأس.
ذات يوم خرج الرئيس الشاذلي بن جديد وحيدا يتفقد رعيته خارج العاصمة، وأستوقفه في الطريق الجبلي شيخ قروي، فحمله واستأنس برفقته، وبدا في الطريق يسأله عن الأوضاع وعن البلاد والعباد ... والرجل يجيبه بما يعرف وهو لا يعرف أنه الرئيس.... فسأله الرئيس: هل تَشُم؟؟ (هل تتعاطى التبغ)، فقال له القروي: أجل. فقال له الرئيس: ولكن (الشّمة) التبغ نادر؟؟؟ قال القروي: استعمل بدل التبغ العرعار المُمَرد.
قال الرئيس: هل تعطني كمية أجربها؟؟ قال القروي: أه يا صاحبي إنه يدوخ ويُسكر من لم يعتاد عليه.
فقال الرئيس: لا عليك أخوك مجرب. فأعطاه كمية معتبرة، فشمها الرئيس دفعة واحدة. ثم التفت إليه ... وقال له: ألم تعرفني إلى الآن؟؟؟ فقال القروي: لا والله ما عرفتك؟؟؟ قال: سبحان الله.. هل تشاهد التلفزيون؟ قال: أجل. قال له: ومع ذلك لم تعرفني؟؟ أنا الرئيس الشاذلي بن جديد. فرد عليه القروي ضاحكا: قلت لك يا رجل بأن العرعار يُدَوِخ..... ولو زدت منه شمة أخرى لادعيت بأنك عمر بن الخطاب.
بالرغم من النكت التي ألفت عن الشاذلي بن جديد، لا زال الشعب الجزائري يحمل لهذا الرئيس محبة واحتراما، وخاصة بعد إقالته سنة 1992، ودخول الجزائر في نفق مظلم |
ذهب بعض المعلقين إلى أبعد من ذلك، حيث أن الشاذلي بن جديد غضب غضبا شديدا من النكت التي تُنسج حوله وتصوره بالمعتوه والغبي، فأمر المخابرات بجمع كل النكت ورميها في البحر حتى تُمحى محوا، لكن الغريب أن الضحك تعالى من أعماق البحر، والأسماك تراقصت على سطحه من شدة الضحك.
يجب القول بكل صدق أن الرئيس الشاذلي بن جديد لم يكن أبدا كما تُصوره النكتة في الجزائر، فلقد كان رجلا طيبا وبسيطا، لا يُحب المظاهر ولا يجري وراء الشهرة والنجومية، وكان يميل في كل حياته إلى ترفيه الشعب ومحاربة الفاسدين الذي استفادوا من الحزب الواحد، وتحولوا إلى كبار الأثرياء، ولقد قام هؤلاء الفاسدين بتشويه شخصية الشاذلي بن جديد عن قصد، نظرا لتعرض مصالحهم للخطر.
لقد تفنن أعداء الشاذلي في نسج النكت من أجل ترويج فكرة سيئة عن الرئيس، ولقد وصل هؤلاء إلى ذلك الهدف، وخاصة بعد 1987 حين بدأت الأوضاع المعيشية في التقهقر والسلع في الاختفاء، وخاصة مادة "السميد" أي الدقيق الأبيض، والذي كان الشرارة الأولى التي أدت إلى انتفاضة شعبية يوم 5 أكتوبر سنة 1988. لقد أدت أحداث 5 أكتوبر 88 إلى تغيير الوضع السياسي والاجتماعي بالجزائر، حيث عمد الرئيس الشاذلي بن جديد إلى إجراء إصلاحات سياسية كبرى، نقلت الجزائر من الأحادية الحزبية إلى التعدد والانفتاح.
وبالرغم من النكت التي ألفت عن الشاذلي بن جديد، لا زال الشعب الجزائري يحمل لهذا الرئيس محبة واحتراما، وخاصة بعد إقالته سنة 1992، ودخول الجزائر في نفق مظلم دام أكثر من عشر سنوات، وقد صرح في كثير من المرات أنه عارض بشدة الانقلاب الذي حدث بعد انتخابات 1991 والتي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكان يعتقد بأن الشعب هو الذي يستطيع أن يَحكم على الممارسة السياسية وليس ضباط الجيش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق