المحاور: حسين محمد. جريدة الاتحاد ( الإمارات العربية المتحدة)
هل باتت الحياةُ
مهدَّدة بـ "الموت الأخضر"؟
عبد القادر بوعرفة، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة
بجامعة وهران، له خمسة مؤلفات هي: ''الإنسان المستقبلي''، و''مقدمات في السياسة
المدنية''، و''الحضارة ومكر التاريخ''، و''المدينة والسياسة''، و''معجم الفرق
والملل والنحل بالجزائر''. وهو مهتم بقضايا التراث والعلم والبيئة ومستقبل الإنسان.
في هذا الحوار يطلق بوعرفة تحذيرات واضحة من
إمكانية انقراض الحياة البشرية التي يتجاوز عمرها مليون سنة بفعل حمق الإنسان الذي
يدمرها بتكنولوجيته المتقدمة التي لا يتجاوز عمرها قرناً من الزمان، ويتحدَّث عن
دور الفلسفة الكلاسيكية والحديثة في التمهيد لهذا الدور التخريبي، وضرورة
''التكفير'' الآن عن ذلك الدور بالسعي إلى حماية البيئة وإنقاذها قبل فوات الأوان.
تُبدون اهتماماً كبيراً بالبيئة والأخطار
الكبيرة التي تهددها، لمَ قررتم الاهتمام بهذا الجانب تحديداً، مع أنه من مهمة
الإيكولوجيين بالدرجة الأولى؟.
لم تعد البيئة اليوم حكراً على حركة الخضر
والإيكولوجيين فحسب، بل أصبحت قضية الجميع لوحدة المصير وجسامة الخطر، فقد أصبحت
مسألةً دينيةً، وعلى علماء الدين كافة استخدام النصوص لخدمة البيئة، ثم إنها مسألة
فلسفية، إذ على المتفلسف أن يغوص في عمق الأزمة الراهنة عن طريق التحليل والنقد
واستشراف المستقبل من خلال المعطيات التي يقدمها الإيكولوجي، ومنه يصبح دور
الفلسفة تنوير الإنسان، ونحت جملة من المفاهيم التي تُنمِّي الوعي وتحرِّك غريزة
البقاء لدى الإنسان.
برأيكم، ما الذي يمكن أن يضيفه المشتغل
بالفلسفة في هذا الميدان لحُماة البيئة؟.
نفهم تلك العلاقة من خلال مثال العلم
والفلسفة؛ فقد استطاع الفيلسوف من خلال النقد الإبستيمي أن يغير مسار العلم
ومناهجه، حتى أصبح تطوُّر العلم يرتبط بما تقدِّمه الفلسفة من نظريات إبستيمية كما
هو الحال بالنسبة لغاستون باشلار أو توماس كوهن. والمتفلسف اليوم يستطيع أن يوجه
العلاقة بين الإنسان والطبيعة إلى أفق التناغم والانسجام لا إلى مقولات السيطرة
والتسخير؛ فالطبيعة هي الأم الكبرى - كما تصفها الفلسفة الهندية. ومن ناحية أخرى،
لا بد للفلسفة أن تُكفِّر عن مقولاتها الكلاسكية التي كانت السبب فيما آلت إليه
البيئة اليوم، ونخص تلك الرؤى الفلسفية الأنوارية التي جعلت الطبيعة موضوع تحرِّر
الإنسان باعتباره ''سيِّداً''، ومن جهة أخرى فإن القواعد النظرية التي نَظّر لها
علماء وفلاسفة عصر النهضة كديكارت، ديفيد هيوم، ستوارت ميل، وإسحق نيوتن، هي التي
رسمت صورة العالم الآلة والطبيعة الصمّاء التي يمكن تحليل جزئياتها وفهمها
بالأساليب العلمية المتطوِّرة المعتمدة بالخصوص على سلسلة الاختبارات والافتراضات
والمناهج مقابل ''الحقائق''.
لقد قاد هذا الاعتقاد العقل العلمي ليتحرر
من كل القيود من منطق أنه عقل سيِّد الكون. إن فكرة الإنسان السيد هي التي جعلت
العقل العلمي والتقني يمارس السيادة في اعتي صورها، مما جعله يفسد الطبيعة الأم
وترتَّب عن هذه السيادة الوهمية تحوّل الإنسان إلى عبد للخوف والرعب من الموت
الأخضر. لم تستطع الأيديولوجيات التقليدية الحديثة أن تنظر بعمق المتأمِّل
المتفلسف إلى طبيعية العلاقة الموجودة بين الطبيعة والجنس البشري؛ لأنها تغذَّت
بشدَّة بمقولة إن البشر ''أسياد'' العالم الطبيعي، وقادتهم تلك السياديَّة إلى
نقطة التحوُّل الكبرى - كما يقول فريتجوف كابرا في كتابه ''نقطة التحوُّل'' الصادر
سنة .1982.
هل تعتقدون أن شؤون البيئة والاحتباس
الحراري والتلوُّث ستصبح قضايا بارزة من قضايا الفلسفة خلال السنوات القادمة ؟.
بطبيعة الحال نعم؛ لأن التطوُّر العلمي
والتقني كانت ضريبته الكبرى هي اختلال التوازن البيئي في العالم، وانتشار الظواهر
المضادة للحياة من تلوث شاملٍ عملَ على تهديم الأغلفة الجوية والقضاء على كثير من
مظاهر الحياة كانقراض النباتات والحيوانات والحشرات. ونحن نعلم أن البيئة تنظم
نفسها بنفسها وفق الحكمة الإلهية، وبالتالي فإن فقدان كائن ما معناه فقدان وظيفة
بيئية. ومما سبق أصبح الوعي العالمي يتشكل عبر كثير من التيارات البيئية العالمية
التي تحاول أن ترفع التحديات من أجل إنقاذ الكوكب الأزرق من الأخطار المحدقة به،
وتلك التحديات الكبرى عبَّر عنها المستشار البيئي أ.ج. فركلو، هناك ثلاثة تيارات
بيئية عالمية مترابطة تشكِّل تحدياً يزداد خطورة لإمكانية العيش فوق الكوكب، وهي:
زيادة السكان من البشر، وإزالة الغابات الاستوائية، والفقد السريع للتنوع
البيولوجي، والتغيرات المناخية على نطاق العالم بما في ذلك فقد الأوزون في الطبقات
العليا من الجو والاحتباس الحراري.
ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المفكرون
والفلاسفة في مكافحة هذه الظواهر الجديدة في ظل ميل الساسة والقادة في العالم، تحت
ضغوط الشركات متعدِّدة الجنسيات، إلى تجاهل مجمل التحذيرات العلمية المتصاعدة في
السنوات الأخيرة؟.
إن هذا الانزياح نحو تلك الموضوعات تبرِّره
كثرة العلوم المتخصصة في مجالات العلوم الإنسانية أو البيولوجية، لكن بالرغم من
اليتم الفلسفي إلا أن التكنولوجيا المعاصرة قدَّمت في بداية الألفية الثالثة
مجالاً للتفلسف، إن تعقُّد الحياة وعنفوان العلم، والانحباس الحراري والحضاري
معاً، هما اللذان باتا يقلقان العالم بأسره.
إن الوضع يفرض على محب الفلسفة أن يحاول فهم
تلك التحوُّلات الدرامية للعالم، وأن يتجه قُدماً نحو الإنسان دراسة وتحليلاً من
أجل أن يوجهه إلى فهم الواقع وإعادة تشكيل قيم جديدة، ثم محاولة توضيح خطورة
النتائج المترتبة عن إبداعات العقل العلمي، لقد أصبح الإنسان اليوم قاب قوسين أو
أدنى من النهاية الكارثية لتاريخه. إن مستقبل الحياة باتت احتمالاتُه ضعيفة أمام
النتائج التي تنكشف كل يوم، ومع كل نتيجة نكتشف شدة الحمق الإنساني في أزمنة تقديس
التكنولوجيا، لقد أصبحت التكنولوجيا في ظرف قرن تقريباً تهدِّد حياة البشر التي
بدأت منذ أكثر من مليون سنة، فهل يعقل أن تصبح نهاية العلم مرتبطة بما أنتجه العقل
البشري في غضون مئة سنة؟.
كلنا يدرك أن أكبر تحديات القرنين المنصرم
والحالي هو هاجس الأمن المحلي والدولي، خاصة بعد الحربين الكونيتين، لكن يبدو أن
مفهوم الأمن العسكري أصبح مفهوماً عتيقاً، ذلك أن الخطر لم يعد في العنف الداخلي
والخارجي بل الأمن تخطى حدود الدول ليصل إلى الأرض من خلال الخطر الإيكولوجي
القادم أو ما نسميه بالموت الأخضر. ونظراً للتحديات الأمنية الجدية سيجد الإنسان
نفسه أمام عدوٍّ شرس، لا تردعه الأسلحة ولا السجون، بل يردعه شيءٌ واحد فقط، أن
يعود الإنسانُ إلى مصالحة أمِّه الأرض.
لقد عبر يان رولاندز عن تلك المعضلة بقوله:
''وكانت هناك أيضاً أفكارٌ بيئية تهدد أمن الدولة، والمثال الواضح للتحدي البيئي
لأسلوب إحدى الدول في الحياة، بل ولسلامتها الإقليمية هو ما يسمى (التدفق المادي
عبر الحدود)، ويمكن أن يأخذ هذا التدهور أشكالا مختلفة: فتلك المواد يمكن مثلاً أن
تلوث مياه الشرب، أو تؤثر في الإنتاج الزراعي، أو تخفض غلة الغابات''.
تتحدثون عن ''الاحتباس الحضاري'' المقابل
لـ''الاحتباس الحراري'' ما المقصود به؟.
الاحتباس الحضاري ناتج عن فقدان التوازن
الحضاري، فالحضارة الكونية اليوم لا تعيش لا حالة صدام ولا حالة حوار، بل هي
تماماً تشهد انحباساً حضارياً نتيجة وجود منطقة أوزون في بلازما الثقافة العالمية،
هذا الانحباس ستكون نتائجه كارثية على مستقبل الأرض وليس الإنسان فقط، فمقولة
''صِدام الحضارات'' أقل خطورة من مقولة ''الاحتباس الحضاري''؛ لأن الصدام ينتهي
عند نقطة تغلّبِ طرفٍ ما على النِّد أو النقيض، بينما الاحتباس يقود إلى الدمار
الشامل مثلما سيحدث للبيئة في حالة ما لم يتصالح الإنسان مع الطبيعة قبل فوات
الأوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق