تأملات نقدية في كتاب
أزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر
******
يقدم الكتاب صورة واضحة وجلية عن أزمة
الإفتاء في الجزائر، فالجزائر "الدولة" لم تستطع من 1962 إلى يومنا هذا
تشكيل مؤسسة فقهية قائمة بذاتها، ذات مرجعية ومصداقية، ولم تستطع السلطة لحد
السّاعة تعيين "مفتى الجمهورية" على غرار كل البلدان
الإسلامية.
فرض هذا الوضع لجوء المواطن الجزائري إلى
هيئات الإفتاء الخارجية، والاعتماد على الفتوى الهوائية العابرة للقارات، والتي
تتحكم فيها في أغلب الأحيان المؤسسات الفقهية الوهابية. وتكمن علة استنجاد بعض الجزائريين بالفتاوى الفضائية لوجود ظاهرة
" فوضى الفتوى بالجزائر" وغياب المرجعية في الشارع الجزائري بعد
أن تغلغلت بعض الحركات كالوهابية والسلفية والإخوانية في مفاصل المجتمع الجزائري،
يصور محمد تلك الفوضى في قوله: " ومن المتغيرات الطارئة ما اصطلح عليه بفوضى
الفتوى في الجزائر، وهي الظاهرة التي تزامنت مع شغور منصب مفتي الجمهورية، إضافة
إلى التعتيم الممارس على علماء الجزائر، في حين يتم استيراد دعاة دول أجنبية، وقد
استشرت الظاهرة مع توسع ما يُسمى بالطبقة المُتدينة في المجتمع الجزائري."[1]
نتفق
من هذا الباب مع الكاتب محمد بغداد حين يُصرح بأن الفتوى في الجزائر تعيش أزمة بل
معضلة حقيقية، انعكست سلبا على الأمن الفكري للبلاد وعلى نفسية المواطن الجزائري
الذي وجد نفسه تائها في فضاء شاسع من الفتوى المحلية والفضائية.
تكمن الأزمة في تجاهل السلطة
الجزائرية لأهمية المؤسسة الفقهية ودورها في توجيه وترشيد سلوك المواطن، بالرغم من
الجزائر لا تفتقد للإمكانات أو الأطر أو الجانب المادي، بل المسألة هي مسألة تجاهل
سياسي مبني على اعتبارات إيديولوجية ورثناها من الثقافة الاستحمارية، يقول في هذا
الصدد:" إن الأزمة التي نتحدث عنها اليوم، لا تتعلق بتلك الإعاقة الكبرى التي
تعاني منها الفتوى المحلية في الجزائر، والرفض والإهمال الاجتماعي لها، كونها تفقد
إلى مصداقية الاحتضان الاجتماعي، أو القبول الفكري والثقافي، ولا تتعلق الأزمة
بانعدام الجوانب الإدارية والهيكلية لمؤسساتها، بقدر ما يتجه الاهتمام إلى تلك
الثقافة المسيطرة، بداية من الذهنية مرورا بالسلوك وصولا إلى الاستهلاك الجماعي،
وبالذات ما تعلق بالثقافة السياسية التي تتجاهلها، وعن عمد تلك الرهانات
الإستراتيجية التي تشكلها هذه المؤسسة، والمخاطر الكارثية التي يورثها
غيابها."[2]
أجد نفسي في هذا المقام بالذّات أؤيد دون تحفظ
ما ذهب إليه محمد بغداد، فأزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر تعود إلى غياب القرار
السياسي، فالسلطة الجزائرية عبر تشكلاتها التّاريخية لم ترق إلى مستوى طموحات بعض
الدول الإسلامية. حيث نلاحظ في بعض الدول الإسلامية بأن المؤسسة الفقهية تحظى
باهتمام الأسر الحاكمة في الماضي والحاضر على السواء، حيث أنشئوا الحواضر العلمية
التي كانت لها الفضل في وجود مؤسسة فقهية
قوية.
إن الحاضرة العلمية هي التي تُسرع في بروز المؤسسة
الفقهية المختصة في الإفتاء، فالزيتونة قبل بورقيبة كانت حاضرة عليمة ومؤسسة
فقهية، وفي الوقت ذاته هيئة إفتائية، وقس على ذلك جامعة القروين بالمغرب، والأزهر
بمصر.....
حاول محمد بغداد أن يلتمس أرضية تاريخية
للمؤسسة الفقهية الجزائرية من خلال ما سماها "جغرافية الحواضر الفقهية"،
حيث ركز على المدرسة الإباضية (ص19) التي تتميز عن غيرها من الحواضر الفقهية
بمذهبها الخارجي ونحلتها المتماسكة والمُسيرة من قبل هيئة العزابة، ويبدو جليا
للدارسين أنها النّحلة الوحيدة في الجزائر التي لا تعاني من أزمة الإفتاء، لوجود
المؤسسة الإفتائية وثانيا لارتباط الإباضي بمذهبه وجماعته.
أما حاضرة الصحراء كما
سماها محمد بغداد ( ص 22) فهي حاضرة اشتهرت في القرن 15 و16 عشر، لكن بدأ بريقها
يخبو بعد ذلك، حيث تحولت إلى مجرد زوايا وطرق صوفية مهمتها الأساسية تحفيظ القرآن
والأوراد والأذكار، ولم تستطع أن تتحول إلى هيئة إفتائية ذات مرجعية شاملة
ومركزية، بل تحولت الحاضرة الصحرواية إلى حواضر فقهية مختلفة ومتباينة، كحاضرة
قورارة، كنته، توات....سيطرت عليها الشّروحات والمدونات الفرعية، وظلت الفتوى
حبيسة الماضي.
نحن نتفق مع محمد بغداد عندما يتحدث عن ملامح
الحاضرة العلمية لا الفقهية في النموذج التلمساني والبجائي والمازوني، فتلك بالفعل
كانت حواضرَ علمية لكونها تشكلت بفعل قرار سياسيي، كان يهدف إلى تأسيس مرجعية
فقهية للدولة.
بعد هذا العرض الوجيز، نسجل ما يأتي:
1- الحاضرة العلمية والحاضرة الفقهية:
أعتقد أن محمد
بغداد كان عليه أن يُفرق أول الأمر بين مفهومين، مفهوم الحاضرة العلمية والحاضرة
الفقهية، فالحاضرة العلمية هي التي تهتم بكل مباحث المعرفة والعلوم، ويكاد
وجودها ينعدم في الجزائر إلا في بجاية وتلمسان ومازونة. أما الحاضرة الفقهية فهي
التي تعتمد على قضايا الفقه وتفرعاته، وتتقوقع على نماذج وأعلام محدودة للغاية،
بيد أن الحاضرة الفقهية لا يمكن أن تكون قوية وفعالة إلا إذا كانت منضوية
تحت لواء الحاضرة العلمية، وهذا ما نلاحظه في الصحراء الجزائرية التي كثرت
فيها الحواضر الفقهية ولكن غابت فيها الحواضر العلمية، ونقصد بالحاضرة
العلمية تلك المدينة التي استطاعت أن
تؤسس جامعات أو هيئات كبرى كالقروين بالمغرب، والزيتونة بتونس، أو الأزهر بمصر، أو
حاضرة شنقيط بموريتانيا.
ومن ناحية أخرى،
يجب أن نفرق بين الفقه والفقيه والمفتي، فالفقه بنية معرفية تعتمد
على أصول ومراجع، وقواعد ومعايير، منها الثابت ومنها المتغير. والجزائر تمتلك
مذهبا فقهيا قائما بذاته، وهذه مسألة لا نقاش حولها.
بينما الفقيه
هو المجتهد والمجدد، والمفتى في الوقت نفسه، غير أن مهمته الفضلى
ليس الإفتاء بل النظر والتفكير في بنية
المذهب، من حيث أصوله وفروعه، ويحاول قدر الإمكان تجديده عن طريق الاجتهاد
والقياس، وإعادة النظر في المسائل الخلافية، ويكون متصلا بالسّلطة من أجل ترشيدها
في أمور السّياسة والاقتصاد والقضاء، فالفقيه هو المنظر والمفكر. وأني أجزم أن
الجزائر المعاصرة لم تعرف فقيها بالمعنى الاصطلاحي والوظيفي الذي حددته.
أما المُفتي
فليس بالضرورة أن يكون فقيها، فهو الذي يفتى بما فهم وعلم واقتنع، وقد يكون
حكمه مخالفا لبنية الفقه أصلا لسوء الفهم وقلة العلم، وعدم إدراكه لأبعاد المسألة،
فهو مجرد حلقة وصل بين الإنسان والفقيه، ولا يفتي بناء على اجتهاد أو نظر عميق بل
بناء على قياس سؤال السائل على فتوى سابقة.
والمتتبع
لبرنامج " فتاوى على الهواء"، يلاحظ أن المهمة الرسمية للشيوخ هي
الإجابة عن أسئلة المتصلين وفق ما كان مرسما في الفتاوى المالكية، ولم نسمع ذات
يوم بأن أحدهم ادعى الاجتهاد والنظر، أو خالف السّادة المالكية.
2- النماذج الفقهية:
عرض محمد بغداد كثير من
النماذج الفقهية الجزائرية، كعبد الكريم المغيلي، وأحمد الونشريسي، محمد بن
المصطفى، الفكون، الأخضري، القماري، الرماصي، الخرشي، الزرقاني، الناصري المعسكري،
الشيخ قدورة، حماني، الجيلالي .... حيث حاول من خلالهم ربط الحاضرة الفقهية بوجود
هؤلاء العلماء الذين امتهنوا الإفتاء سواء بصفة رسمية (الدولة) أو صفة تطوعية (أهل
البلدة عن طريق المُشراطة)، لكن هؤلاء العلماء الأفذاذ أخذوا الإجازة في أغلب الأحيان
من خارج الجزائر، خاصة المغرب أو تونس، وبالتّالي وجود العالم لا يعني وجود
الحاضرة التي تقودنا إلى الاعتراف الضمني بالمؤسسة الإفتائية. والدليل على ذلك
الونشريسي الذي استثمر في المغرب والأخضري الذي استثمر في تونس.
3- المدرسة الفقهية
الجزائرية:
نتفق مع محمد بغداد عندما
يتحدث عن الزخم الذي تركته بعض المدارس الفقهية في الجزائر، خاصة ما تعلق بفقه
النّوازل، ونتفق معه أيضا أن المدارس الفقهية كلها كانت بنت المذهب المالكي[3]
الذي رُسم بالسّيف والقوة بعد قيام الدولة الموحدية. لكن الشّيء الذي كان على
الكاتب التركيز عليه، هو أن المدارس الفقهية في الجزائر على العموم كانت منحازة
لرؤية السّادة المالكية وليس لرؤى الإمام مالك، وهناك فرق ابستيمي معرفي بين النظرتين،
فالسّادة المالكية أكثر تشدا وانغلاقا من الإمام مالك نفسه، ونلاحظ ذلك في شخصية
الفقيه سحنون الذي كان أكثر الفقهاء تشددا وانغلاقا، ويتهمه كثير من المفكرين
كفتحي تريكي بغلق باب الاجتهاد في المغرب الكبير. كما نلاحظ السيطرة المطلقة
لرسالة "الثمر الدّاني" ورسالة "الخليل" التي
لازالتا لحد السّاعة من أهم المراجع المهمة للمالكية المغاربية على السّواء، ودون
أن نغفل كتاب أقرب المسالك.
4- السرد التاريخي:
نفهم من السّرد التاريخي للفقهاء بالجزائر،
أن الدّولة الجزائرية (نقصد الجمع) قبل
الاستحمار الفرنسي كانت لديها رؤية إستراتيجية من خلال تشجيع الحواضر الفقهية
وتشجيع العلماء، بيد أن الشواهد التاريخية تثبت أن أغلب الدّول التي تأسست على
التراب الجزائري كانت تستمد الفتوى من خارج الجزائر، وكثير من الرسائل المَلكية
كانت توجه إلى علماء الحواضر الرسمية خاصة المغرب.
ومن ناحية أخرى، نفهم بأن محمد بغداد يحاول أن
يصل آخر الأمر إلى القول بأن المؤسسة الفقهية الجزائرية المعاصرة تشهد حالة انقطاع
واستقالة، وأن الجيل الحالي لم يكن في مستوى أسلافه:" إن سياق الموضوع الذي
نتناوله في هذا الموضوع، يقتضي القيام ببحث حلقة الوصل بين أجيال الفتوى في الجزائر،
والسعي إلى كيفية إيجاد الأرضية المناسبة التي يتأسس عليها هذا التّواصل بين الجيل
المؤسس، وبين الجيل الذي يفترض أن يواصل المسيرة ويحفظ القواعد والأسس، وبين التي
قام عليها بناء الرواد الأوائل."[4]
فنحن نرى، بأن الجزائر على مر التاريخ لم تعرف
دولة مركزية مثلما هي عليه بعد 1962، فأغلب
الدّول التي تأسست على ترابها كانت ذات ارتباط سياسي وثقافي إما بالمغرب أو تونس
أو تركيا، ولم يكن المغرب الأوسط كما قال ابن خلدون مركزا سياسيا فاعلا، بل كان
منطقة عبور، وعليه نحن نتسائل أين الجيل المؤسس الذي يتحدث عنه محمد بغداد؟؟؟
فالسّلطات التركية بالجزائر كانت تدين بالمذهب الحنفي، وكانت الفتوى تصدر من باب
العالي، بينما كانت القبائل العربية تستند في فتواها على أئمة محليين في الغالب،
أو كانت ترسل الرسائل مع الحجاج إلى البقاع المقدسة كما يُثبته كثير من المؤرخين.
لا بد أن نؤسس للموضوع خارج الاعتبار
الجغرافي، أي ضمن الإطار السياسي والأنثربولوجي، فبجاية على سبيل المثال كانت أقرب
إلى أنثربولوجية منطقة الشّرق والتي تتقاطع مع الثقافة التّونسية. أما تلمسان
فكانت أقرب إلى ثقافة المغرب.
5- التقليد والتجديد:
نحن نتفق مع محمد بغداد، بأن المؤسسة
الفقهية في الجزائر تعيش حالة عطالة واستقالة، وأن الجيل الحالي لم يستطع حتى الآن
أن يكون لنفسه مرجعية، ولا نقصد غياب الفتوى، الفتوى موجودة سواء من خلال التلفاز
أو المذياع أو المجالس الولائية .... لكن الفتوى التي نحن بصدد التأسيس لها هي
الفتوى المقاصدية المصيرية التي تتعلق بالدولة والحكومة ومفاصلها، فنحن لا نحكم
على المؤسسة الفقهية من حيث الإفتاء في مسائل الحيض والنفاس، والوضوء والغسل من
الجنابة، وتغسيل الميت، فأنا أشهد أن الجيل الحالي من المفتيين يُجيدها ويُتقنها
ويتواصل مع أسلافه تواصلا في مسائلها الفرعية.... لكن هل الفتوى التي نريدها هي
فتوى الحيض والنفاس ؟؟؟ أم نريد الفتوى التي تتعلق بالمصير وترشيد الحكم ....
وترشيد سلوك الإنسان وتوجيهه نحو الحضارة وتساعده على دخول التاريخ.
إن أغلب الأعلام الذين استشهدت بهم محمد بغداد
هم من المقلدين، حُفاظ المتون والأراجيز، وشراح
شروحات الشّروح، وإن كان الأمر على خلاف ذلك أرجو منه أن يُوضح بأمثلة
دامغة من التاريخ أين يظهر الاجتهاد والتّجديد في فتاويهم ؟؟؟؟؟؟ والمنهج العلمي يفرض عدم بناء حكم على قلة
(كالونشريسي أو المغيلي) بل يجب أن يكون
الحكم مبنيا على العموم. وعليه، فحال الخلف ليس بأسوأ من حال السّلف.
6- الاجتهاد الجماعي:
كرر أ. محمد بغداد مصطلح "الاجتهاد
الجماعي"، واعتبره مطلبا حضاريا وحاجةً عصرية ملحة:" ومن هنا فإن
مصطلح الاجتهاد الجماعي مصطلح معاصر ظهر نتيجة الدعوة التي أطلقها العلماء، الذين
دعوا إلى الاجتهاد والتجديد في العصر الحاضر."[5]
أنا اتفق مع الأستاذ من حيث الفكرة، فالاجتهاد
ينبغي أن يكون نتاج جماعة من العلماء والمختصين، فعصر الأفراد ولى وانقضى، وأغلب
الدّول المعاصرة اليّوم تسعى إلى العمل الجماعي أو عمل الخلايا. ونحن اليوم ما
أحوجنا بالفعل إلى ضبط ميكانيزمات الفقه والفتوى من خلال العمل الجماعي، الذي يكون
الاجتهاد والتجديد وإعادة الهيّكلة هي العناصر التي تُحركه ويدور حولها نظره.
بيد أني أنفر من كلمة "جماعي"،
فنحن نعلم أن العمل الجماعي لن يكتب له النجاح إلا إذا كانت تحت مظلة مؤسسة ذات
سلطة ومرجعية قوية، وعليه فأنا اعتقد أننا يجب أن نستبدل مصطلح "
الجماعي" بمصطلح الاجتهاد المؤسساتي" ، لأن مصطلح مؤسسة مصطلح جامع
ومانع، ويقلل من الصراع ويخفف من حدة الأنانية، ويكون تأثيره أبلغ ومصداقيته أكبر،
وتستطيع الدّولة أن تلجأ إليه في كل النّوازل.
حاول محمد بغداد قدر الإمكان تخفيف من حدة
المعترضين على المصطلح ( ص 220، 221)، من
خلال وضع المجال الحيّوي للاجتهاد الجماعي، غير أن الاعتراضات التي قدم بعضها،
تُثبت ضرورة استبدال المصطلح.
إن
"الاجتهاد المؤسساتي" يقودنا إلى تجاوز كثير من العوائق الإبستمية،
أولها أنه لا يربط
الفتوى بالفقه والفقيه بل بالمؤسسة، ذلك أن الفقهاء يختلفون في المسألة الواحدة،
ولم يوجد إجماع إلا في المسائل القطعية، ونجد في المذهب الواحد اختلافا وتباينا
فما بالك بالدّين كله، وهذا لا يرد إلى بنية الفقه بل إلى منظور الفقيه.
ثانيا، أنه
يجنبنا ربط الفتوى الفقهية بالنّزعة الإيديولوجية للفقيه أصلا، فالقرب أو البعد عن
مراكز السّلطة يشكل طبيعة الفتوى، فالقرب من مراكز السّلطة يجعل الفتوى مرنة غير
متشددة، وقابلة للترجيح والترجيع، بينما نرى أن البعد عن مراكز السّلطة يجعل
الفقيه أكثر تشددا وتصلبا، وتمتاز فتواه في أغلب الأحيان بالوثوقية والصّرامة،
ويرتبط الأمر بالأنا.
7-الفتوى وفوبيا الآخر:
ربط الفتوى بحجة الخوف على
الإسلام ووحدة الوطن والعقيدة أمر مستهجن، فالتشديد في الإفتاء والتّضيق على
النّاس لا يجعلهم أكثر التزاما بالإسلام وتمسكا به.
يُهمل أغلب الفقهاء مسألة التيسير في الأحكام، وتلك حكمة
بالغة، فالغاية من التشريع ليس التعسير بل التيسير، والرسول ذاته (ص) تحدث في كثير
من المواطن أنه جاء ميسرا لا مُعسرا.
الأصل في الدّين الإباحة، وإنما التّحريم جاء في لحظة
تاريخية اتسمت باتساع شبكة العلاقات البشرية، وتعقد البُنى الاجتماعية، والغرض من
التّحريم والمنع وضع حدود حتى لا يطغى الإنسان، وينتهك حقوق غيره.
نلاحظ عند دراسة النّصوص الشّرعية (الحدود) أنها تتوزع على النّحو الأتي:
- دائرة المباح أكثر اتساعا.
- دائرة الظني أقل من المباح بكثير.
- دائرة القطعي أضيق منهما.
ويبدو من خلال
تاريخية الفتوى أن لا مشكل بين الفقهاء فيما هو قطعي نظرا لقطعية النص وثبوته، بيد
أن أغلب الخلاف يكمن في منطقتي الظّني أولا ثم المباح ثانيا، وعليه فالتّحريم
القطعي لا أحد يعترض عليه، بينما التّحريم الاجتهادي هو مربط الفرس، فكثير من
الفقهاء حرموا مباحا أو ظنيا، بينما الحال في هذه المسألة أن يكون التّكريه أو
التّنزيه إن وُجدت غاية مقاصيدية.
6- الفتوى الفضائية:
أجاد محمد بغداد في تحليل عنصر " الفتوى
الفضائية" والتي تعتبر ظاهرة خطيرة جدا على الأمن الفكري لأي دولة
إسلامية، فالقنوات الفضائية تكاثرت بشكل مقلق، وأصبحت الفتوى عابرة للقارات، وشكلت
بذلك تحديا خطيرا للنخب الفقهية القطرية. بينما خدمت شريحة من "علماء
الشّهرة" الذي يتفننون في إبراز أنفسهم كأفراد مستقلين ومجتهدين، مما جعل
الأمر ينقلب إلى مواجهة علنية بين المؤسسات الفقهية التقليدية ( الأزهر مثلا) وبين
علماء الشّاشة يقول بعداد : " وقد تمكنت هذه القنوات من صنع نوعا من المواجهة
الإعلامية بين فتاوى العلماء، كونها تحولت إلى منابر لإصدار الفتوى للكثير من
العلماء والفقهاء متخذين من المنفذ الفضائي العالمي، الذي يتخطى كل الحدود، ويصل
إلى ملايين المسلمين، لإصدار الفتاوى والتعريف بالأحكام التشريعية."[6]
لقد حلل محمد
بغداد خطورة الفتوى الفضائية، من خلال كثير من الصور التي نشاهده يوميا، وستكون
خطورتها في المستقبل أكثر، خاصة مع بروز ظاهرة
وجود " الفتوى نت" والتي سيكون انتشارها أكثر من انتشار
الفتوى الفضائية.
تكمن خطورة
الفتوى الفضائية في غياب المرجعية للفتوى أصلا، فالمفتي لا يؤطر السؤال ضمن حقل
الفتوى، بل في أغلب الأحيان ينساق "المفتى الهوائي" وراء أحكام
لا مذهبية من حيث المنطوق ولكنها مذهبية من حيث اللامنطوق، مما يجعل
المسلم في ارتباك بين تباين الحكم الفقهي في السؤال الواحد بين قناة الناس على
سبيل المثال وقناة إقرأ.
وجملة
القول، أن كتاب " أزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر" يعتبر كتابا غنيا من
حيث مادته الإعلامية، وثريا من حيث حمولته التاريخية، وبعيد النظر من حيث رؤيته
الإستراتيجية، ومُهماً من حيث إشكاليته وبنيته التّحليلية.
وكان بالإمكان
أن يكون أكثر تناسقا وانسجاما لو صاغه محمد بغداد وفق منهجية محكمة، فالانتقال من
عنصر لآخر لم يكن منسجما.
ومن جهة أخرى،
لم يستطع محمد بغداد أن يعطي مخرجا لأزمة المؤسسة الفقهية في الجزائر، ونقصد أن
المقدمات التي صاغها في بداية كتابه تفرض عليه في الفصل الأخير إبداء المخرج
للأزمة، أما إذا كان المخرج هو تأسيس لما يُسمى بالاجتهاد الجماعي فهذا حل غير
إجرائي.
وعليه، نحن
نأمل أن يكون للكتاب دور في إيجاد مخرج للمؤسسة الفقهية في الجزائر من خلال
التفكير في ما يلي:
1- تأسيس المجمع الفقهي للإفتاء.( يفتي للدولة أولا ثم
للمواطن ثانيا)
2- ترسيم منصب مفتى الجمهورية.
3- تكوين جامعات ومعاهد خاصة بتكوين الفقهاء وأهل
الإفتاء.
4- تطوير الإعلام الدّيني.
5- الخروج من فقه الفروع إلى فقه الأصول والمقاصد.
6- ربط الفعل السياسي بالمؤسسة الفقهية من حيث الترشيد
والتوجيه.
أ.د عبد القادر بوعرفة
* - جامعة وهران. له العديد من المؤلفات ( أعلام الفكر
والتصوف بالجزائر، الإنسان المستقبلي، الحضارة ومكر التاريخ، المدينة والسياسة،
العمل الفني في الإسلام، الإسلام والغرب، ........)
ورد ضمن تعليقكم ما يلي :"لكن هل الفتوى التي نريدها هي فتوى الحيض والنفاس ؟؟؟ أم نريد الفتوى التي تتعلق بالمصير وترشيد الحكم .... وترشيد سلوك الإنسان وتوجيهه نحو الحضارة وتساعده على دخول التاريخ."
ردحذفأتساءل من هو المؤول عن عدم وجود الفتوى التي تساعد على دخول التاريخ كما قلتم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الأستاذ محمد سعد.
أستاذي محمد سعد المحترم
ردحذفأنت تعرف افضل مني من هو المسؤول عن تحريف الفقه وتقنين الفتوى ..... الساسة على مر تاريخ الإسلامي لعبوا دورا سلبيا في وأد الفتوى وتدجين الفقيه.