تاريخ المقاومة الشعبية بين الاستلاب الغربي والوعي
المحلي
أ.د.
عبد القادر بوعرفة
يرى كثير من فلاسفة التاريخ ، أمثال هيجل
وهيربرت ماركيوز ..أن الثورة ليست تلك الوقائع الماثلة للعيان ، وإنما حقيقة
الثورة تكمن في الروح التي تسكن الأحداث، فالنبيل (الإنسان المتفوق)عند هيجل هو
روح التاريخ كما تمثله في شخص نابيون بونابرت ، أما ماركيوز راهن على الطلبة كقوة مُغيرة
ومُؤطرة لروح الثورة .. ولعل غوسيت أورتيجاس كان أكثر جرأة من غيره حين أكد في كتابه (ثورة الجماهير) أنها الثورة ليست من صنع الكتل اللحمية (الجماهير)
وإنما الثورة يصنعها الرجال الملهمون فقط. وهذه المقولات يمكن أن نعكسها على واقع
الكفاح الجزائري منطلقين من مقولة أن الجهاد الجزائري روحه العلماء وقادته الأبطال
وغايته الله والوطن، وبالتالي فالجهاد صنعه رجال ملهمون حقا بسواعد الشعب.
ويمكن
القول أن دراسة تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر ، ينبغي أن تُدرس ضمن ما يسمى فلسفة
التاريخ، التي تبحث عن اللامنطوق خلف الحدث والواقعة والظاهرة
التاريخية، وتحاول أن تستقرأ العبرة منه، وأن تكتشف الأطر المؤطرة له.
والتاريخ الجزائري لازال في كثير من
كتاباته رهين الآخر (الغرب)، فعندما يؤرِخُ الآخر للحدث الوطني، ويتولى مهنة أرشفة
الحاضر فإنه يستلبه استلابا ويُغربه تغريبا، فيصبح التاريخ عندئذ مطية للمغالطة، وجسرالتمرير خطاب الاحتواء، ويحاول آخر الأمر تدجين الأمم المغزوة وفق ما يريد كغازي متعالي حاضريا.
وليس الأمر بغريب ، لأن أغلب الأمم الغازية
دأبت على تولي مهنة تأريخ للأمم المغزوة ، لعلتين هما على النّحو التّالي:
1
ـ
التاريخ يمثل الذاكرة الحقيقية للجماعة والأفراد، ومنه
يصبح التاريخ الخطر الأول على الوجود الاستيطاني، لكونه يحمل الخصوصية الثقافية، ويعطي
البعد الحقيقي للهُوية، ومن ثمة يغدو المعلم الثابت لرفض المحتل والمرجعية الأولى للجهاد.
ولتفادي أي احتمال للرفض يسعى الآخر إلى توجيه التاريخ وفق ذرائعيته وفلسفته، وذلك
من خلال تمر يره لخطاب تاريخي يحمل ظاهريا معالم العلمية والموضوعية، لكن محتواه
الحقيقي ينم عن نزعة استحمارية بغيضة.
2ـ
إن الصراع الحضاري يفرض على الأطراف منهج
تغليب الرؤية التاريخية، وجعل الأخر معلم الحدث، و تقديمه للأنا في صورة المتحضر
ذو النزعة الإنسانية العالية، وفي المقابل إبراز الشخصية المحلية كنموذج متخلف
وهمجي( أنديجان)، مما يوحي للفرد الناشئ أن بقاء الأخر في بلده أولى من جلائه.
ولهذه الغايات وغيرها أسس الاستحمار الأوربي الحديث علم الإناسة [
الأنثربولوجيا] لأجل تسهيل عملية استحمار شعوب الجنوب، فأغلب الحملات العسكرية إلا
وتصحبها جحافل من علماء الأنثربولوجيا، يندسون في شرائح المجتمع المدني مقدمين
أنفسهم كأصدقاء للأهلي، والخطورة تكمن هنا بالذات ، فالأنثربولوجي يستطع اختراق
المحظور، والتوغل في الثقافة الشعبية، ويربط
علاقة تضايفية معها، فيتحول من عدو إلى صديق، ومن الأخر الغريب إلى الأخر الحميم، والنّموذج
الذي يمكن أن نستدل به على صحة المعطى ما فعله كل من الأب شارل دو فوكو،
إيدمونت ديوت، لويس رين ......
إن الاستئناس الذي يحصل عليه الأنثروبولوجي مع الأهالي ، يُمَكنه من توجيه أذهانهم وسلوكهم من خلال
تشكيله لخطاب تاريخي يمس صميم عمق الجماعة، فيؤثر سلبا على الوعي الجمعي ويقضي على
بقايا معالم الاعتزاز لديه.
وحتى في حالة عدم القدرة على البقاء في البلاد
المحتلة، فإن الخطاب التاريخي المؤسس من طرف الكولونيالي ـ الضابط ، القديس ، والعالم سيعمل فيما بعد على
صبغة التاريخ المحلي صبغة حربائية، يتلون بلون الثقافة المحلية في القضايا
الهامشية المشبعة بالخرافة والأساطير، أو كما نطلق عليها اليوم بالثقافة
الفلكلورية، أما عند تناول القضايا
الجوهرية والمصيرية يتلون الخطاب بثقافة الاستلاب والتغريب.
ومشكلة المؤرخ الجزائري اليوم سواء كان مؤرخا
رسميا أو محترفا، تكمن في اعتماده الكلي على ما كتبه الفرنسيون حول الجهاد الشعبي. ومن هنا نريد توضيح تهافت الخطاب التأريخي
الكولونيالي وعدم استقلالية، وأصالة الخطاب التأريخي الجزائري من خلال نصوص صانعيه
وليس مذكرات الضباط والقساوسة.
فلو افترضنا أن التعصب نال منا حظه، والمخيال
المتعالي جنح بنا في سماه، بالرغم من ذلك فإننا لا يمكن أن ننكر حقيقة ماثلة
للعيان كون الفرنسي سواء كان أبا أو ضابطا أو عالما أنثربولوجيا هو الذي تَصَدر
كتابة ما نسميه اليوم بالمقاومة الشعبية، ليس
من باب الروح العلمية أو النزعة الإنسانية ولكن من أجل استكمال المخطط الاستيطاني
الذي قسم كما يلي:
1
ـ احتلال الأرض.
2
ـ احتواء العقل.
3
ـ اجتثاث الّلسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق