التأويل: سلطة الفهم وتمثلات السيادة
أ.د عبد القادر
بوعرفة
كان الاعتقاد السائد لدى الشعوب
القديمة أن الإله يجتبي من بين خلقه من يكون وسيطا بينه وبين مخلوقاته على السواء
، وكان الاجتباء مبنيا على جملة من الصفات والشروط يستأثر بها سدنة المعابد و
الكهنة فقط ، وقبلهم السحرة والمشعوذين .
وبُنيت فكرة الوسيط البشري على فلسفة أسطورية
محضة ، ترتَكن على أن الإله كلامه ليس ككلام البشر وإن كان بلسانهم
وألفاظهم ، بل عين كلامه تكمن وراء اللفظ ، والذي بالضرورة لا يعرفه إلا الكاهن أو
السادن ، فالإله لا يلقى بحكمته إلا لمن ارتضاه صاحبا و ترجمانا.
عندئذ
يصبح السادن هو الوحيد الذي يمتلك الحقيقة ، والآخرون بحكم عدم الاجتباء والاصطفاء
عليهم التصديق والتسليم بما يقوله من أقوال أو أحكام على لسان الإله .
ويصبح صاحب مقام تفسير كلام الإله هو
الحاكم والمتسلط و السيد ، والآخرون هم العبيد ، وهو صاحب الأمر والنهي ، وهم أهل الطاعة
و الامتثال ... وكان المقام الذي حصّله بالمكر والخديعة
غالبا ما يُدر عليه بالأموال ما يفوق تصوره .
وبالتالي ارتبط الوسيط منذ القدم بالسلطة و
السيادة ، ولازلنا ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين نلاحظ استمرار الوسيط
الأسطوري في أبجديات الجماعة البشرية ، ففي الأمة الإسلامية لازال أهل القبور من
الأولياء يمثلون الوسيط السحري بين العبد والله ، ويؤمن الناس بقدرتهم على الوساطة
لدى الله رغم كونهم أمواتا ورفاتا .. وبالرغم أن تلك الظاهرة ليست من الإسلام (
التوحيد) إلا أن المخيال الاجتماعي عبر الطفرة الطوطمية لم يتخلص من أولى معتقدات
البشر ، ومن أولى تصورات مغامرات عقلهم البدائي. كما لازال الداعية يمتهن التفسير ليكون لذاته ونحلته سلطة الفهم وسيادة
الحكم.
فأسطورة هرمس تعكس أن الإله
شاءت حكمته وعنايته أن لا يترك البشر دون تعاليم ومعرفة تنير دروبهم في الحياة ،
وبما أنه متعالِِ عنهم تعال مطلق (ترنسندانتالي ) فلا يجوز في حقه أن يكلمهم
تكليما ، أو أن يوحي إليهم وحيا ، بل تقتضي العظمة أن يختار من بين عباده من يكون
همزة وصل بينه وبين مخلوقاته ، وبالتالي اختار الإله هرمس كوسيط ، إنه الوحيد
القادر على تأويل كلام الإله ، وهو ليس بالمؤول بالمعنى المعاصر بل هو المترجم
لكلام الإله.
إن اليونان كمجتمع وثني جعلوا من هرمس قاعدة
للخروج عن النص المُسيج ، إنه يجوز للعقل اليوناني أن يتفاعل مع النص من منطلق أن
هرمس ليس هو الشخص الأسطوري فقط بل أن هرمس هو اللغوس .
لقد استطاع هرمس أن يُحقق ضمن مجال الثقافة
اليونانية منحيين مختلفين :المنحى الأول يكمن في كون المُؤهل لفهم النص الإلهي هو
المتحكم و السيد ، لأن المعرفة سلطة والسلطة معرفة ، فكان أغلب الملوك والأباطرة
تحت سيطرة الكهنة والسدنة من باب هذا ا المنطق ، والمنحنى الثاني يكمن في قدرة
المفكر اليوناني أن يُخرج هرمس من المعبد إلى مجال الفلسفة ، ويصبح الفيلسوف من
خلال اللوغس هو هرمس الحقيقي ، وبذلك انقلب الفكر اليوناني رأسا على عقب.
لقد أصبحت الهرمسية مرتبطة في الفكر اليوناني
بتأويل النص الديني ، وارتبطت بفلسفة اللغة وعلوم اللسان ، وعُرفت بالهيرمنونيطقا
، والتي نلاحظها اليوم تكتسي طابعا غير الذي نشأت فيه أول مرة ، وتكتسح من جهة
أخرى أغلب الدراسات اللغوية واللسانية.
1- لم يبق الوسيط مجرد خرافة أو حدث أنتجه
المخيال الأسطوري ، لقد تحول الوسيط في الفكر الديني إلى معتقد يتطلب وجوب الإيمان به ، فالنبي أو
الرسول في الديانات الشرعية هو الوسيط بين الله و العباد ، ويكتسب الرسول والنبي
قدرة خلاقة على تبليغ الوحي ( كلام الله ) أولا ، ثم قدرة فائقة على شرحه و تبسيطه
للخلق.
فبوجود النبي يكون عين
اليقين ، لأن الوسيط مُصطفى من قبل الله،
والله لا يصطفي من خلقه إلا من هو حق بذلك التكليف و التشريف معا ، كما أن شرح
كلام الله من قبل النبي إنما هو شرح باللسان فقط ، أما المعنى فهو من الله ،
وبالتالي لا مجال للاجتهاد .
أما أهل حق اليقين، فهم أهل العرفان من اجتهدوا في عبادة
الخالق فوصلوا عن طريق المجاهدة و
العبادة إلى معرفة حقائق النص المخفي وراء اللفظ ، ووصلوا إلى هتك حجب الظاهر ، فذاك هو التأويل .
أما أهل اليقين فهم أهل العقل والبرهان ،
فهموا النص من خلال حركة العقل و التجربة ، وقاسوا الأشياء على نظائرها ، و
الوقائع بتواريخها ، وحاولوا أن يقيدوا النص بالكلام وبنية الخطاب ، وذلك هو
التفسير.
ومن هذا التقسيم يتضح أن النص يخضع من حيث
فهمه إلى ثلاث مستويات رئيسة ، مستوى يفرض التسليم بالشرح المقدم له باعتبار أن الشارح مُلهم من قبل الله، ومستوى
نقبله قبول الإبداع باعتباره حالة وجد وخبرة فردية ، ومستوى نحمله محمل الاجتهاد، وكلها صور لسلطة الفهم.