الديمقراطية المستبدة
ملخص مقال نشر بمجلة دراسات إنسانية واجتماعية
أ.د عبد القادر بوعرفة
**المولج
لم يعد الحديث في الوقت الراهن عن الاستبداد التقليدي الذي كان يمثله الحاكم ( الفرد) ضمن عدة صور متعددة، فالسلطان وأمير المؤمنين والإمبراطور أضحت أشكال تاريخية لا معنى لها اليوم، إذ أصبحت صور الاستبداد والطغيان تتمظهر في أشكال متنوعة، بعضها عريق والبعض الأخر يتزامن والحداثة وما بعدها : " ففي الوطن العربي قد تعددت نماذج الاستبداد، فمن الفرد المستبد إلى الاستبداد العائلي، والاستبداد الحزبي. واستبداد الدولة وربما ندخل لاحقا في مرحلة استبداد السوق."[1]
لكننا نعتبر أخطر تلك الصور على الإطلاق صور الطغيان* الذي تمارسه الأقليات المتسلطة خلف خطاب سلطة الشعب، فلقد حولت ذهنيات التسلط الديمقراطية من سيادة وحكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه لديمقراطية الطغمة التي تحكم الشعب باسمه بينما تباشر ذلك بنفسها ولنفسها فقط. لقد أصبح الحكم الديمقراطي في البلدان العربي يتأسس على منطق الطغم دون التفويض الشعبي: " هو حقيقة تغلب حكامها القسري على البلدان التي يحكمونها من دون تفويض من شعوبها".[2]
والحقيقة التي تنبلج مع كل دعوة لانتخاب الرئيس هي أن النتائج مُعدة سلفا، ومعدة إعدادا كاملا، والشعب سواء باشر حقه الانتخابي أو لم يباشر، فإن النتيجة هي "عاش الرئيس "، ليعود مسلسل الشرعية الشعبية من جديد لتُنتهك باسمه الحريات الفردية وتُنهب به خيرات البلاد والعباد.
ونظرا للحضور المكثف للعامل الديني في اللاشعور السياسي العربي حاول الطغاة الجدد الجمع بين سلطة الشعب وسلطة الشرع معا، فاجتهدوا في إضفاء الطابع الديني على النظام من خلال تفعيل الفانطازيا الدينية، كالأعياد والحملات الخيرية، وتقريب فقهاء السلطة الجدد والترويج لهم إعلاميا وعالميا. وفي المقابل عمد جيش الفقهاء إلى تجريم كل فعل سياسي إصلاحي بدعوى أنه خروج عن مبدأ طاعة أولى الأمر، بل ذهب الأمر إلى غاية تقديس الحاكم تقديسا مخالفا لنصوص الشريعة أصلا، وكأن جرح الحاكم هو جرح للأمة كلها. لقد أصبح التسلط مشروعا باسم الشعب والدين، وانطلقت الآلة الدعائية للسلطة القاهرة في التنظير للفعل السياسي من أجل إضفاء صفة القداسة: "حيث أصبح نظرية مقدسة لا يجوز التحدث عنها والخروج عن تشكيلاتها، أو التفكير بطرح بديل عنها، وقد وجد النظام العربي الحالي في تلك النظريات والنظر ما يشبع رغبة الاستبداد فيه، فتشبث بها وقاتل من أجلها."[3]
والمثال الذي نورده عن تلك الظاهرة الخطيرة، يكمن في عودة فكرة المستبد العادل التي نراها تحضر بقوة في الكتابات المعاصرة، والتي تجعل من الخليفة عمر بن الخطاب الوجاء والمثال الذي تُنظر له.
[1] - عبد الله ثناء فؤاد وآخرون، الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ص ص (11-13).
* - ط غ أ (طغا) يطغى بفتح الغين فيهما ويطغو (طغيانا) و (طغوانا) أي جاوز الحد. وطغي بالكسر مثله وأطغاه المال جعله طاغيا، و طغى البحر هاجت أمواجه، و طغى السيل جاء بماء، والطاغية الصاعقة، و الطاغوت الكاهن والشياطين وكل رأس ضلال، وجمع الطاغوت الطواغيت.
طغو و" الطغيان" و" الطغوان" لغة فيه والاسم الطغوى، و طغى يطغى و يطغو طغيانا، جاوز القدر و ارتفع و علا، و " الطاغية" اسم كالعافية و العاقبة والطغيان الظلم، و تجد الطغيان في لغة العامة بمعنى الظلم و الطاغية بمعنى الظالم.
و يقابل لفظة الطغيان في اللغة الأجنبية كلمة –tyran- عن اللاتينية –tyrannus- و اليونانية – turannos- و يقابلها معنى السيد، و بالفرنسية – tyrannie- و في اللغة الإنجليزية – tyranny- – tyrannos- في اليونانية القديمة تعني حاكم مطلق السلطة قام بالاستيلاء على السلطة بواسطة القوة والخداع أو الإقناع.
[2] - الكواري علي خليفة وآخرون، الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، ص 32.
[3] - الدباغ علي وآخرون، الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، ص49.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق