اقدم قراءة للفصل الأول من كتاب الضرورى فى السياسة لابن رشد لصاحبه الأستاذ الدكتور عبد القادر بوعرفة . وهو كتاب متميز رفيع المستوى الحوارى .
عبد القادر بوعرفة وتأملات في كتاب الضروري في السياسة لابن رشد
احتل التفكير السياسي على مر مراحل تاريخه مكان الصدارة نتيجة علاقات الأفراد والجماعات ، وارتباطه من جهة أخري بالسلطة وأنظمة الحكم ، حيث أتّسم التفكير فى كثير من الأحيان بالنزوع اليوتوبي ، فتشكلت عبر الحقب المعرفية كثير من نماذج المدن الفاضلة ، كانت أشهرها جمهورية أفلاطون .
يبين عبد القادر بوعرفة فى البداية أن الضروري : تعني في عٌرف علماء الأصول الشيء اللازم والمهم ، وبالتالي هو بخلاف العرضي ( الفروع ). ومن ثم فإنه من خلال رؤيته السياسية، حاول أن ينطلق إلى آفاق التطبيق العملى ، فوضع الاشكالية التى يركز عليها، والتى تتمثل فى أن الهدف من دراسة كتاب الضروري في السياسة يتمثل فى تحليل أفكار ابن رشد، وتوضيح موقفه في الكثير من قضايا عصره ، ومعرفة كيفية تعامل العقل السياسي الإسلامي مع السياسة خارج الأحكام السلطانية، ولهذه العلة بالذات استخدم منهج التحليل النقدي، وفي كثير من الأحيان فَعَل استخدام المنهج المقارن، لمقارنة أفكار ابن رشد السياسية مع غيره من علماء عصره، ومع الفارابي بالذات فى المشرق ، وابن باجة وابن طفيل فى المغرب .
وفى هذا الصدد يركز بوعرفة على تقديم مدخل نظرى يقوم على تحليل تداعيات السؤال السياسي، وعلاقته بالزمان والمكان ، وتحليل محنة ابن رشد السياسية ، وتبيان الأبعاد والخلفيات الحقيقة التي تقع خارج نطاق النص التاريخي ، كما ويركز أيضا على ظاهرة الترجمة العبرية للنصوص العربية، ومحاولة تبيان أسبابها ونتائجها ، ثم تحليل ظاهرة الأقليات والإبداع في العالم الإسلامي .
لابد من الإشارة إلى أن دراسة بوعرفة جاءت كرد فعل لمقولة المفكر المغربى محمد عابد الجابرى "استقالة العقل العربى" ، الأمر الذى اكتشف من خلاله أن الحكم علي التراث العربى الإسلامى يُبني، في كثير من الأحيان ، على قراءات إيديولوجية ، مثل قراءة الجابرى ، التى تتعامل مع النص التراثى كنص مهجور ، وأنه مجرد ذاكرة تراثية . ولكننا نعرف أن الجابري أقر بعد ذلك ، أن العقل العربي رفض استقالته مع الضروري في السياسة لابن رشد .
بعبارةً أخري فإن الغرض من دراسة بوعرفة يتمثل فى:
1- توضيح قدرة المفكر الإسلامي في العصور السابقة على النفاذ في متون نصوص آخري .
2- محاولة قراءة التراث بعيداً عن التراث ، واستحضاره لكي نفكر من خلاله.
3- إجراء مقاربة بين ما كتب في القديم، وبين ما يكتب اليوم، في مجال السياسة . ودراسة ابن رشد لا تعني دراسة نص مهجور فقد أبعاد زمنه الثلاثة ، بل هذه الدراسة جعلت بوعرفة يدرك أن الإشكالية الجوهرية في تاريخ الفكر السياسي المعاصر تكمن في السؤال : هل يمكن اعتبار كل ممارسة للسلطة سياسة ؟ هذا السؤال يحيل مباشرة إلي القول أن كل ممارسة للسلطة ليست بالضرورة سياسة ، ومنه لا يمكن اعتبار السياسة هي علم السلطة فقط ، لأن ذلك هو قتل لها، ولأن السياسة عصية عن التعريف لارتباطها بحياة الإنسان اليومية ، وعلاقتها المباشرة بالمصالح والمنافع ، حيث تظهر في كل تنظيم إداري أو غير إداري ، بل توجد بالقوة والفعل في حياة الجماعات الصغرى .
ويترتب على هذا السؤال التالي هل تدخل المدينة الرشدية إلي عالم اليوتويبات ؟ لابد لنا لكى نحيط بهذه المسألة من النظر أبتداءً فى المدخل النظرى .
اولاً : المدخل النظري :
ابن رشد : المكان والزمان وتداعيات السؤال السياسي:
لم يخرج الخطاب الفلسفي عن ثلاثة محاور رئيسية " الله ، الإنسان ، والعالم "، حيث كان التفكير الفلسفي متربعا بالميتافيزيقا التي تشكل علاقة فلسفية بين الله كقوة متعالية عن الموجودات، ومصدر كل ما هو موجود بين العالم ،الذي هو الواسطة بين واجب الوجود والموجود الأشرف الذي هو الإنسان ، فالله خالق العالم قبل الإنسان حتى بوجود الإنسان . ولكن الإنسان يبقي دوما محور البحث والدراسة، باعتباره ذاتاً باحثة، وموضوعاً للبحث في اللحظة نفسها ، وتأتي المدينة ( الدولة ) في المرحلة الثانية، لما لها من علاقة وطيدة بحياته الاجتماعية ، ومن هنا كانت المدينة في الفكر السياسي تعكس العلاقة الجدلية بين المرغوب والمرفوض ، وما هو كائن وما ينبغي أن يكون ، لأن العقل السياسي تحكمه القاعدة التالية " التنظير دوما ينطلق من ما ينبغي أن يكون من معكوس ما هو كائن " . وهنا فإن المستقبل والمصير يتجلي حضورهما في ثلاث مستويات :-
1- الخوف من المجهول يؤدي إلي رسم إستراتيجية الغد.
2- رفض الواقع يفرض تنظير الحاضر .
3- اليأس من الحاضر يدفع الفكر إلي الارتماء في أحضان الماضي لرسم معالم السعادة.
يقول بوعرفة، ونحن نتعامل مع النص بين أيدينا ترجمة عبرية يائسة لنص رشدي عريق ، ولموضوع كان يعتبر في زمانهم سر الأسرار ، إذا أننا في دراسة الضروري في السياسة لابن رشد لا نملك سوي المعطي الإيديولوجي لقراءة النص الرشدي ، والقصد من المعني الإيديولوجي ليس بالمعنى المستهجن ، بل القصد به المعني العلمي ، فابن رشد لم يغامر بإنتاج نص سياسي مستقل ، بل دفعه المكان والزمان إلي استحضار أفلاطون ليفكر من خلاله في مشكلات مجتمعه . حيث عايش نفس الوضع الذى نحن فيه ، نقصد حيال التعامل مع التراث المهجور ، وتعاملا مع النص وفق لما يمليه حال عصرهم ، ومن ثم فإن دراسة الضروري في السياسة لابن رشد لا تخلو من الإسقاطات الإيديولوجية ، وكما يقول محمد عابد الجابري كل قراءة للتراث هي قراءة إيديولوجية ، وخاصة إذا لمسنا قلقا في العبارة الرشدية في مجال القول السياسي .
ودراسة الفكر السياسي الرشدي تفرض ضرورة دراسة بيئة الدراسة ، دراسة تحليلية ، لكون ابن رشد جاء في فترة زمانية جدٌ معقدة ، من حيث وضع المكان والزمان ، فالبلاد الأندلسية كانت تشهد تشرذماً سياسياً وانحلالًا اجتماعياً . إضافة إلي طبيعتها الاستبدادية، مما جعل ابن رشد يصف المشهد السياسى لأول مرة في تاريخ الفكر السياسي بوحداني التسلط .
كما طغت على المجتمع السفسطائية الإسلامية بصورة أعلي من الكلامية ، فتفرقت الأمة إلي شيع ، فكثرت الملل والعقائد ، ومما زاد الأمر أزمة وسوءًا سيطرة الفقهاء على الحياة الثقافية والسياسية ، فكانت كل الظروف ضد مشروع ابن رشد المعرفي والسيّاسي .
2- الفلسفة فى الفضاء الأندلسى :
للفكر الفلسفي في بلاد الأندلس حضور متميز ، نتيجة اشتغال الحكام بالنظر الفلسفي وحبهم للمشتغلين بالفلسفة . ولقد وجد ابن رشد في الدولة الموحدية الآراء الأمثل للاشتغال بالفلسفة خاصة الرعيل الأول من حكامها ، حيث حاول ابن رشد أن يؤسس أرضية للتقارب بين النظر الفلسفي والشريعة الإسلامية .
وعلى هذا اخذ ابن رشد علي عاتقه ضرورة تقريب صور الحكمة لأنصاف المتعلمين ( الفقهاء والمتكلمة ) باعتبارهم الحلقة الأضعف معرفيا في بنية الثقافة الإسلامية ، وكانوا من جهة ثانية يمثلون خصماً شرساً للفلسفة . ولا جل تقديم الفلسفة في أفضل صورة كان عليه أن يكون أكثر شفافية في أطروحاته الفكرية ، وأن يعتمد البرهان كمنهج قوي ومثمر ، لان دوره كمثقف يتطلب منه ذلك .
ولذا فإن عملية التأسيس تتم بناءً على:
1-الاستعانة بكتب الأقدمين ضرورة وواجب شرعي .والاستعانة عند ابن رشد تراكمية تخضع للتتابع ، وتتطلب من الناظر فيها الاستعانة بما كتبه الأقدمون ، لا لقصور نظر المتأخرين ، بل لكي يستفيد الناظر من علم الأقدمين بمقدار ما يستطيع أن يٌحيَن معرفة عصره ، خاصة أرسطو ثم أفلاطون هو:-
أولاً: دحض المعرفة السلطانية.
وثانياً : نقد المنطق الفقهي البليد .
وثالثاُ: تعريه المذهب الأشعري .
3- إيديولوجية السلطة ينبغي أن تكون المعرفة :
فطن أبن رشد إلى ضرورة إشراك السلطة في عملية احتضان المعرفة لا إنتاجها ، إذ المعرفة تستمد وجودها من قوة السلطة ، بالتالي فكل مشروع فكري يريد أن يجسد ميدانيا لا بد له من حصانة إيديولوجية .
4- المعرفة الفلسفية تتطلب النظائر :
أن عملية التأسيس للفلسفة في أرضيه فقهية ذات إيديولوجية أشعرية ، يفرض علي ابن رشد أن يضع الحوار الفلسفي ضمن إطار الندية الفكرية ، لان البرهان لا يقبل إلا جنسه، والناس عند ابن رشد ثلاثة أصناف ( الجمهور =الخطابة ، المجادلون = الطبع والعادة ، العلماء =الحكمة والنظر) .
5 التحرر من الإيديولوجية الكلامية
من خلال كتابه مناهج الأدلة ، ندرك أن ابن رشد يرفض علم الكلام كشكل من أشكال المعرفة ، وينتقد المتكلمة من حيث كونها تحولت إلي إيديولوجيا المدن الجاهلة ، فمن خلال ملازمة ابن رشد للبيت الحاكم أدرك خطورة المذهب الأشعري علي آفاق التفكير السياسي ، وخطورة ابن تومرت ؛ لكن ابن رشد لا يستطيع أن ينتقد ابن تومرت، الأب الروحي للموحدين، فاختار أسلوباً جديداً للنقد ، إنه النقد بالتلميح، الذي يتأسس على نقد المرجع الأول لابن تومرت، والمتمثل في شخص الغزالي الأشعري ، رغم أن أغلب الدراسات تحاول تصوير ابن رشد مهاجماً للغزالي .
لقد ربط ابن رشد إيديولوجية الدولة الموحدة بفكر ابن تومرت ، وأن تحطيم الأيديولوجية لا ينجح بالتصريح المباشر ، لذا اختار الغزالي ليحاوره فلسفيا من أجل أن يتقدم هو فلسفياً وسياسياً . إن ابن رشد يعترف أن مقصدهما واحد . وأن ما أراده الغزالي هو نفسه ما يريد لما فيه من المنفعة الشاملة لأهل ملة الإسلام . فالمقصود بالهجمة إذن هو مذهب ابن تومرت .
6-القضاء على سلطة الملكية :
حاول أفلاطون القضاء على سلطة السفسطائيين المعرفية ، التي مكنتهم من الحضور القوي في المجال السياسي فافسدوا المدينة . وحاول ابن رشد من جهته أن يحذو حذو أفلاطون . لأن تقويض الأشعرية كبنية معرفية ، ينتج عنه حتما تقويض سلطة وحداني التسلط ، لقد كان ابن رشد يريد أن تصبح السلطة في يد الفلاسفة لكونهم أدرى الأصناف بمواطن الفساد والكمال ، وأكثر علماء الشرائع والدساتير، وأقدر الناس علي التأويل ، وفهم الغايات من الأحكام؛ وذلك من خلال هدم إيديولوجيات الدولة المتمثلة في الأشعرية ، بهدف انتقاد ابن رشد للمتكلمين إلي انتزاع السلطة العلمية منهم .
السياسة في الأندلس الواقع والأفاق
لقد استفاد ابن رشد من التجربة الباجوية ، فالثورة على ظاهرة الفساد في مدن الأندلس حيث كانت المدن تشهد تناقضات في الخطاب السياسي ، فكانت المعركة مزيجاً من الدوافع العنصرية الجنسية والسياسية الإدارية والثقافة الأدبية والدينية . لقد تعمد بعض المثقفين إدخال الثقافة اليونانية لتقويض ظاهرة التعالي الفارسي والمد الشّعوبي المتنامي ، ووضع الصراع السياسي ضمن إطار الفلسفة والشريعة .
الثورة على نظام ابن تومرت السياسي
إن قراءة تاريخ ابن تومرت تفٌصح عن شخصيته القوية والخطرة للغاية، فقد سطر في كتابه التوحيد بعض الآراء الكلامية تخص النقاط التالية : - 1- الإمامة ، القدرة الآلهة ، الرؤية ، الفعل الإنساني ، العقاب والثواب ، التكليف ، الصفات ، الإيمان ، مرتكب الكبيرة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمهم في الأمر أن أغلب الآراء الكلامية كانت تتجه نحو ما هو سياسي . فقد طبع ابن تومرت تاريخ الدولة الموحدية بطابع الدم والإكراه ، وهذا السلوك يجعل فيلسوفاً كابن رشد يدرك خطورته على مصير المدينة الإسلامية " التصفيات الدموية الرهيبة التي باسم التمييز ، رئاسة أحادية التسلط والذي ، كيف نضع حدا الأحادي التسلط ؟ ، وكيف نؤسس المدينة الفاضلة ؟
أفلاطون معلم التغيير
لم يجد ابن رشد في أفلاطون ضالته السياسية كما وجدها في نظريته المعرفة ، وعليه توجه إلي أفلاطون لأنه اعتقد في شخصه امكانية وضع أولي الخطوات لمشروعه السياسي ( الملك الحق) ، ومحاولة إعادة حكم الشريعة يدل على أنظمة الحكم المنحرفة ، أن القاضي الوفي لمبادئ الشريعة ، لابد أن يبحث في غير الشريعة عن ما يصلح به الفساد السياسي .
الضروري في السياسة الغاية الإبعاد
الضروري في السياسة هو العمل الوحيد الذي يظهر ابن رشد بعيدًا عن أرسطو، ولعل هذا النزوع نحو أفلاطون في المجال السياسي دفع الكثير من الباحثين إلي التساؤل عن سبب هذا التحول النوعي لقد دفع البعض إلي التشكيك في التعليل الرشدي الذي يبرر بعدم حصوله على كتاب السياسة لأرسطو . فحسب رأي عبد الرحمن بدوي بالدليل القاطع أن بن رشد اطلع علي كتاب أرسطو للسياسة لأرسطو ، ولم يقف عند قراءته، بل ذهب إلي تلخيصه ، والسؤال المحير لما عزف ابن رشد عن أرسطو في مجال السياسة ؟ ربما يفسر ذلك جملة من الفرضيات منها :
1- أن كتاب أرسطو لا يحقق التغيير والإصلاح الدستوري أكثر من الطابع النظري ، الذي يقوده بالضرورة إلي توظيف أفلاطون عن طريق شرح بعض فصول محاورته وتجاهل بعضها . من خلال التجربة الرشدية يمكن القول أن إخوان الصفا والفارابي وابن سينا اتجهوا في كتاباتهم السياسية لأفلاطون بدل أرسطو وكانوا يبحثون عن خطاب يحمل معالم الثورة والرفض، كما يجمل معالم الواقع السحري ، ذلك لأن الخطاب السياسي لابد أن يتعين بعداً إيديولوجيا، أي تبرير للواقع ، بل وبالأساس بعداً يوتوبيا ود بالجنة على الأرض .
2- أن النسق الأرسطي لا يحقق لابن رشد أهداف السياسة لكونه خطاب مقنن وخاص بمرحلة معينة ، بيد أن أفلاطون أعطي لأغلب المفكرين الفضاء النقدي والتأملي ، وبالتالي يمكن أن نؤول كيف وظف ابن رشد النص الأفلاطوني ، وذلك من خلال الاستفادة من الإطار النظري للمدينة الفاضلة وممارسة النقد السياسي ، وإبراز الجدة فيه كخطاب برهاني نقدي في السياسة .
3- أما الفريق الثالث فيذهب إلي تبرير الاستعاضة بأفلاطون إلي وجود مقام صحبة إيديولوجية اكتشفها ابن رشد من خلال فلسفة أفلاطون .
ودراسة الفكر السياسي الرشدي تفرض ضرورة دراسة بيئة الدراسة ، دراسة تحليلية ، لكون ابن رشد جاء في فترة زمانية جدٌ معقدة ، من حيث وضع المكان والزمان ، فالبلاد الأندلسية كانت تشهد تشرذماً سياسياً وانحلالًا اجتماعياً . إضافة إلي طبيعتها الاستبدادية، مما جعل ابن رشد يصف المشهد السياسى لأول مرة في تاريخ الفكر السياسي بوحداني التسلط .
كما طغت على المجتمع السفسطائية الإسلامية بصورة أعلي من الكلامية ، فتفرقت الأمة إلي شيع ، فكثرت الملل والعقائد ، ومما زاد الأمر أزمة وسوءًا سيطرة الفقهاء على الحياة الثقافية والسياسية ، فكانت كل الظروف ضد مشروع ابن رشد المعرفي والسيّاسي .
2- الفلسفة فى الفضاء الأندلسى :
للفكر الفلسفي في بلاد الأندلس حضور متميز ، نتيجة اشتغال الحكام بالنظر الفلسفي وحبهم للمشتغلين بالفلسفة . ولقد وجد ابن رشد في الدولة الموحدية الآراء الأمثل للاشتغال بالفلسفة خاصة الرعيل الأول من حكامها ، حيث حاول ابن رشد أن يؤسس أرضية للتقارب بين النظر الفلسفي والشريعة الإسلامية .
وعلى هذا اخذ ابن رشد علي عاتقه ضرورة تقريب صور الحكمة لأنصاف المتعلمين ( الفقهاء والمتكلمة ) باعتبارهم الحلقة الأضعف معرفيا في بنية الثقافة الإسلامية ، وكانوا من جهة ثانية يمثلون خصماً شرساً للفلسفة . ولا جل تقديم الفلسفة في أفضل صورة كان عليه أن يكون أكثر شفافية في أطروحاته الفكرية ، وأن يعتمد البرهان كمنهج قوي ومثمر ، لان دوره كمثقف يتطلب منه ذلك .
ولذا فإن عملية التأسيس تتم بناءً على:
1-الاستعانة بكتب الأقدمين ضرورة وواجب شرعي .والاستعانة عند ابن رشد تراكمية تخضع للتتابع ، وتتطلب من الناظر فيها الاستعانة بما كتبه الأقدمون ، لا لقصور نظر المتأخرين ، بل لكي يستفيد الناظر من علم الأقدمين بمقدار ما يستطيع أن يٌحيَن معرفة عصره ، خاصة أرسطو ثم أفلاطون هو:-
أولاً: دحض المعرفة السلطانية.
وثانياً : نقد المنطق الفقهي البليد .
وثالثاُ: تعريه المذهب الأشعري .
3- إيديولوجية السلطة ينبغي أن تكون المعرفة :
فطن أبن رشد إلى ضرورة إشراك السلطة في عملية احتضان المعرفة لا إنتاجها ، إذ المعرفة تستمد وجودها من قوة السلطة ، بالتالي فكل مشروع فكري يريد أن يجسد ميدانيا لا بد له من حصانة إيديولوجية .
4- المعرفة الفلسفية تتطلب النظائر :
أن عملية التأسيس للفلسفة في أرضيه فقهية ذات إيديولوجية أشعرية ، يفرض علي ابن رشد أن يضع الحوار الفلسفي ضمن إطار الندية الفكرية ، لان البرهان لا يقبل إلا جنسه، والناس عند ابن رشد ثلاثة أصناف ( الجمهور =الخطابة ، المجادلون = الطبع والعادة ، العلماء =الحكمة والنظر) .
5 التحرر من الإيديولوجية الكلامية
من خلال كتابه مناهج الأدلة ، ندرك أن ابن رشد يرفض علم الكلام كشكل من أشكال المعرفة ، وينتقد المتكلمة من حيث كونها تحولت إلي إيديولوجيا المدن الجاهلة ، فمن خلال ملازمة ابن رشد للبيت الحاكم أدرك خطورة المذهب الأشعري علي آفاق التفكير السياسي ، وخطورة ابن تومرت ؛ لكن ابن رشد لا يستطيع أن ينتقد ابن تومرت، الأب الروحي للموحدين، فاختار أسلوباً جديداً للنقد ، إنه النقد بالتلميح، الذي يتأسس على نقد المرجع الأول لابن تومرت، والمتمثل في شخص الغزالي الأشعري ، رغم أن أغلب الدراسات تحاول تصوير ابن رشد مهاجماً للغزالي .
لقد ربط ابن رشد إيديولوجية الدولة الموحدة بفكر ابن تومرت ، وأن تحطيم الأيديولوجية لا ينجح بالتصريح المباشر ، لذا اختار الغزالي ليحاوره فلسفيا من أجل أن يتقدم هو فلسفياً وسياسياً . إن ابن رشد يعترف أن مقصدهما واحد . وأن ما أراده الغزالي هو نفسه ما يريد لما فيه من المنفعة الشاملة لأهل ملة الإسلام . فالمقصود بالهجمة إذن هو مذهب ابن تومرت .
6-القضاء على سلطة الملكية :
حاول أفلاطون القضاء على سلطة السفسطائيين المعرفية ، التي مكنتهم من الحضور القوي في المجال السياسي فافسدوا المدينة . وحاول ابن رشد من جهته أن يحذو حذو أفلاطون . لأن تقويض الأشعرية كبنية معرفية ، ينتج عنه حتما تقويض سلطة وحداني التسلط ، لقد كان ابن رشد يريد أن تصبح السلطة في يد الفلاسفة لكونهم أدرى الأصناف بمواطن الفساد والكمال ، وأكثر علماء الشرائع والدساتير، وأقدر الناس علي التأويل ، وفهم الغايات من الأحكام؛ وذلك من خلال هدم إيديولوجيات الدولة المتمثلة في الأشعرية ، بهدف انتقاد ابن رشد للمتكلمين إلي انتزاع السلطة العلمية منهم .
السياسة في الأندلس الواقع والأفاق
لقد استفاد ابن رشد من التجربة الباجوية ، فالثورة على ظاهرة الفساد في مدن الأندلس حيث كانت المدن تشهد تناقضات في الخطاب السياسي ، فكانت المعركة مزيجاً من الدوافع العنصرية الجنسية والسياسية الإدارية والثقافة الأدبية والدينية . لقد تعمد بعض المثقفين إدخال الثقافة اليونانية لتقويض ظاهرة التعالي الفارسي والمد الشّعوبي المتنامي ، ووضع الصراع السياسي ضمن إطار الفلسفة والشريعة .
الثورة على نظام ابن تومرت السياسي
إن قراءة تاريخ ابن تومرت تفٌصح عن شخصيته القوية والخطرة للغاية، فقد سطر في كتابه التوحيد بعض الآراء الكلامية تخص النقاط التالية : - 1- الإمامة ، القدرة الآلهة ، الرؤية ، الفعل الإنساني ، العقاب والثواب ، التكليف ، الصفات ، الإيمان ، مرتكب الكبيرة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمهم في الأمر أن أغلب الآراء الكلامية كانت تتجه نحو ما هو سياسي . فقد طبع ابن تومرت تاريخ الدولة الموحدية بطابع الدم والإكراه ، وهذا السلوك يجعل فيلسوفاً كابن رشد يدرك خطورته على مصير المدينة الإسلامية " التصفيات الدموية الرهيبة التي باسم التمييز ، رئاسة أحادية التسلط والذي ، كيف نضع حدا الأحادي التسلط ؟ ، وكيف نؤسس المدينة الفاضلة ؟
أفلاطون معلم التغيير
لم يجد ابن رشد في أفلاطون ضالته السياسية كما وجدها في نظريته المعرفة ، وعليه توجه إلي أفلاطون لأنه اعتقد في شخصه امكانية وضع أولي الخطوات لمشروعه السياسي ( الملك الحق) ، ومحاولة إعادة حكم الشريعة يدل على أنظمة الحكم المنحرفة ، أن القاضي الوفي لمبادئ الشريعة ، لابد أن يبحث في غير الشريعة عن ما يصلح به الفساد السياسي .
الضروري في السياسة الغاية الإبعاد
الضروري في السياسة هو العمل الوحيد الذي يظهر ابن رشد بعيدًا عن أرسطو، ولعل هذا النزوع نحو أفلاطون في المجال السياسي دفع الكثير من الباحثين إلي التساؤل عن سبب هذا التحول النوعي لقد دفع البعض إلي التشكيك في التعليل الرشدي الذي يبرر بعدم حصوله على كتاب السياسة لأرسطو . فحسب رأي عبد الرحمن بدوي بالدليل القاطع أن بن رشد اطلع علي كتاب أرسطو للسياسة لأرسطو ، ولم يقف عند قراءته، بل ذهب إلي تلخيصه ، والسؤال المحير لما عزف ابن رشد عن أرسطو في مجال السياسة ؟ ربما يفسر ذلك جملة من الفرضيات منها :
1- أن كتاب أرسطو لا يحقق التغيير والإصلاح الدستوري أكثر من الطابع النظري ، الذي يقوده بالضرورة إلي توظيف أفلاطون عن طريق شرح بعض فصول محاورته وتجاهل بعضها . من خلال التجربة الرشدية يمكن القول أن إخوان الصفا والفارابي وابن سينا اتجهوا في كتاباتهم السياسية لأفلاطون بدل أرسطو وكانوا يبحثون عن خطاب يحمل معالم الثورة والرفض، كما يجمل معالم الواقع السحري ، ذلك لأن الخطاب السياسي لابد أن يتعين بعداً إيديولوجيا، أي تبرير للواقع ، بل وبالأساس بعداً يوتوبيا ود بالجنة على الأرض .
2- أن النسق الأرسطي لا يحقق لابن رشد أهداف السياسة لكونه خطاب مقنن وخاص بمرحلة معينة ، بيد أن أفلاطون أعطي لأغلب المفكرين الفضاء النقدي والتأملي ، وبالتالي يمكن أن نؤول كيف وظف ابن رشد النص الأفلاطوني ، وذلك من خلال الاستفادة من الإطار النظري للمدينة الفاضلة وممارسة النقد السياسي ، وإبراز الجدة فيه كخطاب برهاني نقدي في السياسة .
3- أما الفريق الثالث فيذهب إلي تبرير الاستعاضة بأفلاطون إلي وجود مقام صحبة إيديولوجية اكتشفها ابن رشد من خلال فلسفة أفلاطون .
ثانياً : الخطاب السياسي الرشدي الخصوصية والمنطلقات
1- القراءة الشريدة : إن ابن رشد مجرد شارح ممتاز لأرسطو ، لم ينتج خطاباً في السياسة.
2- مجال الشك : هل فعلاً أن ابن رشد لخص أو شرح كتاب السياسة لأفلاطون ، من جهة أخري فإن طريقة عرض الكتاب تثبت فعلاً أن التلخيص أو الشرج لابن رشد فيلسوف قرطبة .
3- بنية الكتاب : المتن الأفلاطوني والانتقاه الرشدي : قدم ابن رشد مختصره في ثلاث مقالات .
4- تحدث عن العلم المدني وكيفية تشييد المدينة الفاضلة ، فكتاب الأخلاق لأرسطو يشكل بنية النظرية السياسية الرشدية ، أما كتب أفلاطون فيعطيها الجانب النظري والنقدي.
ومن خلال المقالات الثلاثة نلاحظ ان ابن رشد اختار ما هو ضروري لقصده وغرضه ، وبالتالي لم يتحدث عن معاني العدالة الأفلاطوني لكونه مبنيا علي الأقاويل الجدلية ، ومن جهة أخري أن معنى العدالة عند المسلمين متجذر في النص الشرعي ، أما رفضه للمقال العاشر من المقال فيعود لكونه مجرد أساطير لا تمت بصلة لمعتقدات المسلمين ، ولم يتحدث عن الشعر من المقال التاسع لكون ابن رشد سبق وأن لخص كتاب الشعر لأرسطو ، وطبق الكثير من القواعد الفنية والمعايير الجمالية على الشعر العربي .
منهج عرض الكتاب
الغرض من تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون ، والغرض من ذلك شجب الطابع الحواري بوصفه يدعم الأقاويل الجدلية التي يرفضها ابن رشد ، و يحاول في كل تلخيص ، شرح الأقاويل برهانيه ، استطاع ابن رشد أن ينفذ إليها خلال اعتماده المنهج الأرسطي .القول أن نجرد الأقاويل العلمية التي في كتاب السياسة المنسوب لأفلاطون في العلم المدني ، ونحذف الآراء والأقوال الجدلية ، سالكين سبيل الاختصار كما هي عادتنا في ذلك .بعبارة آخري فهو يقدم ما هو ضروري في العلم النظري أو العملي ، مع التركيز على ما يقترب من البرهان والهدف من ذلك هو قطع الطريق علي فئة السفسطائيين في عصره أي المتكلمة الذين يجعلون من الأقاويل الجدلية نقطة انشغالهم الكبرى .
الضروري في السياسة
مراجعات لرؤى الجابري :
إن مصطلح العقل المستقيل الذي وظفه الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ، يتمثل فى أن العقل المستقيل هو الذي اختار نهايته، فالجابري يعتقد أن سبب تأخر المسلمين كان من جراء تقديم العقل لاستقالته ، حيث يبرر الجابري ذلك بالرجوع إلي وجود إرثين :
1- اصرر العقل العربي علي تقديم استقالته فبعضها يرجع إلي الموروث القديم ( السابق علي الإسلام ).
2- وبعضها يرجع إلي الموروث الإسلامي الخالص .
لكن الغريب في الآمر أن الجابري بعدما أعلن استقالة العقل العربي نجده في مقدمته التحليلية للضروري في السياسية يتراجع عن رأيه ، واضعاً العنوان الكبير ( ابن رشد يرفض استقالة العقل السياسي ) ، ذلك أن اغلب الأحكام التي نطلقها علي الموروث الإسلامي غير متطابقة مع مقدماتها ، رغم أن ترثنا الإسلامي أغلبه اتلف ، أو هو موجود بلغات أجنبية . فأما أن نطلع على ترثنا إطلاعاً واسعاً ، وأما أن نكف تلك القراءات الساذجة .
3-الضرورة في السياسة ومعالم النكبة الرشدية
إن نكبة ابن رشد لابد أن تكون ذات دلالة سياسية ، لان التاريخ اثبت أن النكبات التي حلت بالعلماء أغلبها كان وراءه دافع سياسي ، وموقف إيديولوجي ، بما يفيد أن سبب النكبة هو تحالف ابن رشد مع أبي حيان واختصاصه ابن رشد بالأمير ،وهو الذي كان وراء النكبة، لان المنصور مرض بمراكش ، وظن انه ميت لا محالة فقام أبو يحي يدعو بالخلافة لنفسه في قرطبة وغيرها ، وبايعه شيوخ بعض القبائل، لكن المنصور شفي ، فما كان منه إلا أن قتل أخيه، والكثير من الأنصار ، واحرق كتب ابن رشد، وشهر به تشهيراً، وكتب وثيقة ظاهرها الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وباطنها التعرض الصريح لابن رشد. النكبة الأساسية كان قد سمها بالنصوص القاتلة لما فيها من التصريح بفساد الحكم، ونعت المنصور بالطاغية، وآحادي التسلط، وتلك النصوص تفوق العشرة ، وهذا هو سبب عزوف ابن رشد عن التنظير السياسي ، إنما كان يعود إلي خشيته من السلطان .
الضروري : بين أفاق الإبداع وحدود الشرح :
هناك ثلاث حقبات معرفية متتالية مرت بالمسلمين ( النقل ، التحول ، الإبداع ) ، والدليل أن الشرح الرشدي ليس من باب النقل ، وإنما تتبع المنهج التالي :
1- حذف الأساطير اليونانية والشواهد الإغريقية من متنه لكونها لا تتلاءم مع ثقافتة وخصوصيته كمسلم . وحذف الماقل العاشر الذي يتحدث عن أسطورة آير ER .
2- تضمين المتن بالشواهد الإسلامية من آيات وأحاديث ، ومن كلام العرب وأشعارهم ، وذكر الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام ، ففي الضروري تنبه ابن رشد إلي ضرورة تبيئة النص الوافد مهما بلغ من الأهمية العلمية، لأنه إذا لم تتم تبييته يظل نصاً غريباً مهجورا ، حيث يمتاز ابن رشد بمثالية خاصة في أخلاقه السياسية، وبواقعية دقيقة في تحليله الفلسفي للمشاكل مجتمعه، والجابري يقلل من شان كتاب الضروري في السياسة. ابن رشد .الضروري الوجه الآخر لابن رشد السياسي :
حاول ابن رشد أن يبدءا بداية المجتهد ونهاية المقتصد ،لأن الكتاب له دلالة دينية كبيرة ، كما يحاول من خلاله تأسيس لمذهب السلطة المقبلة ، وليجعله في المستقبل دستور المدينة الفاضلة ويقوض من خلاله مذهب ابن تومرت ، وفيه بلورة رؤيته السياسية، ذلك لأن فكرة المدينة الفاضلة لن تتحقق إلا من خلال الفلسفة ، فكان لابد من وجود مصداقية للفلسفة ووجوب شرعي ، يصدق القول كذلك علي مناهج الأدلة، لأن الإصلاح السياسي يكمن في هدم البنية المعرفية للعقائد والملل المنتشرة في الإسلام ، والتي مزقت الدين، وفرقت الأمة ، كذلك أن ابن رشد السياسي لم يكن يريد الغوص في الرؤية السياسية؛ بل كان هدفه هو المكاشفة السياسية فأفلاطون يباشر النقد السياسي، ويحاول إصلاح النظام السياسي الأثيني ، أما ابن رشد فقد حاول توظيف النقد لواقع أمته ، مما يدلنا علي أن ابن رشد كان يمتلك خبرة واسعة عن السياسة ، والقدرة الفائقة في فهم عمق المجتمع الإسلامي، ومن ثم سبر اغواره .
ثالثاً : التراث الرشيدي والترجمات العبرية :
شكل اليهود قبل الإسلام العقل والنظر ، العلم والبرهان ، في حين شكل العرب آنذاك القول والبيان ، ولما ظهر الإسلام وتشكل العقل الإسلامي ، تراجع المد الثقافي اليهودي ، ومع الانفتاح الإسلامي علي الثقافات العالمية ظهر اليهود كمترجمين وعلماء تفوقوا في تخصصات مختلفة ،كذلك في فهم الفلسفة اليونانية والترجمة والإبداع الفلسفي ، وتقديمه في شكل تلخيص وشروحات ورسائل ، الأمر الذى جعل اليهود يتحولوا من طور الأساتذة إلي طور التلمذة ، فطفقوا يجمعون التراث الإسلامي، خاصة بعد أن عمدت بعض السلطات إلي حرق وإتلاف تراث كبار الفلاسفة المتصوفة في الإسلام . في تلك الأثناء نشطت حركة الترجمة للانتلجنسيا ، وخاصة في مجال الترجمة والإبداع الفلسفي ، ولم تكن غاية الترجمة اليهودية تمجيد العلم العربي ، وإنما الغرض منها بزوغ اليهودية في المجالات الآتية:
1- التفرد في الفنون والعلوم والتعمق في الثقافات المسحورة بفكرة شعب الإله المختار المتفرد بالحكمة والنبوة .
2- تخليص الفلسفة من رواسب المسيحية ومحاولة ربط الفلسفة اليهودية بالفلسفة اليونانية .
3- السيطرة على الفكر الغربي من خلال إرغامه على الاعتماد علي الخرف والنص العبري.
ابن رشد والجاليات العبرية : إعجاب أم توظيف :
لا احد ينكر دور الجالية اليهودية في حفظ التراث من الضياع ، لكن الترجمة لم تكن بريئة ، ولقد كان القصد من ورائها أهداف قومية وسياسية، مما يستوجب عرض مجموعة من الفرضيات :
1-هل لكونه عرف بالشارح الأكبر لأرسطو ، ومن ثم فإن الاطلاع علي الفكر اليوناني وخاصة الأرسطي لابد أن يمر عبر الفكر الرشدي ، لان ابن رشد عند الغرب مجرد قارئ ذكي لأرسطو.
2-هل لكونه فيلسوفا مضطهدا وهذه الفرضية تتطلب تحليل نفسي للشخصية اليهودية ، التي ابتليت بالمحن والنكبات رغم تعرض العديد من الفلاسفة للاضطهاد كابن باجة والسر قسطي ، وابن حزم الاشبيلي ، وأبو بكر ابن زهر تحت حكم الموحدين .
3- هل لكونه يملك منهجاً منسقاً يتسم بالبساطة والوضوح والقدرة علي الإقناع .
4- هل لكونه فيلسوف التنوير وهذا ما دفع اليهود إلي ترجمة أعماله ، باعتبار كل عمل يقدمه يحمل معالم الرفض للواقع .
5- هل لكون كبار اليهود أوصوا بترجمة اعماله خصوصا وصايا موسي بن ميمون ، والذي اعتبر أعمال ابن رشد تكسب صاحبها عزة وذخراً وان ابن رشد علم ومعلم .
6- هل كانت الترجمات من أجل أرضاء الملوك وان اعمال ابن رشد يمكن أن تعطي القوة لأهل الملة اليهود لجلالة العلوم التي يدرسها ويشرحها .
التلاقي الثقافي ، والتقارب مع الثقافات ووضع المسوغات التي تجعل الثقافات تتلاقح وتراوح ضمن مكان واحد .
7- عامل المحنة : - حيث وجد اليهود انهم بلا تراث تاريخي ، فحاولوا من خلال الترجمة أن يثبتوا للمسيحيين بالذات أن العنصر اليهودى محب للحكمة واللوغوس .
8- توظيف ابن رشد والغاية من ذلك هو هدم أسس التفكير اليهودي ، وإعادة بناء أسس تفكير يهودي يوناني .
9- هواجس الأقلية : أن الأقليات العرقية أو الفكرية لها دو فعال في صنع الاحداث التاريخية والأقلية نتيجة شعورها أنها أقلية تجنح إلي السيطرة علي كل ما هو ثقافي سياسي ، وأن تكون مركزاَ للقرار .
وسوف نتبع هذا فى الأيام القليلة القادمة باستكمال القراءة
1- القراءة الشريدة : إن ابن رشد مجرد شارح ممتاز لأرسطو ، لم ينتج خطاباً في السياسة.
2- مجال الشك : هل فعلاً أن ابن رشد لخص أو شرح كتاب السياسة لأفلاطون ، من جهة أخري فإن طريقة عرض الكتاب تثبت فعلاً أن التلخيص أو الشرج لابن رشد فيلسوف قرطبة .
3- بنية الكتاب : المتن الأفلاطوني والانتقاه الرشدي : قدم ابن رشد مختصره في ثلاث مقالات .
4- تحدث عن العلم المدني وكيفية تشييد المدينة الفاضلة ، فكتاب الأخلاق لأرسطو يشكل بنية النظرية السياسية الرشدية ، أما كتب أفلاطون فيعطيها الجانب النظري والنقدي.
ومن خلال المقالات الثلاثة نلاحظ ان ابن رشد اختار ما هو ضروري لقصده وغرضه ، وبالتالي لم يتحدث عن معاني العدالة الأفلاطوني لكونه مبنيا علي الأقاويل الجدلية ، ومن جهة أخري أن معنى العدالة عند المسلمين متجذر في النص الشرعي ، أما رفضه للمقال العاشر من المقال فيعود لكونه مجرد أساطير لا تمت بصلة لمعتقدات المسلمين ، ولم يتحدث عن الشعر من المقال التاسع لكون ابن رشد سبق وأن لخص كتاب الشعر لأرسطو ، وطبق الكثير من القواعد الفنية والمعايير الجمالية على الشعر العربي .
منهج عرض الكتاب
الغرض من تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون ، والغرض من ذلك شجب الطابع الحواري بوصفه يدعم الأقاويل الجدلية التي يرفضها ابن رشد ، و يحاول في كل تلخيص ، شرح الأقاويل برهانيه ، استطاع ابن رشد أن ينفذ إليها خلال اعتماده المنهج الأرسطي .القول أن نجرد الأقاويل العلمية التي في كتاب السياسة المنسوب لأفلاطون في العلم المدني ، ونحذف الآراء والأقوال الجدلية ، سالكين سبيل الاختصار كما هي عادتنا في ذلك .بعبارة آخري فهو يقدم ما هو ضروري في العلم النظري أو العملي ، مع التركيز على ما يقترب من البرهان والهدف من ذلك هو قطع الطريق علي فئة السفسطائيين في عصره أي المتكلمة الذين يجعلون من الأقاويل الجدلية نقطة انشغالهم الكبرى .
الضروري في السياسة
مراجعات لرؤى الجابري :
إن مصطلح العقل المستقيل الذي وظفه الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ، يتمثل فى أن العقل المستقيل هو الذي اختار نهايته، فالجابري يعتقد أن سبب تأخر المسلمين كان من جراء تقديم العقل لاستقالته ، حيث يبرر الجابري ذلك بالرجوع إلي وجود إرثين :
1- اصرر العقل العربي علي تقديم استقالته فبعضها يرجع إلي الموروث القديم ( السابق علي الإسلام ).
2- وبعضها يرجع إلي الموروث الإسلامي الخالص .
لكن الغريب في الآمر أن الجابري بعدما أعلن استقالة العقل العربي نجده في مقدمته التحليلية للضروري في السياسية يتراجع عن رأيه ، واضعاً العنوان الكبير ( ابن رشد يرفض استقالة العقل السياسي ) ، ذلك أن اغلب الأحكام التي نطلقها علي الموروث الإسلامي غير متطابقة مع مقدماتها ، رغم أن ترثنا الإسلامي أغلبه اتلف ، أو هو موجود بلغات أجنبية . فأما أن نطلع على ترثنا إطلاعاً واسعاً ، وأما أن نكف تلك القراءات الساذجة .
3-الضرورة في السياسة ومعالم النكبة الرشدية
إن نكبة ابن رشد لابد أن تكون ذات دلالة سياسية ، لان التاريخ اثبت أن النكبات التي حلت بالعلماء أغلبها كان وراءه دافع سياسي ، وموقف إيديولوجي ، بما يفيد أن سبب النكبة هو تحالف ابن رشد مع أبي حيان واختصاصه ابن رشد بالأمير ،وهو الذي كان وراء النكبة، لان المنصور مرض بمراكش ، وظن انه ميت لا محالة فقام أبو يحي يدعو بالخلافة لنفسه في قرطبة وغيرها ، وبايعه شيوخ بعض القبائل، لكن المنصور شفي ، فما كان منه إلا أن قتل أخيه، والكثير من الأنصار ، واحرق كتب ابن رشد، وشهر به تشهيراً، وكتب وثيقة ظاهرها الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وباطنها التعرض الصريح لابن رشد. النكبة الأساسية كان قد سمها بالنصوص القاتلة لما فيها من التصريح بفساد الحكم، ونعت المنصور بالطاغية، وآحادي التسلط، وتلك النصوص تفوق العشرة ، وهذا هو سبب عزوف ابن رشد عن التنظير السياسي ، إنما كان يعود إلي خشيته من السلطان .
الضروري : بين أفاق الإبداع وحدود الشرح :
هناك ثلاث حقبات معرفية متتالية مرت بالمسلمين ( النقل ، التحول ، الإبداع ) ، والدليل أن الشرح الرشدي ليس من باب النقل ، وإنما تتبع المنهج التالي :
1- حذف الأساطير اليونانية والشواهد الإغريقية من متنه لكونها لا تتلاءم مع ثقافتة وخصوصيته كمسلم . وحذف الماقل العاشر الذي يتحدث عن أسطورة آير ER .
2- تضمين المتن بالشواهد الإسلامية من آيات وأحاديث ، ومن كلام العرب وأشعارهم ، وذكر الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام ، ففي الضروري تنبه ابن رشد إلي ضرورة تبيئة النص الوافد مهما بلغ من الأهمية العلمية، لأنه إذا لم تتم تبييته يظل نصاً غريباً مهجورا ، حيث يمتاز ابن رشد بمثالية خاصة في أخلاقه السياسية، وبواقعية دقيقة في تحليله الفلسفي للمشاكل مجتمعه، والجابري يقلل من شان كتاب الضروري في السياسة. ابن رشد .الضروري الوجه الآخر لابن رشد السياسي :
حاول ابن رشد أن يبدءا بداية المجتهد ونهاية المقتصد ،لأن الكتاب له دلالة دينية كبيرة ، كما يحاول من خلاله تأسيس لمذهب السلطة المقبلة ، وليجعله في المستقبل دستور المدينة الفاضلة ويقوض من خلاله مذهب ابن تومرت ، وفيه بلورة رؤيته السياسية، ذلك لأن فكرة المدينة الفاضلة لن تتحقق إلا من خلال الفلسفة ، فكان لابد من وجود مصداقية للفلسفة ووجوب شرعي ، يصدق القول كذلك علي مناهج الأدلة، لأن الإصلاح السياسي يكمن في هدم البنية المعرفية للعقائد والملل المنتشرة في الإسلام ، والتي مزقت الدين، وفرقت الأمة ، كذلك أن ابن رشد السياسي لم يكن يريد الغوص في الرؤية السياسية؛ بل كان هدفه هو المكاشفة السياسية فأفلاطون يباشر النقد السياسي، ويحاول إصلاح النظام السياسي الأثيني ، أما ابن رشد فقد حاول توظيف النقد لواقع أمته ، مما يدلنا علي أن ابن رشد كان يمتلك خبرة واسعة عن السياسة ، والقدرة الفائقة في فهم عمق المجتمع الإسلامي، ومن ثم سبر اغواره .
ثالثاً : التراث الرشيدي والترجمات العبرية :
شكل اليهود قبل الإسلام العقل والنظر ، العلم والبرهان ، في حين شكل العرب آنذاك القول والبيان ، ولما ظهر الإسلام وتشكل العقل الإسلامي ، تراجع المد الثقافي اليهودي ، ومع الانفتاح الإسلامي علي الثقافات العالمية ظهر اليهود كمترجمين وعلماء تفوقوا في تخصصات مختلفة ،كذلك في فهم الفلسفة اليونانية والترجمة والإبداع الفلسفي ، وتقديمه في شكل تلخيص وشروحات ورسائل ، الأمر الذى جعل اليهود يتحولوا من طور الأساتذة إلي طور التلمذة ، فطفقوا يجمعون التراث الإسلامي، خاصة بعد أن عمدت بعض السلطات إلي حرق وإتلاف تراث كبار الفلاسفة المتصوفة في الإسلام . في تلك الأثناء نشطت حركة الترجمة للانتلجنسيا ، وخاصة في مجال الترجمة والإبداع الفلسفي ، ولم تكن غاية الترجمة اليهودية تمجيد العلم العربي ، وإنما الغرض منها بزوغ اليهودية في المجالات الآتية:
1- التفرد في الفنون والعلوم والتعمق في الثقافات المسحورة بفكرة شعب الإله المختار المتفرد بالحكمة والنبوة .
2- تخليص الفلسفة من رواسب المسيحية ومحاولة ربط الفلسفة اليهودية بالفلسفة اليونانية .
3- السيطرة على الفكر الغربي من خلال إرغامه على الاعتماد علي الخرف والنص العبري.
ابن رشد والجاليات العبرية : إعجاب أم توظيف :
لا احد ينكر دور الجالية اليهودية في حفظ التراث من الضياع ، لكن الترجمة لم تكن بريئة ، ولقد كان القصد من ورائها أهداف قومية وسياسية، مما يستوجب عرض مجموعة من الفرضيات :
1-هل لكونه عرف بالشارح الأكبر لأرسطو ، ومن ثم فإن الاطلاع علي الفكر اليوناني وخاصة الأرسطي لابد أن يمر عبر الفكر الرشدي ، لان ابن رشد عند الغرب مجرد قارئ ذكي لأرسطو.
2-هل لكونه فيلسوفا مضطهدا وهذه الفرضية تتطلب تحليل نفسي للشخصية اليهودية ، التي ابتليت بالمحن والنكبات رغم تعرض العديد من الفلاسفة للاضطهاد كابن باجة والسر قسطي ، وابن حزم الاشبيلي ، وأبو بكر ابن زهر تحت حكم الموحدين .
3- هل لكونه يملك منهجاً منسقاً يتسم بالبساطة والوضوح والقدرة علي الإقناع .
4- هل لكونه فيلسوف التنوير وهذا ما دفع اليهود إلي ترجمة أعماله ، باعتبار كل عمل يقدمه يحمل معالم الرفض للواقع .
5- هل لكون كبار اليهود أوصوا بترجمة اعماله خصوصا وصايا موسي بن ميمون ، والذي اعتبر أعمال ابن رشد تكسب صاحبها عزة وذخراً وان ابن رشد علم ومعلم .
6- هل كانت الترجمات من أجل أرضاء الملوك وان اعمال ابن رشد يمكن أن تعطي القوة لأهل الملة اليهود لجلالة العلوم التي يدرسها ويشرحها .
التلاقي الثقافي ، والتقارب مع الثقافات ووضع المسوغات التي تجعل الثقافات تتلاقح وتراوح ضمن مكان واحد .
7- عامل المحنة : - حيث وجد اليهود انهم بلا تراث تاريخي ، فحاولوا من خلال الترجمة أن يثبتوا للمسيحيين بالذات أن العنصر اليهودى محب للحكمة واللوغوس .
8- توظيف ابن رشد والغاية من ذلك هو هدم أسس التفكير اليهودي ، وإعادة بناء أسس تفكير يهودي يوناني .
9- هواجس الأقلية : أن الأقليات العرقية أو الفكرية لها دو فعال في صنع الاحداث التاريخية والأقلية نتيجة شعورها أنها أقلية تجنح إلي السيطرة علي كل ما هو ثقافي سياسي ، وأن تكون مركزاَ للقرار .
وسوف نتبع هذا فى الأيام القليلة القادمة باستكمال القراءة