جدلية الثّورة والتغيير في القرآن
في فلسفة البخاري حمانه
***
نعتقد أن ما يحدث في العالم من تحولات خطيرة ورهيبة، يعود في الأصل إلى
جملة من التّصورات التي انبثقت في النّصف الأخير من القرن المنصرم، والتي ما فتئت
تتنبأ بموجات من الثّورات والحروب التي ستشهدها الدّول النامية بالخصوص، حيث ركزت
تلك التّصورات على أن مفاهيم الدّيمقراطية والعدالة والحرية ستصنع جيلا من الشباب
سيعشق الحرية والتغيير، وسيعمل على تغيير الأنظمة السّياسية وبعض القيم الاجتماعية
على السواء.
وكنا قد لاحظنا بوادر تلك الثّورات
في كل من تونس عقب ثورة الخبز في3 جانفي 1984، وانتفاضة 5 أكتوبر 88 بالجزائر، لكن العالم
العربي لم يكن مستعدا بعد لاحتضان تلك الثورتين آنذاك، كما هو الحال اليوم.
بيد أن انتفاضة 5 أكتوبر 88 بالجزائر استطاعت أن
تحدث تغييرا طفيفا في بنية النظام السياسي العتيد، وسمحت بتعددية حزبية شكلية، أدت
آخر الأمر إلى عشرية حمراء، كلفت الشعب الجزائري آلاف القتلى والمفقودين
والمعتقلين.
ظلت كثيرا من البلدان العربية
بمنأى عن ما يحدث في الجزائر، لكن التاريخ كان يحبك مكره السرمدي، إذ شهدت كثير من
الدول العربية حراكا ثوريا في نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، استطاعت بعدها
تلك الثّورات في مجملها من اقتلاع عروش الطغاة والمتشبثين بالسلطة أكثر من عقدين
أو يزيد.
استفاق الغرب على وهج الربيع العربي، وهو الذي
كان يعتقد أن الإنسان العربي بعيد كل البعد عن الثّورة والحرية، فهو إنسان يؤمن
بالحتميات، ويحول زعمائه وقادته إلى أصنام رابضة في عقله ومخياله. لم يستطع الغرب
هضم الثّورة التونسية، وبالتّالي لم يساندها أو يدعمها، ظنا منه أنها مجرد انتفاضة
سيكون مصيرها كمصير العشرات من الانتفاضات العربية، غير أن إصرار الشعب التونسي
على تغيير النظام كان أكبر من تنبؤات الغرب ذاته، لقد أسقطت الثّورة النظام في
تونس، ولم تكتف بذلك فحسب، بل صَّدرت ثورتها وتجربتها نحو العالم العربي، إذا اشتعلت
مصر وثارت ثائرتها، وغيرت كل التّوقعات والمسلمات، وأولها تلك المسلمة القائلة:
" يثور أبو الهول ولا يتحرك المصري." لكن الحقيقة كانت على العكس
تماما، بقي أبو الهول ساكنا وتحرك المصري في ثورة كانت مليئة بالمفاجآت والطرائف،
وحبلى بالتناقضات، أفرزت آخر الأمر حكومة مدنية وُلدت من رحم الديمقراطية.
لم يكن حظ بعض الشعوب كالحظ المصري
والتونسي، فالثّورة في ليبيا كانت دموية وقاسية، نظرا لطبيعة نظامها الديكتاتوري، ونظرا
لامتلاكها الذهب الأسود. ومن جهة أخرى، أن الغرب أعاد تنظيم حساباته وترميم
فلسفته، لقد انحاز إلى الشعوب ظاهريا .... لأنه لا يؤمن بالثّورة ... لكنه يعلم
أنه ستقتلع قلاع الحكام والقادة، وعليه يجب المحافظة على المصالح ولو فرض عليه التحالف
مع الشيطان ذاته.
لكن بالرغم من قساوة الثّورة
الليبية وارتفاع تكلفتها البشرية إلى خمسين ألف قتيل، إلا أن الشعب الليبي استطاع
آخر الأمر أن يحطم عرش العقيد التليد.
لم يكن الربيع العربي ربيعا على كل الشعوب،
فالشّعب اليّمني والسّوري لم يجد المساندة الكافية من المجتمع الدولي، ولازالت الثّورتان
لحد السّاعة لم تأت أكلهما، وخاصة الثّورة السورية التي طال أمدها وارتفعت قرابين
الحرية فيها إلى أكثر مما كان يتوقع مفجريها. وقد كنت ذكرت منذ اربع سنوات في مقال
لي بمجلة المستقبل العربي عن الشارع العربي والثورة : " إذن نحن نريد من خلال وحي
الشارع العربي أن نجعل من سؤال الحرية شعورا عميقا في لحظات تسمية الأشياء
بأسمائها، لا نريد أن يكون الشعور الحرية وليد الأنا السطحي المترع بالشعارات
والدعوات، إن الحرية كما يتمثلها الشارع العربي لا زالت وليدة الشعور السطحي سواء
من خلال اللحظة الثورية المُمجدة للدم المراق على معابد أصنام التاريخ والمستمدة
من عزم قابيل على قتل هابيل، أو هي وليدة اللحظة الإغرائية التي تمارسها أمريكا
والمؤسسات الغربية، إنها تشبه لحظ الغواية كما حدث ليوسف مع امرأة فرعون. فهل يكون الشعب العربي ممتلكا لإرادة الرفض رافضا الغواية
التاريخية أم يذهب مع منطق{ هيت لك} ويمارس الغواية في أعتي صورها ؟؟؟"[2]
إن الحديث عن الثّورة والربيع العربي لم يكن إلا
مدخلا بسيطا، أردت من خلاله دراسة نصين رائعين للبخاري حمانه، الأول قدمه في كتابه
الرائع تأملات في الدنيا والدين حيث كتب مبحثا عن " القرآن
والثّورة"*، والنص الثاني كتبه في كتابه فلسفة
الثّورة الجزائرية في مبحث عنونه " الفلسفة والثّورة".
تكمن الغاية من دراسة النّصين السالفين في تحليل فلسفة الدكتور البخاري حول
مفهوم الثّورة والتغيير، وهو الذي تنبأ في السبعينات والثمانينات بإمكانية قيام
ثورات شعبية في نهاية القرن المنصرم، سجلها في كثير من المدخلات والمحاضرات التي
طبعت في كتابه الأخير. لقد ظل البخاري حمانه وفيا لروح ثورة نوفمبر الكبرى، التي
رأي فيها تجسد الوعي والحرية في أفعال شعب الجزائري، الذي ظن المستحمر أنه مات وتحول
إلى قطيع من الغنم.
ونلاحظه أيضا، يهيب بالثّورة الإيرانية في
بداياتها الأولى، ويعتبرها استمرارا لروح القرآن الثورية، غير أن حكم الآيات حول تلك
الثّورة إلى عبودية جديدة، جعلت البخاري ينتقد فلسفتها ويشكك في إنسانيتها، حيث
تحولت من كوب الألم إلى كوكب الدم.
لقد سافرت مع الدكتور البخاري إلى
تونس بعد نجاح ثورة الياسمين، ولاحظت شغفه بالثورات العربية وحبه للشعوب الثائرة
في وجه الطغاة، غير أنه كان ينفجر غاضبا كلما رأى بعض المظاهر السلبية التي صاحبت
نهاية الثّورة، وخاصة الانفلات الأمني والتعدي الصارخ على حريات الناس. لقد دفع
الأمر بالمفكر البخاري حمانه أن يجعل الثّورة من أهم قضايا الاجتهاد المعاصر،
فالاجتهاد ليس مرتبط فقط بأمور الفقه والعقيدة، بل الاجتهاد لا بد أن يكون مفتوحا
على كل الأصعدة، فالثّورة كمطلب قرآني يحتاج إلى إعمال العقل فيه أكثر من غيره : "ومثل هذه العملية تتطلب بالتالي جهدا
اجتهاديا في كل فروع المعرفة، ومن ضمنها الاجتهاد في علوم الدين الذي تخلفت فيه
الدراسات تخلفا كبيرا بالنسبة لغيرها من الدراسات الأخرى، ذلك الجهد القادر وحده
على مواكبة هذه الصحوة وتدعيمها وترشيدها كما تتطلب تحديدا واضحا لمفهوم الإسلام
للحكم والخلافة والمتقدم.....تلك المفاهيم التي من شانها أن تسهل عملية الحوار بين
هذه الصحوة وبين السلطات السياسية في العالم الإسلامي وتحل الكثير من المشكلات."[3]
ومن خلال ما سبق، سنحاول تحديد
فلسفة الثّورة عند البخاري ونظرته إلى حركية التغيير وآلياته، من خلال منهج تحليل
المضمون، وكان لزاما أن ننطلق من السؤال التالي: ما مفهوم الثّورة في تصوره؟؟
نكتشف بعد قراءة النص، أن
الدكتور البخاري في ضبطه لمفهوم الثّورة يستعمل أليتين، الألية الأولى تعمل على
الانطلاق من التعريف الشائع والسائد أولا، ويفرضه الواقع والثقافة المشتركة بين
الشعوب، إذ أن تقريب الأفكار والمفاهيم يفرض مراعاة المعطيات العالمية، فالعالم لا
يفهم الخصوصيات إلا بعد أن يدرك العموميات.
أما الآلية الثانية، فهي إعطاء مفهوم خاص للثّورة
من خلال القرآن الكريم، من منطلق أن القرآن الكريم يعتبر المصدر الأكثر تشاركا بين
المسلمين، وله مصداقية لا يُضاهيه فيها أي كتاب آخر.
عرّف البخاري الثّورة في بعدها الشمولي كالتالي: " وإذا
كان التعريف الشائع للثورة بأنها "تبدل عنيف في السياسة وفي نظام الحكم"[4]
فإن التعريف الأكثر شمولية والأقرب إلى المفهوم القرآني للثورة هو ذلك الذي يرى أن
الثّورة انفصام في التاريخ أو خط يقسم الأزمان والأفكار والعادات والتقاليد
ومواضيع الاهتمام والقوانين وأساليب التفكير والتعبير."[5]
يبدو أن التعريف
المقدم من قبله لا يحمل خصوصية معينة، فهو أقرب إلى التعريف الماركسي الذي يعتبر الثّورة
مجرد حالة تغيير أو تبدل في الأوضاع والمقامات، أو حالة انفصام بين لحظتين
متناقضتين وفق جدلية تاريخية، تعمل ضمن نطاق اجتماعي مادي محض. بيد أن البخاري وإن
كان يميل إلى التعريف الماركسي الشائع، فهو يحاول أن يصبغه برؤية غير ماركسية،
وذلك من خلال إضفاء ميزات على التّعريف السابق، بحيث تصبح الثّورة أقرب ما تكون إلى
روح النص القرآني كما يتمثله ويؤوله، ولقد حدد تلك الميزات على النّحو التالي:
1-
أن الثّورة ظاهرة متميزة عن غيرها من أشكال التعبير
الرفضي للواقع المعيش، فهي ليست حالة غضب أو انتفاضة أو إصلاح ..، بل هي أكبر
من ذلك بكثير، فهي تحمل فلسفة ورؤية هادفة للوجود بالرغم من التناقض الموجود بين
مفجرها وممارسها، يقول البخاري: " إن ميزة هذا التعريف تتمثل في أنه يرى
في الثّورة - فضلا عن طابعها الشمولي- ظاهرة تتميز عن غيرها من الحركات التغيرية
الأخرى، المسلحة وغير المسلحة.... مثل الانقلاب (le coup d’état) والعصيان (l’insurrection) والتمرد (la révolte) الذين يكتفون بقول (لا) للواقع السياسي
والاجتماعي القائم دون مخطط واضح لتغييره..... وعن الإصلاح (la réforme) الذي يظل
بالرغم من إيجابية النسبية يدرج التغيير في إطار المحافظة."[6]
2-
أن الثّورة لا ترتبط بالبعد العسكري أو السياسي، بل جوهر
الثّورة يكمن في البعد الروحي والمعنوي، فتغيير النّفس يُعتبر الثّورة الحقيقية
التي تتأسس عليها جميع الثورات فيما بعد، كما أن أعظم الثورات في العالم هي التي
ارتبطت بالعلم والطب والإعلام... : " كذلك، فإن ميزة
هذا التعريف تتمثل في أنه لا يحصر مفهوم الثّورة في الإطار السياسي أو العسكري،
حيث أن الثّورة أصبحت تطلق اليوم على مجالات لا صلة لها– مباشرة على الأقل–
بالسّياسة بالقوة العنف مثل الثّورة العلمية والطبية والفضائية والقانونية
والإعلامية.... والثقافية... الخ."[7]
3-
يرتبط مفهوم الثّورة من حيث الماهية بمفهوم التغيير نحو
الأفضل، وهو تغيير يحاول أن يحدث قطيعة فعلية بين الأزمان الثلاثة للإنسان.
4-
تقترن الثّورة بروح النص القرآني، بل يذهب البخاري أبعد
من ذلك حين يعلن أن جوهر القرآن ذاته هو الثّورة، فالقرآن الكريم يؤمن بالتغيير
الإيجابي الكلي :" إن القرآن هو ذاته ثورة، لأن القرآن جاء في شكله وفي
مضمونه ثورة على الماضي وعلى الحاضر ودعوة صريحة وملحة للتغيير نحو الأفضل: ﴿آلر كِتَابٌ أنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (سورة إبراهيم: الآية 01.) فلقد كان القرآن ثورة في إعجازه الذي تحدى به الرسول
صلى الله عليه وسلم أبلغ بلغاء العرب، وكان القرآن ثورة في مضمونه وفي آثاره...
تلك الثّورة التي غيرت مسار ومصير الإنسانية في كل المجالات.. وليس العرب فقط."[8]
5-
يحمل التغيير باعتبارها ثورة على الواقع المعكوس فلسفة
تربوية، وتلك الفلسفة هي التي تجعل الثّورة حالة رشاد لا حالة تيه وعصيان : "
أن التغير يحتوي على عنصر تربوي ونفسي هام يتمثل في طابعه المتدرج الذي يجنب الإنسان
عنصر المفاجأة ويتيح له الفرصة للتوقع والفهم بالتالي، ويجعله نتيجة لذلك أكثر فهما
لما يجري وأقل معارضة ورفضا له بالتالي… وهذا هو المنهج الحديث في التربية اليوم كما
هو معلوم."[9]
يتجه البخاري بعد
تحليل الثّورة في بعدها الشمولي إلى تحديدها في بعدها القرآني، وفق رؤيته لمعاني
النّصوص، فالقرآن الكريم في نظر البخاري وإن لم يذكر الثّورة بالاسم والاصطلاح فهو
ذكرها من خلال المعاني الدّالة عليها دلالة تلازم، فمصطلح التّغيير في القرآن يعني
الثّورة بالضرورة. ومما سبق، يحاول البخاري تقديم تعريف للثورة من خلال مضامين
النص القرآني: " يمكن أن نعرف المفهوم القرآني للثورة بانه "ضرورة
وإمكانية التغيير الروحي والمادي المستمر للإنسان نحو الأفضل." ونلاحظ في هذا
الصدد أنه ضمن هذا المفهوم للثورة تدخل مطالبة النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين
بتثوير القرآن: (تثوروا القرآن فإن فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم).*"[10]
يستدل البخاري على معنى الثّورة من خلال الآية
الكريمة: ﴿ان اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأنفُسِهِمْ﴾ سورة الرعد: الآية:11.
والتغيير المذكور في القرآن هو الذي يتقارب مع
المعنى الذي ذكره البخاري في كتابه فلسفة الثّورة الجزائرية: " تعني
الثّورة اصطلاحا خاصة في اللغات الأجنبية الغربية منها، ومن ضمنها الفرنسية
والإنجليزية والألمانية، العودة إلى الذات… كما تعني كذلك الإعادة(Réitération) لما كان من قبل. إن ربط الثّورة بعودة ما
كان، لا يعني السلب أو النكوص، بل التطور العائد في حركة دورانية … ومكررة… لنفسها
مثل حركة الطبيعة. من هذا المنظور الإصلاحي توصف التحولات الكونية والطبيعية بالثّورة."[11]
يحاول البخاري أن يربط التعريف السالف بالقرآن
الكريم، حيث أن هذا الأخير يعتبر الثّورة هي العودة إلى الذات، فالماضي يعتبر خيرا
وفطرة سوية، كما هو دعوة في الوقت نفسه إلى العودة إلى إبراهيم الأمة في غمار
الحاضر والمستقبل.
يرسم القرآن
الكريم للثّورة منحنى رياضيا صرفا، فالثّورة تبدأ من العالم الأصغر الموسوم
بالإنسان وتنتهي بالثّورة على العالم الأكبر الموسوم بالنظام (السّلطة = أنا ربكم
الأعلى)، وبين العالمين تحدث عدة ثورات تخضع للسنن الكون وآخري اجتماعية تاريخية.
ويعتقد البخاري
أن مفهوم التغيير في القرآن يحمل بعدا إيجابيا يختلف شكلا ومضمونا مع مواقف بعض
المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية منذ فجر تاريخها وحتى منتصف هذا القرن الحادي
والعشرين، ويُعلل ذلك الاختلاف على أساس أنهم قالوا كلهم بأفضلية الماضي على
الحاضر وعلى المستقبل كذلك، والعلة عنده، تكمن أن رؤية كبار المفكرين مثل افلاطون وكونفوشيوس
ومانوا وغيرهم تحمل بعدا تشاؤميا، وتكره الحاضر وتمجد الماضي، في حين أن القرآن
يُمجد الحاضر والمستقبل ويدعو إلى الثّورة على الماضي والقطيعة مع صوره العتيقة،
يقول البخاري في هذا الصدد :" ولأن القرآن لا يقر مثل هذه النظرة
التشاؤمية والرجعية للإنسان، تلك النظرة التي تتعارض كل التعارض مع مبدئه الأساسي
القائل بالتغير المستمر للإنسان نحو الأفضل، فإن الشباب صورة المستقبل وأداة
تحقيقه، كانوا دوما موضع ثنائه وتمجيده وهذا ابتداء من شباب أهل الكهف(الكهف:12)
إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام وموقفه الرافض لشرك أبيه وذويه(الزخرف:26) "[12]
لقد عمل
البخاري منذ اللحظة الأولى على تأسيس مفهوم الثّورة في القرآن على مصطلح التغيير
فحسب، بالرغم من وجود ألفاظ أخرى تدل على الثّورة ( القتال –الجهاد- الجهر –
النفير - ..) مما دفع به إلى التساؤل: " وهنا قد يتساءل البعض عن السبب أو الأسباب التي جعلت
القرآن يستعمل كلمة "تغيير" للتعبير عن الثّورة ولا يستعمل هذه الأخيرة
ذاتها."[13]
يقودنا التساؤل
الذي وضعه البخاري إلى معرفة الدوافع والمصوغات، فالبخاري لا يزال وفيا للمعنى
العام للثورة، فالثّورة التي لا تحدث تغييرا لا يمكن ان توصف بالثّورة أصلا،
ومادام الرسول محمد عليه الصلاة والسلام أحدث تغييرا جذريا في بنية المجتمع
الجاهلي وغيّره نحو الأفضل، فهو حتما ثائر بعقله ونبوته وطبيعته البدوية، لذا كتب
البخاري في الكتاب نفسه مبحثا رائعا وسمه ( أي ثائر أنت يا محمد)، لقد حاول أن
يقدم محمد النبي على شاكلة زرادشت في سمفونية نيتشه الشهيرة ( هكذا تكلم زرادشت)،
بل أنا اعتقد أن البخاري يعتقد أن محمد أعظم من زرادشت، لأن زرادشت ألقى بالفأس واستسلم
لليأس بيد أن محمد لم يستسلم حتى حقق مشروع نبوته، وجسد تاريخيا أمة لازالت لحد
الساعة تسمي نفسها بالأمة المحمدية، يقول البخاري مناجيا الرسول الكريم: " أي قائد أنت؟
يا من حولت فجأة قبائل ممزقة لم تعرف غير الخيام مسكنا والرمال مرتعا والجمال
مركبا إلى خميرة لخير أمة أخرجت للناس لم تلبث طلائعها أن انطلقت، كالسهام، في كل
اتجاه من الأرض رافعة لواء دعوتك وعاملة أينما حلت على نشرها في سماحة لانت لها
أقسى القلوب، وبقوة أذعن لها أعتى الجبابرة."[14]
إني أتفق كليا مع فلسفة البخاري حمانه حول النبي
محمد، فهو الثائر في شبابه وكهولته، وهو الذي أعطى للضعفاء والمظلومين والأحرار
قبسا من نور الله المستفيض من الحق، والذي مكن الرّعاة الحفاة من تغيير العباد
والبلاد قلبا وقالبا، ليصبحوا سادة وقادة وقضاة ودعاة في أمد قصير، فأي ثورة صنعت
هؤلاء ؟؟، إنها بالفعل كما يقول البخاري ثورة القرآن وهمزية التغيير الأبدية. تفيض
المناجاة التالية إعجابا بشخصية النبي الثائر: "عرفت عن قرب الثائرين وأعجبت بهم ولكني لم
أجد واحداً منهم في تقاك أو نقاك لذلك فاق (وبكل المقاييس الموضوعية والذاتية)
إعجابي بك وقربي منك إعجابي وقربي منهم مجتمعين."[15]
يحاول
البخاري أن يُفسر ربط الثّورة بمبدأ التغيير لأسباب التالية التي سنوردها كما
ذكرها هو في كتابه:
1-
أن كلمة الثّورة
لم تكن متواردة كثيرا، خاصة في الكتب السماوية التي سبقت القرآن، أو فيما بقي منها
بعد التحريف الذي تعرضت له، بديل أننا لا نجد هذا اللفظ في التوراة ولا في الانجيل
إلا في ثلاث مناسبات.[16]
2-
أن التغيير،
الذي لا يختلف في جوهره وفي أهدافه عن الثّورة كما سنرى، حقيقة نفسية وذاتية
بإمكان الإنسان أن يلتمسها ويدركها في ذاته وتغير حالاتها من الصغر إلى الكبر ومن
السرور إلى الكدر ومن الحياة إلى الموت... كما يستطيع أن يلاحظها كذلك من خلال
الكون الذي يعيش فيه وتعاقب أيامه وتقلب لياليه وتباين فصوله واختلاف سنيه.[17]
3-
أن
التغيير يحتوي على عنصر تربوي ونفسي هام يتمثل في طابعه المتدرج الذي يجنب الإنسان
عنصر المفاجأة، ويتيح له فرصة التوقع والفهم بالتالي، ويجعله نتيجة لذلك أكثر فهما
لما يجري وأقل معارضة ورفضا له... وهذا هو الأساس الحديث للتربية اليوم كما هو
معلوم.[18]
4- أن
التغيير بحكم طابعه الاستمراري أبقى من الثّورة التي كثيرا ما تنتهي بالسرعة نفسها
التي اندلعت بها تاركة وراءها إما توقفا أو فشلا نهائيين. والمثال على ذلك ثورة
"سبارتكوس" سنة 71 ق. م، ثورة الزنج "سنة 247 هـ ضد الخلافة
العباسية في بغداد، الثّورة الإسبانية سنة 1936.....
5- أن التغيير
لا يحصر الثّورة أو يقيدها بمخططات نظرية غير واقعية وجامدة لا تقبل نقاشا أو
نقدا، بل يجعل منها عملية مرنة قابلة لتعديل كل مرحلة من مراحلها تثبت عدم
فاعليتها أو خطائها دونما تأثير يذكر على مسيرتها العامة... ودونما تعنت أو إرهاب
أو عنف في الوقت نفسه.
6- أن التغيير هو
الهدف النهائي لكل ثورة ومن ثمة، فإن الخلاف بين التغيير وبين الثّورة هو في
الوسائل وفي مدى التحقيق الفعلي للأهداف.
يبدو أن البخاري استطاع من خلال التعليل
والتحليل السابق، أن يُقدم أرضية فلسفية متماسكة، مكنته من ضبط مفهوم الثّورة وفق
الرؤية القرآنية المتجذرة مع حركة التاريخ الإنساني، فالثّورة التي لم تحدث تغييرا
في البٍّنية العميقة للإنسان والمجتمع سيصفها التاريخ بالثّورة العقيمة،
وقدم البخاري نماذج من الثّورات التي انتهت لحظة ميلادها أصلا، كالثّورة الفرنسية
التي تحولت بعد الإطاحة بالملكية إلى ثورة دموية قتلت أصحابها ومنظريها، وحولت
ثورة الخبز إلى مجزرة للشعب، واطلقت العنان للمحاكم الشعبية الهمجية. أو كما هو
الحال في الثّورة البلشفية التي قضت على القيصرية لكنها في المقابل شكلت حكما
شموليا أكثر دموية من الحكم القيصري، فكاترين الحمراء لا مجال لمقارنتها بقساوة
ستالين.
يحاول
البخاري أن ينبه الفلاسفة والمثقفين بالخصوص، بأن الثّورة التي لا تحمل قيما
إنسانية لا يمكن أن نصفها بالثّورة، فهي مجرد تمرد أو عصيان أو شغب عنيف، فالثّورة
هي البحث عن الغد المأمول والواقع المعقول، وذلك كله ضمن جو التعايش الإيجابي
والوضع الأفضل للكل دون تمييز بين الناس.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه إذا سلمنا
جدلا بنظرة البخاري فعن أي تغيير نتحدث؟ وما منطلقاته ؟؟
*- منطلق
التغيير أهدافه ووسائله
نعلم أن كل
تغيير له منطلق ينطلق منه كمرجعية تؤطره، وغالبا ما يرتبط التغيير إما بجانب مادي أو
بجانب روحي، بيد أن التغيير وفق الرؤية القرآنية ينطلق من البعدين معا، فالمنطلق
الأول هو الروح التي تفرض سلطتها على الذات من خلال المبادئ السامية والفضيلة
المتجذرة في ماهية الإنسان، ويكون منتهاه البعد المادي بجميع تجلياته.
إن القرآن لا
يريد من خلال حركة التغيير الحصول على المكاسب الاقتصادية فقط، بل يريد منه الحصول
على المكاسب الباقية الأبدية، فالمال والتجارة وزينة الحياة مجرد عرض زائل لكنه
مهم لاستمرار الحياة، ويجب العمل من أجل تحصيله، لكن الأهم من ذلك أن يصل الإنسان
من خلال فلسفة التغيير إلى التمكين لذاته الفاضلة في عالم الألوهية المفتوح على
مقامات الوجود والكمالات الأدمية.
يرتبط التغيير بمنطلق البحث عن الأفضل من معكوس
ما هو كائن، فالهجرة المذكورة في القرآن الكريم هي ثورة معكوسة، فعوض تغيير
المجتمع العصي عن التغيير في لحظة ما، يجب أن نغير وضعنا من خلال هجره، ولذلك أمر
الله نبيه بأن يُهاجر إلى الحبشة ثم المدينة، بل ذهب الله إلى حد العتاب، حين خاطب
المستكينين للظلم والظالمين بقوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ النساء: 97 – 98.
نستشف من خلال
الآية الكريمة أن التغيير (الثّورة) ليس موسمية أو لحظة تاريخية شاردة، بل أن
التغيير حركة مستمرة غير محكومة بمنطق الزمان، يحض القرآن الإنسان على أن يُغير في
كل يوم شيئا من حياته، ولو تعلق الأمر برفع الأذى من الطريق، أو التّصدق بشق تمرة
يابسة.
ومنه، يصبح
التغيير يحمل البعدين معا، إرواء الذّات من فيض الروح والفضيلة، وإمدادها بمقومات
البقاء. ﴿وَابْتَغِ فِيمَا
آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
القصص: الآية 77.
لقد وُفق البخاري حين نفى عن الثّورة في القرآن
الجانب المادي والجانب اللاهوتي، فهي ثورة مركبة بين مباهج الدنيا ومغانم الدّين:"
سبق أن أشرنا إلى أن التّغيير الذي يقصده القرآن تغيير للذّات أو للنفس
الإنسانية نحو الأفضل، ومعنى ذلك أن هذا التغيير لا يمكن أن يكون منطلقه ماديا
وخارجيا فقط كما ذهبت بعض الفلسفات المادية المعاصرة، خاصة الفلسفة الماركسية التي
حصرت الحقيقة الإنسانية بأكملها في المادة: كما أن ذلك التغيير لا يمكن أن يكون
روحيا محضا، كما ذهبت بعض الديانات، (المسيحية)، والفلسفات (الرواقية ...
والمثالية بصورة عامة)... بل أنه يتم على مستوى المادة والروح معا، لأن الإنسان في
القرآن كل متكامل، عقل وقلب وجسد وروح."[19]
يدرك البخاري جيدا أن التراث الإسلامي يحمل في
بعض طياته نزعة مثالية روحية، حاولت قدر الإمكان أن تجعل من مطلب تغيير النفس في
القرآن أرضية لتأسيس ميتافيزيقا خاصة، وتراهن على أن التغيير لا علاقة له بالحراك
الاجتماعي والتاريخي، بل التغيير المقصود مرتبط كل الارتباط بنظرية الفيض والحلول،
أو بنظرية عليك بخاصية نفسك، وتلك الرؤي ينفر منها البخاري، لأنها أخطأت الفهم،
فلم تفرق بين النفس كأداة للتغيير وبين النفس كموضوع للتغيير، يقول البخاري منتقدا
: " وحين يقرر القرآن أن الثّورة إما أن تكون ثورة نابعة من الذّات أولا
تكون، فليس معنى ذلك الدعوة إلى أي نوع من الأنواع الروحية المجردة، بل معناه فقط
أن الذّات هي الأداة المثلى، لا لتغيير الجانب الروحي للإنسان فحسب، بل هي الشرط
الأول والأخير لتغيير جوانبه المادية كذلك."[20]
يمتاز البخاري
في جل كتابته بحضور الشّاهد، لأن الشّاهد هو البرهان الذي يستدل به العقل على
موضوع تفكيره، وقوة الشّاهد هي التي تعطي للموضوع قوته وصلابته، ولذلك استدل
البخاري على صحة موقفه من خلال فلسفة إخوان الصفا المعبر عنها بتلك المقولة المشهورة
عن الإنسان: "صورة مختصرة عن العالم المادي والروحاني."
يجب أن نعتقد بأن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى
جانبه المادي ما لم يصل أولا إلى جانبه الروحي، ولذلك تصبح العملية متكاملة، فلكي
أغير ذاتي علي أن أكتشف العالم الخارجي، وعند معرفة العالم الخارجي علي أن أغير
ذاتي لكي أغير ما يدور حولها (الموضوع).
ويذهب البخاري
بعيدا في شرح فلسفته حول الثّورة في القرآن، فبما أن التغيير وليد قناعات شخصية،
فهو يُعد السّبيل الأمثل لتجنب العنف الذي وقعت فيه أغلب الثّورات عبر التاريخ
البشري، ويجزم البخاري بأن القرآن يرفض الإكراه[21]
(التغيير بالقسوة والعنف) شكلا ومضمونا كوسيلة للدّعوة لأي مبدأ كان حتى ولو كانت
العقيدة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ
مِنَ الْغَيِّ} البقرة: الآية 256. وقوله تعالى أيضا {
أَفَانتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مؤمنِين﴾
يونس: الآية 99.
وهذا الرفض
القرآني للعنف كأسلوب للدعوة للمبادئ يعود لعدة أسباب حسب البخاري منها:
1. يفضي التغيير الإيجابي الذي أرصاه الرسول إلى الإقناع،
ومنه يصبح أفضل طريقة لتحقيق التغيير ذاته، لأن الإقناع يولد الاقتناع مما يؤدي
إلى الاستمرارية التي تَحول دون تحوُل التغيير إلى مسألة شخصية، تفقد خصوصيتها عبر
مسار الدعوة قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك﴾
(آل عمران:159)
2. أن التغيير وفق الرؤية النبوية المستمدة من القرآن لم تعتمد على القوة في
التغيير سواء في المرحلة المكية ( لم تكن متوفرة) ولا في المرحلة المدنية(
متوفرة)، كان الرسول الكريم يعلم أن القوة تؤدي إلى التغيير لكنه كان يعلم في
الوقت نفسه أن التغيير بالقوة لا يؤدي إلى الاستمرارية والديمومة، وأن ما تغير
بالقوة يُمكن تغييره بالقوة أصلا.
يُقدم
البخاري مقاربة سلوكية من حياة النبي على النحو التالي:
1- تغيير القلب: بدأ الله بتغيير النبي من ذاته
وقلبه أولا، بالرغم من أن الرسول لم يكن في الجاهلية كقومه، وذلك من خلال قوله
تعالى ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدَى﴾ سورة الضحى: الآية:7.
2- تغيير السلوك: وبعد أن اهتدى الرسول واطمأن
لأمر ربه أمره بأن يُغير من سلوكه وفق الأوامر الإلهية ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ سورة هود الآية: 112.
3- تغيير البرديغم: كانت الغاية من التدرج في تغيير ذات الرسول وفق
تلك المتتالية القرآنية تحول الرسول إلى نموذج للتغيير﴿
لَقَدْ
كَان لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَان يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ سورة الأحزاب:21.
4- تغيير العشيرة: عندما تنجح الذّات في التّحول
إلى برديغم إنساني (القدوة) يحق لها شرعا وعقلا الدعوة إلى تغيير محيطها القريب ﴿وَانذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين﴾ سورة الشعراء: 214.
5- تغيير العالم: إن نجاح الرسول في تغيير نفسه
وقومه، وسكان شبه الجزيرة العربية من براثن الوثنية وجاهلية السلوك، أمره الله بأن
يسعى إلى تغيير العالم كله، لذا بعث رسله إلى دول الجوار، يعرض عليه الإسلام
(موضوع التغيير). يقول البخاري موضحا :" وبعد أن تحققت تلك المرحلة
الجديدة من التغيير أصبح في إمكان الرسول (ص) المدعم الآن بالعرب جميعا أن يشرع في
تغيير العالم بأكمله ﴿ قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾سورة الأعراف: 158. ويؤكد الرسول على لسان ربه ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أناْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَان اللَّهِ وَمَا أناْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف الآية: 108)."[22]
أومن شخصيا بأن الملهمين وحدهم هم من يصنعون الثّورة
ويجسدون التغيير، والملهم هو ذات استطاعت أن تفهم سنن التغيير، فغيرت ذاتها قبل أن
تُغير الآخرين، لذاك حرص الله سبحانه وتعالى أن تكون ذات الرسول ذاتا كاملة فاضلة
قوية، يمكنها أن تصنع معجزة تاريخية، وتحقق القطيعة مع الماضي، ولقد كان الله
تعالى يوجه ذات النبي نحو الذّات العزمية، وهي أفضل ذات عند الله، والتي لم تتوفر
إلا لقلة من الرسل ( نوح – إبراهيم- موسى- عيسى – محمد)، ولقد أكد الله في محكم
تنزيله بأن أبو البشرية آدم لم يكن ذو عزم ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ (طه: 115).
لم تكن الذات المحمدية تمثل ذاتا فردية، بل هي
ذات تعبر عن الذات العربية في أغلبها، فمحمد المختار هو ابن الحجاز والقبيلة
العربية، وعليه فإن الأنبياء صورة عن مجتمعهم، فالرسول هو الذي صنع الذات العربية
لحكمة إلهية، ومن خلال ما سبق نصل إلى النقطة التي يراها البخاري حجز الزاوية في
الدّعوة الإسلامية :" من هنا كان لابد من البحث عن ذات تكون مؤهلة أكثر من
غيرها لتحمل هذه المهمة الخطيرة والوفاء بكل التزاماتها ولقد أوكلت العناية
الإلهية شرف تلك المهمة الجليلة للذات العربية ..."[23]
يطرح البخاري
السؤال التالي: لما العناية الإلهية اختارت الذّات العربية لتنهي تاريخ الرسالات
؟؟؟
يحاول البخاري أن يجيب عن السؤال السّابق من
خلال تقديم جملة من المقدمات النظرية، والتي يراها تؤسس لفلسفة نهاية تاريخ
الرسالات، ويمكن أن نقدمها على الوتيرة التالية:
1- يعتقد البخاري أن العرب كانوا قبل ظهور الإسلام قد
أبدوا قابيلية روحية لتحمل الرسالة الإلهية، ويستدل على ذلك بوجود بعض الحكماء
والأحناف أمثال قس بن ساعدة ورباب السبتي ورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش
وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمر.
غير أني لا أتفق
مع البخاري، فالذات العربية مثلما عرفت تلك الثّلة الراشدة عرفت كثرة جاهلة،
والأمم تقاس بكثرتها لا بقلتها، وأن سلوك العرب في الجاهلية يتجه نحو القول بعدم
قابيليتهم اصلا لتحمل الرسالة مقارنة مع أمم الجوار المتحضرة، اللهم إلا غذا نظرنا
إلى الأمر من وجهة خلدونية، وهي أن العرب كانوا أقرب إلى الفطرة من غيرهم من البشر
نظرا لعدم تفشي المدنية المتعفنة فيهم قياسا والفرس أو الروم.
2- يعتقد
البخاري أن أمم الجوار في تلك اللحظة التاريخية لم يكن لهم استعداد لتحمل خلاص
البشرية، نظرا لسيطرة الأهواء والصراعات بينهم :" إن الدّيانات والمذاهب
والنّحل التي سبقت الإسلام والتي يلخصها لنا القرآن في قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يفصل بَيْنَهُمْ يوم
القيامة ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ سورة الحج: الآية 17. قد فشلت في الأخذ، بيد الإنسانية إما بسبب قوة العادات
والتقاليد، كما هو الشأن بالنسبة لحكماء العرب ولحركة الحنفاء وإما بسبب زيّف
مبادئها كما هو الحال بالنسبة للصابئة والمجوس، وإما بسبب التنازع والتناحر الذي
حاد بها عن أهدافها ومبادئها، والذي يصوره لنا القرآن الكريم في أكثر من آية: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى
شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.﴾ البقرة: الآية 113. و﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ سورة التوبة : الآية 30."[24]
يعتبر البخاري أن الاستعلاء والاستكبار الذي
صاحب كل من المسيحية واليهودية أدى غلى عدم قدرة الديانتين على تأدية رسالة الله
في الأرض، فالتغيير لا يمكن أن تؤديه أي ديانة ترتكن في معاملتها مع الآخر على
العنصرية والكراهية السرمدية : " وبالنسبة لليهودية والمسيحية فإن هما
بالإضافة إلى ذلك التنازع والانحراف الدينيين قد ارتبطا في أذهان العرب، وفي أذهان
غيرهم من الشعوب المجاورة لهم، بنزاعات عنصرية واستعمارية جعلت العرب بصورة خاصة
ينفرون منهما، فاليهودية لم تستطع، بالرغم من تواجدها في بعض مدن اليمن والحجاز
استقطاب العرب إليها بسبب نزاعاتها العنصرية القائلة بان أصحابها هم اليهود دون
غيرهم من الشعوب الأخرى العربية "شعب الله المختار."[25]
وبسبب ارتباطها الوثيق بالسياسة الاستعمارية الفارسية تجاه الجزيرة، وبسبب
احتكارها الجشع لاقتصادها على حساب العرب."[26]
3- يعتبر البخاري
أن العامل الاستعماري كان له دور بارز في اختيار الذات العربية في شخص محمد لتغيير
العالم نحو ما يريده الله، فالعرب كانوا الوحيدين في المنطقة – تقريبا – الذين لم
يخضعوا مثل بقية المناطق المجاورة لهم لاستعمار أو لنفوذ الفرس أو الروم، ولم
يتعرضوا بالتالي للإذلال أو للانحلال اللذين مارستهما وأفرزتهما تلك الإمبراطوريات
التليدة والبليدة في الوقت نفسه.
أعتقد أن البخاري حمانه لا يزال يحمل بقايا النّزعة
القومية العربية في شعوره أو لا شعوره، ويتجلى ذلك في الشق الأخير من تحليله،
فليست تلك العوامل الثلاثة المذكورة سابقا هي سبب اختيار النّبي محمد، فاختيار
الله له يعود لأسباب ذاتية أكثر منها موضوعيه، فالعرب ليس لهم من الموضوع إلا
النسبة للرسول، فالحضارة الإسلامية صنعها المسلمون من غير العرب أكثر من العرب
أنفسهم، وأن الرسالة الإسلامية اليوم يحملها المسلمون من أندونسيا وماليزيا
واوروبا وغيرهم أكثر من العرب.
لقد اختار الله نبيه لوعد قطعه لإبراهيم عليه
السلام، وثانيا أن الله منح اليهود أكثر من فرصة للتغيير والإصلاح لكنهم أبو ذلك
فغضب الله عليهم، فما كان الله إلا أن يختار عن علم سابق محمد بن عبد الله رسولا
لكونه ينحدر من إبراهيم الأمة وليس إبراهيم الرجل.
يستمر البخاري باحثا عن الأهداف من الثّورة في
القرآن، فيتوصل إلى تحديد جملة من الأهداف البعيدة والقريبة، ولكن أكبر شيء انتبه
له البخاري أن جل الثّورات كان هدفها السيطرة والسلطة، بيد أن الثّورة في القرآن
لم ترتبط أبد بمفهوم السيطرة أو سيادة الإنسان وحاكميته، بل كان الهدف العام هو
تحقيق مبدأ الاستخلاف، فالله يريد أن تسير الثّورة نحو تحقيق خلافته في الأرض ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ النور: الآية55.
يذكر الله في القرآن أن الهدف من الثّورة هو
التمكين لله من خلال إقامة الحق وإرساء قواعد الخير وإضفاء معالم الجلال والجمال،
والغرض من التمكين الإلهي للمسلمين بعد الثّورة ليس هو الاستعلاء والإفساد ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾ القصص: الآية 83. بل الغرض هو الذي اشار
إليه الله في قوله الكريم ﴿الَّذِينَ أن
مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾
الحج:الآية41.
يُجمل البخاري أهداف الثّورة في النقاط التالية[27]:
1- الدفاع عن كلمة الله ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ أن اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
البقرة: الآية 190.
2-الدفاع عن
النفس{أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِانهُمْ ظُلِمُوا وَان اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ﴾الحج: الآية 39.
3- الدفاع عن المستضعفين ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ
أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً وَمَا لَكُمْ لاَ
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل
لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ النساء: الآية 74
و75.
لكن ما سبل
تحقيق تلك الأهداف النبيلة؟؟؟
يعتبر السؤال المذكور أعلاه
أخطر سؤال يواجه أي نظرية ما، فالذي يسئ للنظرية أو الدين أو المذهب هي الوسائل
المستخدمة في التغيير والثّورة، والبخاري يدرك جيدا أن أكبر القادة في العالم
أجرموا في حق البشرية نظرا لاتباعهم وسائل غير فاضلة (لا تتطابق مع كلمة شرعية)
أدت إلى تحريف الثّورة عن مبادئها ومجالاتها أصلا، والمثال الذي سقناه سابقا حول الثّورة
الفرنسية يؤكد ذلك بشكل قطعي غير قابل للتمويه أو التبرير.
ينطلق البخاري في تحليل جدلية الثّورة والوسيلة من
خلال ربط التغيير بالنشاط الإنساني غير المعصوم، أي أن التغيير نشاط إنساني يمكن
أن ينحرف عن اهداف الثّورة إذا لم تُحكم الوسيلة بشروط أخلاقية وإيمانية صارمة :
" إن التّغيير باعتباره محور النشاط الإنساني في القرآن، كما رأينا يستند
إلى الأسس الإسلامية نفسها التي يجب أن تحكم كل نشاط إنساني دينيا كان أو دنيويا،
وهي الأسس المتمثلة في الإيمان والعلم والعمل والتي لا تعرف تجزئة أو انفصال بين
الإيمان والعمل معا، حيث أنه لا إيمان أكمل من الإيمان القائم على العلم ولا عمل
أنجع من العمل الذي يوجهه العلم."[28]
يجر الغرور بالقوة والأفضلية دوما إلى ارتكاب
أخطاء فادحة تضر بالدين ومثله العليا، فالتغيير الذي يعتمد على الوسائل الأكثر
دموية في العالم لا يحقق اي هدف من اهداف القرآن، فالله يعتبر أن قتل نفس بغير حق
جريمة لا تغتفر، وهي تساوي من حيق القيمة العقابية كمن قتل الناس أجمعين. ونحن
نفهم سر هذا التشديد والتحديد في النص القرآني، فالله يدرك جيدا مدى انزياح النفس
البشرية نحو الثيموسية المقيتة، إن قابيل لازال يسكن كل نفس بشرية، ولازال قابيل
يختار أرذل الوسائل لتحقيق أهدافه.
ربط القرآن الكريم وسائل الثّورة بالأسس الثلاثة
( الإيمان – العلم – العمل) لارتباط بعضها ببعض، فالتغيير ينبع من القلب، ويُخطط
له العقل، وتُجسده اليّد، ومعنى ذلك أن العمل هو آخر مراتب التغيير، وعليه يجب أن
يكون نابعا من القلب المؤمن بالله، والموجه ببصيرة العقل، عندئذ يصبح التغيير يمثل
الرشاد لا التيه، ويتجه نحو الإنسانية المفتوحة، وغن حدث خلل في التركيبة القرآنية
تحول التغيير إلى فعل تدمير وتخريب، عندئذ يصدق النص القرآني على المسلم ﴿
كَبُرَ
مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ الصف: الآية رقم 03.
ما خصائص التغيير القرآني؟؟
بعد أن حلل
وعرض فلسفته حول جدلية الثّورة والقرآن، حاول آخر الأمر أن يقدم خلاصة دراسته من
خلال البحث عن خصائص التغيير وفق القرآن الكريم.
1- ثورة إلاهية: تتمثل في أن أسسها وأهدافها قد
وضعت وحددت من قبل الله، وعليه فإن هذه الثّورة، شأنها شأن كلمة الله، لا تعرف
تبديلا أو تحويلا على مستوى المبادئ والأهداف، وإن أمكن أن تحيد على مستوى الفعل
والممارسة.
2- ثورة متكاملة: تجمع بين الروح وبين الجسد،
وبين الدين وبين الدنيا في توسط واتزان، لا يحصر الإنسان في ظلام المادة ولا يغرقه
في الوقت نفسه في متاهات الروحانية المحضة.
3- ثورة إنسانية: تجمع
بين ثورة الحرية وبين ثورة المساواة... فلم تكن ثورة حرية سياسية
على حساب الحرية الاجتماعية، كما حدث في الثّورة الفرنسية، كما لم تكن ثورة مساواة
اجتماعية على حساب الحرية السياسية كما أكدت في بعض الثورات الاشتراكية.
4- ثورة المستضعفين في الأرض: ثورة تحققت بالمستضعفين،
وجاءت من أجلهم ولأجلهم، دون أن تحول أولئك المستضعفين بعد تمكينهم إلى طغاة
وظالمين جدد كما حدث وبحدث ذلك اليوم في أكثر من ثورة.
5- ثورة
الجميع: تحقق فيها التحالف الكامل والمستمر بين مختلف شرائح المجتمع، من عمال
وتجار وصناع وزراع وجنود وشباب.
6 – ثورة
الفضيلة والعدل: لم تمارس التصفيات الجسدية بين قاداتها... ولم تلجأ إلى العنف
ضد الثورات المضادة لها.
7- ثورة جامعة: لم تفصل بين السلطة وبين الشعب،
بين الدولة وبين الجماهير.
8- ثورة واقعية: ثورة جمعت بين المبدأ وبين
التطبيق، فلم تكن ثورة شعارات.
ونلخص
جميع تلك الخصائص في النص التالي للبخاري: " ثورة تؤكد كل الوقائع الحالية
أنها كانت، وستظل، أفضل طريق لإنقاذ العالم من مهاوي الهمجية الجديدة ومن
الاستبداد والظلم والاستغلال، اللذين تردت فيهما البشرية وصولا إلى إعادة المصالحة
مع ذاته ومع عصره."[29]
عندما نقرأ
دراسة البخاري حول القرآن والثّورة، نشعر بأنها ثورة فريدة ومكتملة، صالحة لكل عصر
ومصر، تستقطب جميع الناس باختلاف حرفهم ومهنهم، لكننا في الوقت نفسه نعتقد أنها
ثورة قد تتعرض إلى سوء التأويل والممارسة، وان تتحول إلى ثورة للتدمير بدل التعمير
والتغيير الإيجابي. إننا نلاحظ بأن الحركة الجهادية اليّوم تعلن مبادئ الثّورة
القرآنية، لكن من دون أهدافها، وتمارسها بغير وسائلها الفاضلة، لقد تحول الجهاد
غلى نوع من التصفية والتغيير السلبي، ففقدت الثّورة القرآنية بريقها، وحتى الشعوب
التي سمت ثورتها بالثّورة الإسلامية كإيران والسودان تحولت بعد الثّورة إلى دول
ديكتاتورية قمعية، أساءت لله والوطن والإنسان.
إن أخطر ما يتربص بالثّورة القرآنية هو الشباب
المندفع والمتهور، والذي يعتقد أن الثّورة هي مجرد دم يراق على عتبات الفريضة
الغائبة، وأن الدم المراق كفيل بتحقيق رسالة الإسلام السامية : " لذلك لا
يجب أن نستغرب إذا ما رأينا ذاك الشباب الذي عايش معظمه ثورة التحرير
الجزائرية....ثم الثّورة الإسلامية الإيرانية يندفع لأخذ زمام مبادرة التصدي لذلك
الغزو بنفسه سلاحه في ذلك إيمانه الصادق ومعارفه (البسيطة في الغالب)، التي
استقاها من الكتب مباشرة نتيجة لانعدام ثقته في الكثير من أولئك العلماء والفقهاء."[30]
وتبقى الثّورة
رهينة الأهواء، والتغيير أسير التجاذبات، فلا تقدر على تقويض ما هو كائن وأن تبني
ما ينبغي أن يكون غذا لم تستطع منذ البداية أن تُحدد الوقائع والحقائق، وتعمل على
فهمها وتحريرها، ثم تحويرها وفق فلسفة الثّورة وأهدافها: " غير
أن الثّورة في سعيها هذا لتقويض ما هو كائن، باسم ما يجب ويمكن أن يكون، لا تلبث
أن تصطدم بالعديد من حقائق ذاك الواقع المرفوض، تلك الحقائق التي عليها تمثلها
أولا، وبعمق، كشرط لتجاوزها ولتجاوز الواقع المستند إليه."[31]
* الختام
نعتقد في آخر المقال بأن الإسلام دين متكامل، ويحتاج
بدوره إلى إنسان متكامل لا كامل لأجل تحقيق رسالة القرآن الخالدة، وهي تحقيق خلافة
الله في الأرض، والتكامل المقصود يحصل في الاتزان بين مطالب الدنيا والدين معا،
ولن يحدث ذلك التوازن إلا من خلال التغيير الإيجابي، وتوجيه الصحوة أو النهضة
الإسلامية المعاصرة نحو قيم الإسلام والإنسانية، فالثّورة لا تعني القتل والتدمير،
بل الثّورة في القرآن هي تعمير الأرض وتدبير الجماعة لما فيه خيرها وحقها وجمالها،
ونحن نتفق مع البخاري حين يقول: " بذلك يتحقق التكامل في هذه الصحوة بين
الدين وبين الدنيا، بين الماضي والحاضر، بين الآصالي والمعاصرة، بين الخصوصية
والعالمية، بين الشكل والمضمون لأن الصحوة التي نريدها، نريدها متكاملة لتكون
قادرة بالتالي على نقلنا بقوة وأصالة فوق فوهات قرون من التخلف والجمود وتصلنا
بقوة بواقعنا في الوقت الذي ترسخ فيه جذورنا بعمق في ماضينا بمثل هذه الصحوة وبمثلها
وحدها يمكن للأمة الإسلامية تجاوز خلافاتها واستعادة مجدها وتحقيق حياتها من خلال
مجتمع إسلامي نظيف وقوي، متكامل ومتضامن، يتفاعل ايجابيا مع كل المعطيات السياسية
والاقتصادية والعسكرية والحضارية والثقافية لعصره، دون تحجز باسم الوفاء لماضي أو
ذوبان في الآخر بحجة الانشغال بالمستقبل."[32]
- هذه
المداخلة ألقاها بإيران عقب نجاح الثّورة الإيرانية، ونُشرت آنذاك في كثير من
المجلات مثل الوحدة. *
لوقا: 21 -9.